البدايات الأولى لفكرة الديمقراطية في التاريخ السياسي، تتجه بنا إلى أثينا، المدينة التي رُفعت فيها رايات الحرية، وتغنّى بها الفلاسفة بوصفها مهد العقد السياسي وولادة مفهوم المواطنة.

أن تلك الديمقراطية لم تكن شاملة بالمعنى الإنساني، فقد انحصرت في فئة محددة من الرجال الأحرار، بينما حُرم العبيد والنساء والأجانب من أي حق سياسي أو مدني، كانت أثينا تتحدث عن الحرية في العلن، لكنها في العمق أسست لنظام طبقي صارم، جعل من شريحة واسعة من الناس مواطنين من الدرجة الثالثة، لا صوت لهم ولا كرامة ولا حق في تقرير مصيرهم.

ذلك المشهد الأثيني القديم، تتكرر بصورة أشد قسوة في تجربة العراق الحديث، تحت دكتاتورية صدام حسين، فقد ابتكر النظام البعثي نموذجاً أكثر مأساوية للمواطنة الناقصة، حين جعل من الإنسان العراقي أداةً في خدمة الحاكم، وليس شريكاً في بناء الدولة، كان المواطن الشيعي، على وجه الخصوص، يُعامل ككائن فائض عن الحاجة، يُستدعى إلى ساحات الحرب متى ما شاء الطاغية، لا بوصفه جنديّاً يدافع عن وطن، بل كوقود يحترق في سبيل بقاء السلطة، ولنا في حرب ايران خير مثال.. لم يكن له الحق في الرأي، ولا في المشاركة، ولا حتى في الحياة!
لم يكن هناك حدود لحزب البعث، فكل شيء كان مباح في سبيل استعباد الشيعة.. حتى تحوّلت المدارس والجامعات إلى ثكنات رقابة، والكلمات إلى تهمٍ بالخيانة، ففي منتصف ثمانينات القرن الماضي، شهدت ثانوية الكاظمية للبنين واحدة من أبشع صور القمع، حين كُتبت على جدار إحدى الشعب الدراسية عبارة “يسقط صدام”، فاستُدعي العشرات من الطلبة الأبرياء، وأُعدم سبعة وثلاثون منهم بلا محاكمة، تحوّل الطباشير الذي كُتب به الحلم إلى رصاص أنهى حياة جيل بأكمله، فقط لأنهم نطقوا بما لا يُقال، كانت تلك اللحظة اختزالا لفلسفة النظام البعثي، الذي أراد أن يصنع من خوف الشيعة هويةً وطنية ومن الصمت عقيدتهم بقاء، لأن حياتهم لم تكن تقاس بالأعوام؟! بل بعدد المرات التي ينجو منها الفرد الشيعي من الموت.. دون أن يسأل عن السبب.

لكن التاريخ لا يرحم الطغاة، فحين انهار تمثال الدكتاتور عام 2003، وبدأت أرجل الشيعي تدوس على رأسه، خرج وجه جديد للعراق، وجهٌ حاول أن يستعيد الإنسان من تحت الركام، لأول مرة بعد عقود من الإبادة، صار المواطن الشيعي يتمتع بحقوقه السياسية والاجتماعية كاملة، شارك في الانتخابات، أسّس الأحزاب، تسلّم المناصب، ونافَس على البعثات الدراسية في أمريكا وبريطانيا، بعد أن كان لا يُسمح له حتى بدخول كلية تُعبّر عن طموحه، صار الشاب الذي كان يُطارد لأنه يكتب “يسقط صدام” على جدار مدرسته، يشتم الحكومة على منصات التواصل، ويكتب بحثا في جامعة أجنبية، عن الديمقراطية وحقوق الإنسان في بلده.

بعد أن كان المواطن الشيعي مقموعا، أصبح صاحب القرار، وتحول من العبودية إلى المواطنة، من أدوات واجساد على مقصلة الجزار إلى صناعة القرار، كل هذه التضحيات لأجل إرساء الديمقراطية، التي كلفت أبناء الخايبة آلاف المقابر الجماعية، فهل سنضيع كنز الديمقراطية، ليستأثر بنا الآخرين؟ أم سنقول لهم بصوت واحد.. ما نضيعها.

المصدر: العمق المغربي

شاركها.