طرد وتشويه سمعة يحولان دون تبليغ صحافيات عن تعرضهن للتحرش
“لم يخطر ببالي أن يكون متحرشاً، جمعنا العمل ثم أصبحنا أصدقاء بحكم تقاسمنا نفس الآراء، لكن سرعان ما تحولت الصداقة إلى وعاء يصب فيه كبته الجنسي بألفاظ خادشة وميوعة في التغزل بجسدي” تروي سلوى، وهو اسم مستعار لصحافية في العشرينات من عمرها تعمل بأحد المواقع الإلكترونية المرموقة بالرباط.
حاولت سلوى إنهاء علاقة الصداقة والتعاون مع المتحرش الذي يشغل منصب رئيسها في العمل، وحصر الاجتماع معه حول موائد العمل فقط، لكنه رفض ذلك.
تروي سلوى “في آخر مرة جمعتني به محادثة في معزل عن زملائنا في العمل، حاول لمسي، فأبعدت يده بقوة وغادرت. منذ ذلك الحين قررت الانسحاب من علاقة الصداقة، لكنه قابل رفضي لتحرشه بي بالعدوان”.
حينما شعر رئيس سلوى في العمل بتغير تصرفاتها تجاهه، بات يعاملها بأسلوب فظ ويفتقر للمهنية أمام زملائها، عن هذا تروي سلوى قائلة “منذ ذلك الحين وأنا أتعرض لضغط في مقر العمل منه، بدأ يطالبني بإعادة إنتاج المضامين التي أنتجها، بحجة أنها لم ترقه وبأنها غير صالحة للنشر، كما كان أحيانا يوجه لي كلاما قاسيا أمام زملائي خلال اجتماع التحرير”.
بعد سنتين من العمل، لم تستحمل سلوى تعرضها للإهانة لمجرد رفضها الخضوع لتحرشات رئيسها، ففضلت تقديم استقالتها بصمت دون التبليغ عن التحرش. عن سبب ذلك تشرح “لو أخبرت أرباب العمل بما تعرضت له من قبل رئيسي في الخلية سيؤول الأمر بنفس ما آل إليه بل أسوء، قد يعمدون إلى فصلي من العمل ربما بتعويض أو بدون، فهو أقدم مني وأكثر مني تجربة بالمؤسسة، وربما سيذاع صيت أنني شخص يفتعل المشاكل وسترفض باقي المؤسسات تشغيلي”.
ورغم أن سلوى نأت بنفسها عن الشكوى حتى لا يتأثر مستقبلها المهني كصحفية، إلا أن انتقام مديرها السابق لحق بها ليؤذي سمعتها المهنية. فعندما حاولت التقدم لوظائف في مؤسسة إعلامية أخرى، صدمت بما يردده البعض حول كفاءتها. عن هذا تقول “سمعت من بعض الزملاء أن رئيسي السابق يحذر أصدقاءه بالمؤسسات الإعلامية من تشغيلي، بحجة أنني شخص غير ملتزم بتسليم ما يطلب منه، وأدخل في صراعات مجانية”. بعد بحث طويل، تمكنت سلوى أخيراً اليوم من العمل بإحدى الجرائد الإلكترونية الجهوية التي لم تطلها يد مديرها السابق.
حرية التحرش..مصونة
واجهت مريم, ثلاثون سنة، موفقاً مشابهاً لسلوى، ففور التحاقها بعملها السابق كمتدربة بموقع إلكتروني بمسقط رأسها الرباط، حذرها زميل من تجاوزات بعض الزملاء، وتحديداً أحد المسؤولين في المؤسسة، وقال لها “أنت جميلة وترتدين ملابس مكشوفة نوعا ما، وستتعرضين لتحرشه”.
توضح مريم قائلة “أخبرني زميلي أيضاً بأن إحدى الصحافيات التي غادرت قبل التحاقي بمدة قصيرة تعرضت لمضايقات، وطلبات بالخروج في موعد من قبل نفس الشخص المسؤول”. طلبت مريم نصيحة زميلها لتفادي الشخص دون أضرار، فنصحها بعدم الاهتمام بمظهرها “كونه ينجذب لكل وافدة جديدة وجميلة المظهر”، لكن دون جدوى.
