يعتبر الخطاب الدعوي ركيزة أساسية من ركائز الحقل الديني بالمغرب، نظرًا للدور المهم الذي يفترض أن يلعبه في سبيل نشر الوعي والثقافة الإسلامية لدى المواطنين.
تقوم الوزارة الوصية على القطاع بمجهود لا بأس به في النهوض بالشأن الديني وجعله مواكبًا لمتطلبات العصر وملبيًا لحاجيات الناس الروحية والسلوكية، غير أن المشهد الدعوي على مستوى الخطاب والتواصل والتأثير ما زال يعاني ضعف المردودية، وينقصه الكثير من إجراءات الإصلاح لبلوغ المستوى المطلوب.
من أهم أسباب هذا الضعف في نظري غياب قنوات إعلامية تلفزية متخصصة في برامج الفتوى والتوعية الدينية، بشكل يمزج بين الاحتراف المهني التقني والحضور المتميز لشخصيات كاريزمية مؤثرة ومسموعة الكلمة.
القناة المغربية الوحيدة (قناة محمد السادس للقرآن الكريم) التي تشرف وزارة الأوقاف على إدارتها، لا ترقى لمنافسة المنابر الإعلامية التلفزية الأخرى في المجال نفسه، وتبقى خيارًا محدودًا وغير مرغوب فيه أحيانًا عند فئات عريضة من جمهور المتابعين، خاصة الشباب وأصحاب المستوى التعليمي العالي أو حتى المتوسط، خصوصًا وأن هناك “إعلامًا إسلاميًا” يصدر من الشرق (مصر والخليج العربي تحديدًا) يقدم منتجًا دينيًا “جذابًا” ينوع عرضه، ويستغل الصورة والصوت وكل تقنيات مجال السمعي البصري ليسوق لبرامجه ويجلب انتباه ملايين المشاهدين، مما يجعل حظوظ القناة المغربية الوحيدة هزيلةً إن لم تكن منعدمةً أصلاً، وهو الأمر الذي يعكسه إقبال جمهور مغربي كبير على متابعة تلك القنوات واعتماد محتوياتها الدينية في أخذ الفتوى والعمل بمقتضياتها، دون الرجوع لدعاة وعلماء المغرب في الشريعة والفقه…
من ضمن الأسباب أيضًا، محدودية تكوين الفقهاء والوعاظ وخطباء الجمعة المغاربة في تقنيات التواصل وتبليغ الرسالة الدينية للمتلقي، بما تمليه تطورات العصر والتكنولوجيا الرقمية الحديثة، فمعظم هؤلاء لا يستفيد من وسائل التواصل الاجتماعي في نيل اهتمام الناس وتبسيط البلاغ الدعوي بشكل يناسب كل شرائح المجتمع، ويربط صلتهم الروحية بواقعهم ومعيشهم اليومي..
وللأسف، حتى الوزارة المعنية بالشأن لا تراهن على هذا الباب ولا توليه أهمية قصوى، رغم أنه واقع لا بد من التعامل معه وخوض غماره…
وإذا نظرنا إلى نماذج الدعاة المغاربة المؤهلين الذين يقدمون محتويات دينية عبر وسائط التواصل، سنجد عددهم قليل جدًا لا يعدو رؤوس الأصابع، ويشتغلون بشكل فردي، بينما يركن آخرون في دروسهم ووعظهم إلى خطاب نخبوي موجه لطلبة العلم الشرعي والمهتمين فقط، ولا يراعي أفهام العامة وبساطة مداركهم وتنوع مشاربهم.
أيضًا، غياب رؤية واضحة ومقاربة شمولية لدى المسؤولين لمواكبة تحديات الوقت في إنشاء نهج توعوي تبليغي دعوي مقبول، يتفق والهوية الثقافية والتاريخية للمغاربة من جهة، كما يلامس هموم المواطنين المسلمين ويغطي احتياجاتهم المعرفية في هذا الباب من جهة أخرى.
برغم المحاولات الرسمية لتنزيل خطط الإصلاح، مثل خطة “تسديد التبليغ” التي أطلقتها الوزارة قبل شهور، والتي ترمي إلى تعزيز القيم الدينية والأخلاقية بما يحقق سعادة الناس الدنيوية وفلاحهم الأخروي (حسب ما جاء في بلاغ الوزارة)، يصعب الحكم على الخطة بالنجاح أو الفشل قبل أن نرى ثمارها بعد حين، لكن لاحظنا أن إجراء توحيد خطبة الجمعة على المستوى الوطني خلف ردود أفعال متباينة لدى المتتبعين والباحثين في الشأن الديني، حيث اعتبره البعض تضييقًا على حرية التعبير والكلمة، ورآه البعض الآخر تكريسًا واعترافًا ضمنيًا بهزالة مستوى خطباء الجمعة، عوض السعي لوضع معايير أكثر انتقائية في اختيار من يقوم بالمهمة ويقف على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، مما يطرح سؤالاً آخر يتعلق بمدى جدوى المجالس العلمية في التأطير والتوعية وإصدار الفتاوى الشرعية المتعلقة بأحوال الناس والانفتاح عليهم، سيما وأن فئة مهمة من المغاربة لا تعلم أصلاً بوجود تلك المجالس، مما يعكس حقيقة مشكل التواصل الذي أشرنا إليه سابقًا.
وبالرغم أيضًا من أن معهد محمد السادس لتكوين الأئمة المرشدين والمرشدات قد فتح أبوابه بالرباط منذ أكثر من عشر سنوات لتأهيل أئمة حاملين لشهادات جامعية، إلا أن الواقع يعرف غيابًا شبه تام لهؤلاء الخريجين عن منابر الجمعة، ماعدا تأطيرهم لأئمة المساجد وقيامهم بوظائف مكتبية ليس من المفترض أن تكون أولوية بالنسبة لمهامهم…
ينتج عن ما سبق ضعف مردودية الخطاب الديني، وهجرة الناس للمنابر الدينية الإعلامية في المشرق العربي، فضلاً عن احتمال استيراد أفكار متطرفة والتأثر بها، أو أخذ فتاوى لا تناسب أحوال البلد وظروفه.
لذلك، فإجراءات النهوض بمجال الدعوة و”تسديد” التبليغ تقتضي الاشتغال على الجانب الإعلامي بشكل أساسي وكبير، سواء الإعلام المتلفز أو البديل المتمثل في الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، والاستفادة من التقنيات الحديثة في هذا المجال، فضلاً عن الاستعانة بالإعلاميين المتخصصين والوجوه المعروفة في الساحة الدعوية والعلمية الشرعية لسهولة الوصول إلى الجماهير.
من جهة أخرى، يبقى إشراك أساتذة المؤسسات التعليمية، سواء على مستوى التعليم العالي في الدراسات الإسلامية والشريعة، وأيضًا على مستوى الثانويات التأهيلية والتعليم العتيق وغيرها من المؤسسات المعنية بتدريس القيم والتربية الإسلامية داخل وخارج الوطن، وتفعيل أنشطة علمية ملموسة ترمي إلى خلق جسور التواصل الديني مع عموم الناس، أيضًا عاملاً أساسًا ومهمًا في إثراء مناهج الدعوة وتحسين خطابها، واستدرار نتائج أكثر إيجابية وفاعلية في المجتمع.
المصدر: هسبريس