صناعة الأرگان.. ثورة اقتصادية ناعمة تقوم على سواعد نساء التعاونيات
منذ التحاقها بنظيراتها من نساء القرية اللواتي يشتغلن في إنتاج زيت الأرگان ومشتقاته في تعاونية محلية ضواحي مدينة الصويرة، تحسّنت ظروف حياة خدوج وتغيَّر وضعها الاجتماعي والاقتصادي نحو الأفضل؛ حيث صار لها دخْل قار يمكّنها من تلبية حاجياتها والمساهمة في إعالة أسرتها، وأصبحت فاعلة في التنمية المحلية بقريتها رغم أن عُمرها جاوز عتبة ستة عقود.
تشتغل المرأة الستينية بحيوية داخل تعاونية “مرجانة” لإنتاج زيت الأرگان ومشتقاته، وتقول إنها راضية على وضعيتها الاجتماعية الحالية، مقارنة بحالها في السابق، رغم صعوبة المهمة التي تؤديها وهي كسر حبات الأرگان الصلبة؛ فقبل التحاقها بالتعاونية “كْنا غِير گاعدين مكنديرو والو، حتا سْهّْل الله ودَّار هاد المحل (تقصد التعاونية)، ودبا مرتاحة الحمد الله، كاينة الفلوس، وكبّرنا ولادنا”.
تضع خدوج قطعة الحجر المَلساء التي تكسر بها ثمار الأرگان جانبا، لتُفسح المجال لأصابع يديها المزيّنة بالحناء لتَعُدّ عليها المدن المغربية التي زارتها في إطار مشاركة التعاونية التي تشتغل فيها في عدد من المعارض الوطنية، قائلة: “تْسارينا، وما خلينا تا بلاد، السعيدية، مراكش، أكادير، الدار البيضاء…”.
أطلقت زغرودة ثم أضافت بروح مرِحة كأنها طفلة تروي قصة نجاحها قائلة: “قْبل مانخدم كنت غير گاعدة فالدار، كنعجن وندِّي الخبز للفران، وندير الشغل، ونصبّن، ودبا حْنا بخير وعلى خير، تْبرّعنا ودْرنا الحوايج تبارك الله وقادّينا ديورنا”.
هناك، في مختلف مناطق المغرب المعروفة بإنتاج زيت الأرگان، توجد آلافٌ من النساء مثل فاطمة، فتَح لهنّ انضمامهنّ إلى التعاونيات النسائية المجالَ لتخطّي الوضعية الاجتماعية المحدودة التي كانت تطوّق مجال نشاطهن قبل ولوجهن سوق الشغل، وأصبحن اليوم فاعلات نشطات في المجتمع، ومساهِمات في التنمية المحلية بشكل أكبر.
هذا المُعطى أكدته جميلة بوريك، رئيسة تعاونية “أشبار نزربان” في جماعة بونعمان بإقليم تيزنيت، التي تأسست سنة 2008 وباشرت عملها بشكل رسمي سنة 2010، بقولها في حديث لهسبريس: “النساء العاملات في التعاونية يشعرن الآن بأن حياتهن أصبح لها معنى”.
أوضحت بوريك أكثر ما قصدته بكلامها هو: “عندما يصير للمرأة دخْل مادي تشعر باكتفاء ذاتي؛ قد لا يكون دخْل النساء اللواتي يشتغلن في تعاونيات إنتاج الأرگان كافيا لتلبية كل حاجياتهن المادية، ولكنه يجعلهن يشعرن بأنّ تقديرَ أفراد أسرهن لهن ازداد، لأنهن لم يعدن يعتمدن على أزواجهن في الجانب المادي، بل أصبحن مساهمات في إعالة أسرهن إلى جانب أزواجهن”.
نساء كاسراتٌ لحبات الأرگان ولقيود المجتمع
لم يكن الطريق الذي ولجتْ عبره النساء القاطنات في العالم القروي العاملاتُ في تعاونيات إنتاج زيت الأرگان ومشتقاته سوقَ الشغل مفروشا بالورود، بل كان محفوفا بصعوبات شتّى، ذلك أن خروج المرأة القروية إلى مجال العمل المنظم تطلَّب كسْر الكثير من القيود، في مقدمتها البنية الثقافية التقليدية التي ترى أن “المكان الطبيعي” للمرأة هو بيتها، وصولا إلى العائق المتعلق بالأمية المنتشرة بشكل أكبر في صفوف النساء القرويات مقارنة بنظيراتهن القاطنات في الوسط الحضري.