تعرضت مريم للتحرش من هذا الشخص، واضطرت لتقديم استقالتها أيضا دون البوح بالسبب الحقيقي “خوفا من أن يلحق ضرر بأسرتي وعلى ما يبدو الجميع هناك يعلم بخصال ذلك المسؤول السيئة لكن لا أحد يجرأ على الحديث أو الانتفاض في وجهه لقربه من أرباب العمل وخبرته الطويلة ب” بحسب قولها.
البعض من هذه المؤسسات لا يتوانى في تحديد قانون داخلي يتضمن الالتزام بأوقات العمل وبلباس محترم وغيرها من البنود التي يعاقب الشغيل أو الشغيلة في حال الإخلال لكن ولا واحدة من هاته المؤسسات سبق وأن جعلت من ضمن قوانينها الداخلية تلك التي تؤطر جريمة التحرش.
الوظيفة.. بمقابل
قبل خمس سنوات وعقب تخرجها من إحدى المعاهد الخاصة للإعلام بالدار البيضاء، باشرت سارة, ابنة السادسة والعشرين ربيعا، البحث عن فرصة عمل، بعد عدّة أشهر اتصل أحد أصدقائها يستأذنها لمنح رقمها لشخص سبق والتقته خلال محفل نظمه معهدها سنة تخرجها، للحديث حول فرصة عمل، تروي سارة “وافقت منحه رقمي بسرعة فبعد عناء ليس بالهين اعتقدت أن الفرصة قد أتت أخيرا”. استقبلت سارة اتصال الشخص وهو مكلف بالتواصل بحزب مغربي، وطالبها بتدبير لقاء لهما للحديث أكثر حول الفرصة فوافقت.
“كان من المقرر أن نلتقي في مقهى لكنه طلب مني الصعود إلى سيارته بحجة أن المقهى المختار يضج بأناس يعرفهم، ولأنه متزوج فقد خاف من أن يسيئ أحدهم الظن به” تحكي سارة.
ركبت سارة السيارة ملاحظة توقف المتحرش بجانب شاطئ البحر “في البداية لم أبدي ردة فعل قاسية فقد أحسنت الظن به لآخر لحظة، لكن الحديث أخذ مجرى آخر وأسئلته كانت عن حياتي الشخصية أكثر من مهاراتي ثم التفت إلي وقال (أنت تعرفين أن لكل شيء مقابل ومنذ أن التقيتك بالمحفل وأنت لا تغادرين بالي أنا مستعد لأمنحك فرصة عملك مقابل أن تكوني عشيقتي) تروي.
حاولت سارة مجاراة الحديث وضبط الأعصاب خوفا من تعرضها للتعنيف وسط مكان خال من البشر ولا تتوفر فيه مساعدة، إلى أن انتهى اللقاء، وعادت أدراجها. تقول سارة “أتذكر أن آثار الصدمة استمرت لأيام بعد اللقاء، لكنني لم أتردد أن أحظر رقمه مباشرة بعد عودتي للبيت…بالطبع لم يعلم أحد بما حصل يومها فلي عائلة أخاف عليها من كلام الناس ومجتمعنا سرعان ما يلقي باللوم على الأنثى فلن يترددو في إلقاء اللوم علي لمجرد موافقتي ركوب سيارته”. لم تخبر سارة أحدا بالحادثة، حتى الصديق الذي لعب دور الوساطة بينهما.
التحرش في الوسط الإعلامي
فوجئت ندى، وهي مراسلة إحدى القنوات الأجنبية بالمغرب، بخبر فصلها من عملها من قبل صاحب الإلكترونية التي كانت تشتغل بها قبل سنة، بحجج مختلفة وغير حقيقية منها مضايقة زملائها وعدم احترامهم، واستخدام ألفاظ نابية في التواصل معهم. تروي ندى “رغبة منه في إذلالي وإخضاعي، مارس علي رب عملي كثيرا من الضغط لرفضي الانصياع لتحرشه بي، وبعدما لاحظ مقاومتي له، طردني تعسفيا”.