انطلقت التعاونية التي ترْأسها جميلة بوريك بتكتّل من 27 امرأة. يبدو العدد مهما لكن جمْعه لم يكن بالأمر السهل في البداية، وأكدت بوريك ذلك بالقول في حديث لهسبريس: “لم تكن الانطلاقة سهلة أبدا، صحيح أننا تبنّينا فكرة إنشاء التعاونية بسرعة لأننا كنّا جاراتٍ نعرف بعضنا جيدا، ولكن بلْورتها وتنفيذها على أرض الواقع كان صعبا، ففي ذلك الوقت (2008)، كان من الصعب أن تخرج المرأة القروية في المنطقة التي نقطن فيها إلى العمل، وكانت هناك مقاومة من طرف الرجال”.
وأضافت: “العائق الأكبر الذي واجَهنا هو أن الثقافة السائدة في منطقتنا جعلت الفضاء الخارجي حكرا على الرجل، وقد قاوم الرجال في البداية فكرة خروج زوجاتهم إلى العمل في التعاونية، لأن ذلك، في رأيهم، سيصرفهن عن القيام بأشغال بيوتهن، أما أن تذهب المرأة إلى المَعارض المُقامة في المدن فقد كان ذلك في حكم المستحيل في ذلك الوقت”.
وعزت حنان حمودة، أستاذة علم الاجتماع بجامعة محمد الخامس بالرباط، سبب الرفض الذي كان يُجابَه به خروج المرأة القاطنة في العالم القروي إلى مجال العمل، إلى “البنيات الذهنية التقليدية المتّصلة بعدد من القيم القديمة التي يتوارثها الناس جيلا بعد جيل، ويُربّون عليها الأجيال الصاعدة”، مشيرة، في حديث لهسبريس، إلى أن هذه البنيات التقليدية موجودة أيضا في المجال الحضري، لكن بشكل أقلّ حدة.
وأردفت: “قبل ثلاثين سنة من الآن، كان تفكير المرأة القاطنة في العالم القروي في الولوج إلى المجالات الاقتصادية والتجارية من الطابوهات والممنوعات، لأن السياق الثقافي والاجتماعي السائد آنذاك يحول دون ذلك، والضمير الجمعي لا يقبل ولوج المرأة إلى المجال العام الذي كان خاصا بالرجل”.
حاليا، لم يعد خروج المرأة القروية إلى العمل في تعاونيات الأرگان “عيْبا”، فقد أفضى إصرار النساء على أن يكون لهنّ موطئ قدم في سوق الشغل، وأن يساهمن في التنمية إلى جانب الرجال، إلى كسْر جميع القيود التي كانت تكبّلهن في السابق، ويؤّكد ذلك ارتفاع عدد التعاونيات المشتغلات في هذا المجال سنة بعد أخرى، حيث وصل إلى 799 تعاونية، بحسب المعطيات التي حصلت عليها هسبريس من الوكالة الوطنية لتنمية مناطق الواحات وشجر الأرگان.
دخل مادي ورأسمال معنوي
تحرير النساء القاطنات في المجال القروي حيث يتواجد الأرگان من القيود المجتمعية التي ظلّت تكبلهنّ لعقود بفضل التعاونيات، لم تقتصر ثمارُه عليهن فقط، بل عمت أسرهن عامة، وأبناءهن بشكل خاص، لاسيما الإناث اللواتي كنّ ينقطعن عن الدراسة لأسباب متعددة، منها ما هو اقتصادي وثقافي.
وهكذا فقد وفّر العمل للنساء المشتغلات في تعاونيات صناعة الأرگان دخْلا مكنهنّ من تحسين الوضعية الاقتصادية لأسرهنّ، في حين إن ولوجهن إلى سوق الشغل، ومواجهة تحدّياته، حفّزهن على تشجيع بناتهن على الدراسة حتى يتجنّبن العقبات التي واجهْنها هنّ في هذا المضمار.
أكدت جميلة بوريك ذلك بقولها: “أغلب النساء اللواتي انخرطن في تعاونيتنا عند تأسيسها كنَّ أمّيات، وشكّل ذلك لهن عائقا في البداية، فحتى عند تلفيف القوارير أو الصناديق التي نعبّئ فيها منتجاتنا تحتاج المرأة إلى معرفة القراءة لتفهم ما هو مكتوب على البطائق التعريفية (Les tickets)، وتحتاج إلى معرفة الحساب عندما تزن كمّية الثمار التي جهّزتها، وقد اضطرت نساء إلى الانسحاب تلافيا للصعوبات المرتبطة بإعداد الوثائق في الجماعة لأنهن غير متعلّمات”، مضيفة: “عندما تعيش المرأة هذه المعاناة، فإنها تقول في قرارة نفسها: لا أريد أن تكون ابنتي مثلي، ولا بد أن أشجعها على الدراسة”.
هذا الطرح أكدته أستاذة علم الاجتماع حنان حمودة، ففي المجال القروي، تشرح المتحدثة، لا تستفيد المرأة لوحدها من الدخل الذي تجنيه، بل يتم ضخه في مالية الأسرة من أجل تلبية حاجياتها، حتى وإن كانت للأسرة موارد مالية أخرى، لافتة إلى أن المدخول الإضافي للمرأة القروية ساهم في إكمال الأطفال لدراستهم، لا سيما وأنه في المناطق القروية يضطر الناس إلى إرسال أبنائهم إلى المدن من أجل استكمال تعليمهم في المراحل الثانوية، مع ما يتطلب ذلك من مصاريف إضافية.
وبحسب الإحصائيات الرسمية الصادرة عن المندوبية السامية للتخطيط سنة 2021، فإن 39.2 في المئة فقط من الفتيات بين 15 و17 عاما يلتحقن بالمدرسة في العالم القروي، مقابل 50.5 في المئة من الفتيان.
واستنادا إلى المصدر نفسه، فإن نسبة الأمية في صفوف النساء تصل إلى 46 في المئة، ويرتفع هذا المعدل بشكل خاص في المناطق القروية بالنسبة للنساء في سن 50 سنة وما فوق.
وإذا كانت تعاونيات صناعة الأرگان هي في الأساس فضاءات للعمل، فإن المنخرطات فيها يستفدن أيضا من أنشطة موازية، كدروس محو الأمية، أو تعلم اللغات بالنسبة للواتي لديهن مستوى تعليمي معين، وهو ما مكّن من خفض نسبة الأمية في صفوف النساء القرويات في المناطق التي توجد بها هذه التعاونيات بشكل كبير، “إلى حد أننا لم نعد نجد نساء أميات لتسجيلهن في الدروس التي نقدمها”، تقول جميلة بوريك.
وأوضحت أن تعاونيات صناعة الأرگان لم تمكّن فقط من إدماج النساء القرويات في سوق الشغل، وبالتالي تحقيق التمكين الاقتصادي لهن، إضافة إلى محاربة الأمية في صفوفهن، بل ساعد انخراطهن في التعاونيات على تطوير أسلوب حياتهن، قائلة: “حتى الطريقة التي يفرشْن بها بيوتهن اليوم أصبحت مختلفة عن السابق”.
وما زال التمكين الاقتصادي للمرأة في المغرب ضعيفا، إذ لا يتعدى معدل نشاط النساء في المجال الاقتصادي 21 في المئة، مقابل 69.9 في المئة للرجال، أي إن أكثر من 8 من كل 10 نساء خارج سوق الشغل، بحسب إحصائيات للمندوبية السامية للتخطيط صدرت بمناسبة اليوم العالمي للمرأة سنة 2021، وهو ما يعكس أهمية الدور الذي تلعبه التعاونيات النسائية في تحسين الوضعية الاقتصادية للنساء القاطنات في المناطق القروية.
ويشكّل قطاع الفلاحة، الغابة، والصيد، المشغّل الأول للنساء بنسبة 44.8 في المئة، بينما تسعى الحكومة الحالية إلى رفع نسبة انخراط النساء في سوق الشغل إلى 30 في المئة في أفق 2026.
مؤشر آخر يؤكد محورية الدور الذي تلعبه التعاونيات في تحسين الوضعية الاقتصادية للمرأة القروية، ومن ثمّ وضعية أسرهن بشكل عام، يتمثل في كون 26 في المئة من الأسر المغربية تعيلها النساء، بحسب إحصائيات المندوبية السامية للتخطيط.