خلال مدة قصيرة استطاعت ندى الاشتغال كمراسلة بالرباط لإحدى المحطات الدولية، ورغم ذلك مازالت تتكتم على فعل التحرش اللفظي الذي تعرضت له مرارا وتكرارا من قبل رئيسها السابق خوفا من أن يؤثر عليها الأمر في عملها الحالي، أو أن ينعكس سلبا على حياتها الأسرية. عن هذا تقول “لم أستطع إبداء أية رد فعل تجاه ما فعله، فمع الأسف نحن نعيش في مجتمع لا يحترم المرأة ويهينها بشتى الطرق، فحتى عندما تكون ضحية تحرش، تتعرض لمضايقات لا تنتهي”.
وتجمع العديد من الصحافيات المغربيات على كون اشتغالهن في الوسط الإعلامي تطلب منهن الصمود في وجه تصرفات غير لائقة في مقدمتها تحرش رؤسائهن بهن، وخاصة الابتزاز واستغلال الوافدات الجديدات على المجال. فما الذي يجعل مهنة الصحافة في مهب هذه الجرائم؟
يرى الباحث في مجال القانون يونس مسكين أن مجال الحقل الإعلامي بانفتاحه على عوالم ومجالات مختلفة، “يدفع بالصحافية إلى الاحتكاك بالكثير من الأشخاص في سياق يتسم بتعارض المصالح والوظيفة الرقابية للصحافة تجاه المسؤولين والحائزين على السلطة، ما يعرضها بشكل خاص لمخاطر وتهديدات جديدة”.
هذا الطابع “الصراعي” لمهنة الصحافة كما يصفه مسكين، يجعل التحرش من بين الأسلحة التي توظف ضد الصحافيات لمحاولة منعهن من القيام بمهامهن باستقلالية وتجرد.
حكايات سلوى ومريم وسارة وندى ليست بغريبة ضمن الأوساط الإعلامية المغربية، إذ بينّت دراسة قامت بها هيئة الصحافيات الشابات المنبثقة عن المنتدى المغربي للصحافيين الشباب بأن 40٪ من الصحافيات يتعرضن للتحرش في أوساط عملهن. وشاركت ست وستون امرأة من الوسط الإعلامي في هذه الدارسة، 74٪ منهن صحافيات مهنيات.
عن هذه الدراسة تقول القائمة عليها ماجدة ايت الكتاوي: “حرصنا خلال تجميعنا للإحصائيات على ترك الحرية الكاملة للمشاركات للتعبير بعيدا عن ممارسة الوصاية والرقابة عليهن وحماية لهن مما قد يتعرضن له من تبعات”.
وعن أسباب رفض النسبة الأعظم المشاركة في الدراسة تقول آيت الكتاوي “لم نرصد أسبابا مباشرة لعدم تفاعل باقي الصحافيات، لكن بالضرورة توجد عوامل تمنعهن من الإفصاح عن تعرضهن للتحرش وذلك يعود لخوفهن من نظرات المجتمع النمطية كباقي النساء، يُضاف إلى ذلك إمكانية فصلهن من العمل ولومهن من طرف أسرهن”.
القانون لا يحمي
حالات التحرش داخل فضاءات العمل بما فيها الوسط الإعلامي باتت تتُداول بشكل أوسع عبر وسائل التواصل الاجتماعي، مما حتّم على المشرع المغربي تأطير هذه الجريمة قانونيا، والحديث عن حماية الصحافيات ضد التحرش الجنسي في العمل.
بهذا الصدد يقول الباحث مسكين “صدر في بداية سنة 2018 القانون رقم 103.13 المتعلق بمحاربة العنف ضد النساء وجاء خصيصا لملء فراغ قانوني كبير وحمل عدة مستجدات، من بينها مساطر خاصة بحماية الضحية المفترضة لعملية التحرش الجنسي، وعلاوة على العقوبة التي تصدرها المحكمة بعد ثبوت الإدانة، يمكنها أن تضيف قيودا جديدة من قبيل منع الجاني من الاتصال بالضحية أو الاقتراب من مكان تواجدها”.