وعلى أهمّية الجانب المادي، فإن رئيسة تعاونية “أشبار نزربان” ترى أن هناك جانبا آخر على الدرجة نفسها من الأهمية أو أكبر، هو الجانب المعنوي، ففي السابق، تشرح المتحدثة: “كانت المرأة القروية تقضي أغلب وقتها في إنجاز أشغال البيت، أو تقوم بعمل في الخارج لا تنال مقابله أي تعويض، وتعيش في روتين يومي يجعلها عُرضة للاكتئاب. أما الآن، فقد أصبح للنساء اللواتي يشتغلن في التعاونيات دافع للعيش، ومكان يمكنهنّ من التخلص من الطاقة السلبية، ويشعرن بأن حياتهن أصبح لها معنى”.
تحليل سوسيولوجي لعوائق التمكين الاقتصادي للنساء القرويات
أكدت حنان حمودة أن التعاونيات النسائية أسهمت بشكل كبير في كسر القيود الثقافية التي تكبّل المرأة وتحول دون ولوجها إلى سوق الشغل، وساهمت في هذه الدينامية أيضا عدد من المتغيرات، “لكنّ التغيير المحقق يسير بوتيرة بطيئة، لكونه يجري في سياق مجالي ما زالت بنْياته الاجتماعية، الثقافية والاقتصادية والدينية تقليدية، تمتح من السياق العام لبنية المجتمع المغربي التي هي في الأصل تقليدية”، مضيفة: “حتى في المدينة نجد مؤسسات عصرية، ولكن البنية تقليدية”.
هذا الطرح تزكّيه استشارة مواطِنة حول “مشاركة المرأة في التنمية”، أنجزها المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، إذ جاء في صدارة العقبات التي رأى المشاركون في الاستشارة (75.14 في المئة منهم نساء)، أن أكثر ما يعيق تمكين المرأة اقتصاديا، هو “استمرار هيمنة العقلية الذكورية في التعامل مع المرأة”، بنسبة 70.66 في المئة من الآراء، يليها مختلف أشكال التمييز في البيئة المهنية، بنسبة 51.38 في المئة من الآراء، وصعوبة الحصول على التعليم والتكوين بنسبة 43.39 في المئة من الآراء.
وشرحت حنان حمودة أن هناك متغيرات أخرى ساهمت في كسر الحواجز التي كانت تعترض ولوج المرأة القاطنة في العالم القروي إلى المجالات الاقتصادية الجديدة، وإلى المجال العام الذي كان حكرا على الرجل، في مقدمتها التحاق الفتاة القروية بالمدرسة، وإكمالها تعليمها، ولو أنه من الناحية الإحصائية ما زالت هناك فوارق كبيرة بين الفتاة القاطنة في العالم القروي ونظيرتها في المجال الحضري.
ولعب النشاط السياحي أيضا دورا كبيرا في خلخلة “البنيات التقليدية” للمجتمع المغربي في علاقةٍ بالتمثلات السائدة إزاء المرأة، خصوصا السياحة الأجنبية، “فحين تكون هناك منشأة سياحية داخل فضاء تقليدي/مغلق، فإن السائح الأجنبي، وحتى الوطني، يأتي بقيَم جديدة وافدة على ذلك المجال، على مستوى التفكير العام، ومن ثم يحدث التغيير في البنيات التقليدية وعلى مستوى التمثلاث، رغم أن وتيرة التغيير بطيئة”، بتعبير حمودي.
وأوضحت أن التكنولوجيات الحديثة وتوسُّع نطاق استعمال الأنترنت، وكهربة العالم القروي وما واكبه من دخول لأدوات جديدة تساهم بشكل كبير في التنشئة الاجتماعية ونقل القيم، وتساهم في تغيير السلوك في إطار عملية “التثاقف”، أي انفتاح الثقافة المحلية على نماذج ثقافية أخرى، داخل وخارج المغرب، من العوامل الأساسية التي ساهمت بدورها في تغيير موقع المرأة في العالم القروي.
النُّدرة و”مُول الشّكارة” يهددان استقرار التعاونيات
خلال السنوات الثلاث الأخيرة، ارتفع سعر زيت الأرگان إلى مستويات تاريخية، بسبب ارتفاع المادة الأولية في السوق بسبب نُدرتها نتيجة عوامل مختلفة، وأصبح هذا العامل يشكل تهديدا لوجود التعاونيات المشتغلة في هذا المجال، وهو ما أكدته رقية أفروش، من تعاونية “تايتماتين” لإنتاج الأرگان في حديث لهسبريس، حيث أشارت إلى أن التعاونية تجد صعوبة كبيرة في توفير المادة الأولية، بسبب ارتفاع سعرها الذي وصل إلى 12 درهما للكيلوغرام.
وأوضحت أن التعاونية التي تنتمي إليها، والتي تأسست قبل سنتين فقط، لا تستفيد من أي دعم، ما يجعلها غير قادرة على توفير السيولة المالية الكافية لشراء المادة الأولية، مضيفة: “حتى إذا وفّرنا المادة الأولية، فإن الأسعار الحالية لا تشجع على ترويج منتجاتنا، لا سيما وأننا بالكاد وضعنا قدَمنا الأولى في السوق، فعندما يجد الزبون أن سعر اللتر من زيت الأرگان وصل إلى خمسمائة درهم، فإن ذلك يصرفه عن الشراء”.
مخاوف التعاونيات من تداعيات ارتفاع سعر المادة الأولية أكدتها أيضا زهرة أوماست، نائبة رئيسة تعاونية “تيزراتين” باشتوكة آيت بها، بقولها: “الغلاء قلّص مداخيلنا بشكل كبير، وتقريبا لم نعد نربح شيئا”.
وتشكل ندرة المادة الأولية، بسبب الجفاف وعوامل أخرى، وما تبعها من ارتفاع غير مسبوق في سعرها، الهمّ المشترك بين جميع تعاونيات إنتاج الأرگان ومشتقاته، كما أن التهديد الذي تطرحه نُدرة المادة لا يطال فقط التعاونيات الصغيرة بل الكبيرة أيضا.
وسط مجال غابوي يعجّ بأشجار الأرگان، يوجد مقر تعاونية “تيغانيمين” في جماعة الدرارگة نواحي مدينة أگادير. وبالرغم من ذلك، فإن هذه التعاونية الكبيرة، التي توجه منتوجها بالأساس إلى التصدير، تعاني بدورها من مشكل ندرة المادة الأولية، ما أثّر على نشاطها، بل فقدت أغلب زبائنها في الخارج لهذا السبب.
“قبل ارتفاع سعر المادة الأولية، كنا نتعامل مع عشرة زبائن في الخارج، أما الآن فإننا لم نعد نوفّر حتى مصاريف تسيير التعاونية وأداء أجور النساء العاملات معنا، تقول رئيسة تعاونية “تيغانمين”، ندية الفاطمي، لهسبريس.
داخل مقر التعاونية المذكورة، تنكبّ نساء على تقشير وكسر حبات الأرگان، لكن المنتوج الذي يُنتجنه الآن لم يعد يجد طريقه إلى الأسواق الخارجية بالسلاسة نفسها التي كانت في السابق، بعدما انسحب تسعة من زبائنها، “لأنهم لا يريدون أن يدفعوا ثمنا أكثر”، بحسب الفاطمي.
لا يرجع سبب ندرة المادة الأولية إلى الجفاف فقط، بل هناك أسباب أخرى، كالرعي الجائر، والوسطاء المحتكرين للسوق، الذين يعمدون إلى شراء ثمار الأرگان من أهالي المناطق التي يوجد بها بالجملة، ويحتفظون بها إلى أن تندر في السوق ويبيعونها بالسعر الذي يحددونه.
ويشكل الوسطاء تهديدا لوجود تعاونيات إنتاج الأرگان ومشتقاته، لا سيما الفتيّة منها، ذلك أن تحكّمهم في السوق لا يؤدي فقط إلى ارتفاع سعر المادة الأولية، بل يؤدي أيضا إلى تقليص هامش ربح التعاونيات، وبالتالي صعوبة تحصيل مداخيل كافية لأداء نفقات التسيير، وأداء أجور النساء العاملات بها، كما أكدت ذلك رقية أفروش.