ويعاقب النص القانوني السالف الذكر بالحبس من شهر إلى ستة أشهر من ارتكب جريمة التحرش الجنسي في الفضاءات العمومية أو غيرها، بأفعال أو أقوال أو إشارات ذات طبيعة جنسية أو لأغراض جنسية؛ أو بواسطة رسائل مكتوبة أو هاتفية أو إلكترونية أو تسجيلات أو صور ذات طبيعة جنسية أو لأغراض جنسية.
والعقوبة أكبر إذا كان المُتحرش زميل، يشرح مسكين “ينص هذا القانون على مضاعفة العقوبة إذا كان مرتكب الفعل زميلا، كما يُطرح الإشكال أكثر داخل الوسط المهني الإعلامي، أي في علاقة الصحافيات ببعض الزملاء، خاصة من يتولون مسؤوليات داخل المؤسسات الإعلامية. فهذا النص القانوني، حديث العهد بالصدور، يرفع العقوبة لتتراوح بين ثلاث وخمس سنوات حبسا في حال كان المتحرش ممارس من طرف شخص له سلطة”.
في الوقت نفسه ينفي الباحث القانوني أن تحقق هذه النصوص القانونية الحماية الكافية، ويرجع مسكين ذلك لصعوبة إثبات جريمة التحرش، وعبء الإثبات الذي يقع على الضحية بالنظر إلى قرينة البراءة المكفولة للمتهم. وتزداد صعوبة الإثبات حين يقترن فعل التحرش بالممارسة المهنية، أي حين يتم استغلال موقع المسؤولية لممارسة الضغط والإكراه على الأجيرة.
انتصار للمتحرش
ارتباك الضحايا وعدم معرفة المساطر التي ينبغي اتباعها، يدفعهن إلى التوجه صوب جمعيات تعنى بحماية النساء من العنف الجسدي والجنسي، “سمعي صوتك” هي واحدة من المبادرات التي أسست بهدف البحث عن سبل جديدة لدعم النساء والفتيات ضحايا العنف يقول سفيان السعودي القائم على المبادرة “نشتغل على توسيع المعارف القانونية للضحايا كإطلاعهن على قانون 10313 لحماية النساء من العنف، وطرق التبليغ عن العنف المبني على النوع الاجتماعي كما نقدم المساعدة النفسية لما يقارب 300 ضحية”.
وتوفر المبادرة فضاءا رقميا لضحايا التحرش من مختلف الأعمار والمجالات لإسماع أصواتهن عبر تقنية البودكاست، حيث استقطبت المبادرة ودرّبت قرابة 250 من النساء حول التصدي للعنف بما فيه الجنسي، كما تم إنتاج أزيد من 50 حلقة بودكاست تروي قصصا لنساء تعرضن للعنف بشتى أنواعه، بحسب السعودي.
من الجمعيات التي تقدّم الدعم النفسي والقانوني أيضاً جمعية اتحاد العمل النسوي، التي يركز عملها على مواجهة المتحرش، بهذا الصدد تقول حكيمة الشرقني مسؤولة في الجمعية “لدينا العديد من الملفات لوضعيات تحرش منها تحرش لفظي وجسدي بمقرات العمل والضحايا من الإناث من مختلف الأعمار منهن المتزوجات واللواتي واجهن الطلاق بسبب تعرضهن للتحرش”.
وتوفر الجمعية محامية للترافع عن قضايا التحرش، كما تقدم وسائل أنجع لمواجهة رب العمل المتحرش دون ترك العمل. لكن ذلك لا يُثمر دائماً، فبحسب الشرقاوي “كل القضايا التي ترافعنا بخصوصها باءت بالفشل بسبب انعدام الشهود، رغم أن أغلب الحالات يستحيل توفر شهود فيها لأن المتحرش يتعمد التربص بالضحية في مكان خال من أجهزة المراقبة ومن الناس، وبهذا ينتهي المطاف بانتصار المتحرش على ضحيته”.
رغم ذلك تسعى عدد من المؤسسات بما فيها شبكة انترنيوز والمنتدى المغربي للصحافيين الشباب إلى إعطاء دفعة للصحافيات المغربيات عن طريق الدفاع على قضاياهن المتعلقة بالتمييز النوعي والرفع من الأجور وطبيعة المهام التي توكل إليهن…
المصدر: العمق المغربي