ويُعتبر احتكار الوسطاء، أو “مّالين الشكارة” كما يُسمون، هاجسا يؤرق تعاونيات إنتاج الأرگان، صغيرها وكبيرها، وهمّا تتقاسمه النساء العاملات في هذه التعاونيات، حيث أكدت جميلة بوريك بدورها أن “مالين الشكارة يربحون أكثر”، غير أنها حمّلت التعاونيات أيضا نصيبا من المسؤولية، بسبب عدم قدرتها على تشكيل تكتلات لتعزيز قوّتها في السوق.
وأضافت: “هُم (تقصد الوسطاء) يشترون ثمار الأرگان وهي لا تزال في الشجرة، (أي قبل جنيها)، ما يخوّل لهم التحكم في السوق والبيع بالسعر الذي يحددونه، ولكن لو كان هناك اتحاد بين التعاونيات فإن ذلك سيمكننا من شراء المادة الأولية بكميات كبيرة، وبالتالي بسعر أقل، أما الآن فإننا نضطر إلى شرائها من الوسطاء بالسعر الذي يحددونه هم، وهذا يؤدي إلى تضاؤل هامش الربح الذي نجنيه”.
وتُعتبر المنافسة غير الشريفة أيضا من العوامل المؤثرة سلبا على التعاونيات، بحيث يبيع بعض التجار زيتا غير ذي جودة بثمن أرخص من الذي تبيع به التعاونيات منتجاتها.
“كثير من الزبائن ينظرون فقط إلى الثمن، ويفضلون شراء الزيت الرخيص، دون أن ينتهبوا إلى أن ارتفاع سعر الزيت الذي نبيعه نحن راجع إلى جودته العالية”، تقول رقية أفروش.
إنتاج الأرگان في أرقام
يُقدّر إنتاج المغرب من زيت الأرگان بـ5600 طن في السنة العادية، وبلغ إجمالي الصادرات خلال سنة 2022 ما مجموعه 950 طنا، بينما وصل حجم التسويق الداخلي، خلال السنة نفسها، إلى 1000 طن، بحسب المعطيات الرسمية التي حصلت عليها هسبريس من الوكالة الوطنية لتنمية مناطق الواحات وشجر الأرگان.
ويبلغ عدد التعاونيات المشتغلة في قطاع إنتاج زيت الأرگان ومشتقاته، بحسب المصدر نفسه، 799 تعاونية، كما تنشط في القطاع 660 شركة، إضافة إلى 17 مجموعة ذات النفع الاقتصادي.
وتفيد المعطيات الرسمية الصادرة عن وزارة الفلاحة والصيد البحري والتنمية القروية والمياه والغابات، المتعلقة بسلسلة القيمة للأرگان، بأن المساحة التي تغطيها شجرة الأرگان تزيد عن 830 ألف هكتار، بحجم إنتاج من الفاكهة الجافة يصل إلى 200 ألف طن.
وبلغت مساحة غابة الأرگان التي تم تأهيلها من طرف المندوبية السامية للمياه والغابات ومكافحة التصحر خلال الفترة بين 2011 و2021، ما مجموعه 184.500 هكتار.
وتهدف عملية تأهيل غابات الأرگان إلى النهوض بوضعيتها، من خلال تخليف الأشجار، وتحسين المراعي، وإنجاز عمليات الحد من انجراف التربة، ومنع الرعي، وتهيئة المسالك المؤدية إلى الغابة، وعمليات أخرى…
وفي مجال تنمية الأرگان الفلاحي، فقد تمت زراعة 8882 هكتارا من أراضي الخواص من الفلاحين الصغار، من أصل 10 آلاف هكتار مخصصة لهذا الغرض، منها 2010 هكتارات تم تسليمها للمستفيدين، بحسب المعطيات التي حصلت عليها هسبريس من الوكالة الوطنية لتنمية مناطق الواحات وشجر الأرگان.
ويهدف مخطط التنمية الجديد لسلسة الأرگان، في إطار الاستراتيجية الفلاحية “الجيل الأخضر”، إلى مضاعفة إنتاج زيت الأركان بحلول عام 2030 ليصل إلى 10000 طن، وزيادة معدل تعبئة زيت الأرگان من 20 في المئة إلى 50 في المئة، وتطوير زراعة الأرگان على مساحة تبلغ 50000 هكتار، بالإضافة إلى إعادة تأهيل شجر الأرگان الغابوي على مساحة تقارب 400 ألف هكتار.
الأرگان الفلاحي
الأهمية التي تكتسيها سلسلة الأرگان في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، حيث توفر 7 ملايين يوم عمل، ويصل ذوو الحقوق المستفيدون من الإنتاج إلى 2 مليون شخص، دفعت وزارة الفلاحة والصيد البحري والتنمية القروية والمياه والغابات إلى تسريع وتيرة تخليفها، عبر إنشاء محميات، وتوسيع نطاق غرسها لينتقل حتى إلى خارج “المناطق التاريخية” المعروفة بها.
وشهدت مشاريع تخليف شجرة الأرگان بداية محتشمة عند انطلاقها، حيث اندثرت الشتائل التي تم زرعها، كما عاينت هسبريس في مناطق باشتوكة آيت باها، بسبب غياب تتبع المشاريع المنجزة، غير أن المشاريع التي تم إنجازها خلال السنوات الأخيرة عرفت نجاحا، بحسب محمد أمحضار، صاحب أول ضيعة نموذجية لتخليف شجرة الأرگان، أنشأها منذ سنة 1998 في جماعة الصفاء بإقليم اشتوكة آيت بها.
ولفت المتحدث ذاته إلى أن “مشاريع الغرس التي تشرف عليها وزارة الفلاحة تحظى بالتتبع، ولم تعد المشاكل التي كانت في السابق مطروحة الآن”، مبزرا أم المشاريع الحديثة هي مشاريع مندمجة، إذ لا تقتصر فقط على غرس أشجار الأرگان في المناطق المستهدفة، بل يتم حفر آبار بها، وإنشاء أحواض مائية، من أجل سقي المغروسات الصغيرة التي يتم غرسها بين الأشجار.
التجربة التي خاضها مصطفى أمحضار انطلقت من سؤال: “هل يُمكن أن تنبث شجرة الأرگان إذا زُرعت ثمرتها مباشرة في التربة؟”، وكان بزوغ براعمَ من الثمار التي زرعها، في أول تجربة داخل ضيعته النموذجية، مؤشرا إيجابيا على إمكانية نجاح العملية.
“حينها كنت أقول للمهتمين بزراعة الأرگان إن تخليفه أمر ممكن، وإن الأشجار المستخلفة يمكن أن تعطي الثمار ابتداء من سنتين ونصف إلى خمس سنوات، وكانوا يستغربون، لكنهم عندما يأتون إلى الضيعة التي أنشأتها يكتشفون أن ذلك ممكن”، يقول أمحضار الذي عمّق أبحاثه في هذا المجال في مختبرات كلية العلوم التابعة لجامعة ابن زهر بأكادير.
وأضاف أن تخليف شجرة الأرگان يشكل الآن عماد تكثيف الغطاء الغابوي من هذه الشجرة، وتدارك ما ضاع منها بسبب العوامل المناخية، والشيخوخة، وغيرها من العوامل المهددة لها، كما أن هذا المشروع هو بمثابة ضمانة للمستثمرين لكي يقوّوا استثمارهم في القطاع، لأنه سيمكّن من توفير المادة الأولية.
نجاح التجارب المنجزة في مجال تخليف شجرة الأرگان فنّد الاعتقاد الذي ظل سائدا بأن هذه الشجرة لا يمكن تخليفها؛ ففي ظرف عامين ونصف فقط شرعت الأشجار التي غرسها أمحضار في ضيعته في إعطاء ثمارها، وأكثر من ذلك تم نقل التجربة إلى مناطق بعيدة عن “المناطق التاريخية”، حيث قاد الباحث الجامعي الراحل محمد أمين أفيلال تجربة ناجحة في تافوغالت، نواحي مدينة بركان، على مساحة 170 هكتارا، ومنها نقل فاعلون آخرون التجربة إلى بلدة سنادة بالريف.
معاذ سنادة، الذي خاض ابتداء من سنة 2016 تجربة زراعة الأرگان في الريف، الذي يسود فيه مناخ شبه قاري يتسم بقلة التساقطات المطرية كمناخ المناطق التي يوجد فيها شجر الأرگان بالجنوب، قال في حديث لهسبريس إن التجربة “ناجحة مئة في المئة”، لافتا إلى أن الأشجار التي زرعها “تؤتي ثمارها مثل الأشجار الموجودة في سوس”.
المصدر: هسبريس