في مدينة مليونية تختنق تحت ركام الهدم، اشتهرت في العقود الأخيرة بثقافة الإسمنت، تبدو المعركة الضروس من أجل رسم “لوحة معمارية” وإعادة الروح لعاصمة تحمل ثقل اقتصاد مملكة من أصل 221 مدينة، حملت شرخا كبيرا اجتماعيا ونفسيا، يكاد في أحيان عديدة أن يتحول إلى احتقان من أجل السكن والعيش.

من المدينة القديمة إلى الحي الحسني، ومن الحي الحسني إلى عين السبع، ومن عين السبع إلى الحي المحمدي، تجري السلطات عمليات هدم مكثفة لتحرير المدينة من المترامين بشكل عشوائي على الأملاك العمومية، حيث تأخذ الجرافات أشكالا من الهدم، إما من أجل تنزيل مساطر نزع الملكية للمنفعة العامة، أو تحطيم العشوائيات بهدف تأهيل المجال الحضري بالمدينة.

ووسط الأحياء الشعبية التي منحت شارة العراقة، والتي تحتفظ جدرانها بشريط طويل من الذكريات وتاريخ العاصمة الاقتصادية قبل الاستعمار وبعده، يتم بشكل سريع، دون توقف، تنزيل القرارات الإدارية وأوامر وزارة الداخلية لنسج صورة المونديال، التي اشتكى منها مئات الأسر التي لا تزال تنتظر شمس الاستفادة من سكن لائق يحفظ كرامتها ويعتقها من تحولات الفصول السنوية الأربعة.

في مواقع مختلفة من الدار البيضاء، يشكو عدد من الأسر من هزالة التعويضات المالية التي تأتي في سياق مسطرة نزع الملكية للمنفعة العامة، حيث تقول فاطمة (اسم مستعار)، التي كانت تقطن بالمدينة القديمة: “طالبنا السلطات في مرات عدة بتحويل القرار إلى مسطرة نزع الملكية من أجل الاستفادة من التعويض المالي”.

وأضافت فاطمة، في حديثها مع جريدة “”، أن “حتى التعويضات المالية الممنوحة في هذا الشق هزيلة، إلى جانب ذلك يأتي الهدم في أوقات تتزامن مع استمرار الموسم الدراسي، ما قد يكون بمثابة فرصة لرفع وتيرة الهدر المدرسي”.

ولجأت مئات الأسر البيضاوية في الشهور الأخيرة إلى المحاكم الإدارية من أجل الرفع من سقف التعويضات أو توقيف قرارات الهدم التي طالت، وستطال، العديد من البنايات السكنية القانونية وأيضا العشوائية في الأيام القليلة القادمة.

نزع الملكية وأحقية التعويض

وفي سياق متصل، أكد محمد الشمسي، المحامي بهيئة الدار البيضاء، أن مسطرة نزع الملكية من أجل المنفعة العامة تخضع لشروط قانونية دقيقة وصارمة، على رأسها الحاجة الملحة للدولة أو إحدى مؤسساتها إلى الاستحواذ على عقار معين لتحقيق مشروع يخدم الصالح العام، مثل تشييد الطرق السيارة أو السكك الحديدية أو الملاعب أو غيرها من المشاريع التنموية الكبرى.

وشدد الشمسي على أن الطابع العمومي للمشروع المزمع تنفيذه يعد شرطا جوهريا في هذه المسطرة، إذ لا يمكن الحديث عن نزع للملكية ما لم يكن المشروع يصب في خدمة عموم المواطنين ويبرر تدخل الدولة في الملكية الخاصة.

وأوضح في تصريح لجريدة “” أن هذه العملية تبدأ بتشكيل لجنة إدارية مكونة من ممثلين عن مختلف السلطات المعنية، وتُناط بها مهمة دراسة العقار محل المسطرة، مضيفا: “تشمل هذه الدراسة معاينة ميدانية للعقار، بالإضافة إلى التحقق من وضعيته القانونية من خلال الاطلاع على الوثائق الرسمية التي تثبت ملكية الأفراد أو الجهات الخاصة للعقار المعني”.

وتابع الشمسي أن هذه اللجنة تقدم عرضا ماليا مقابل التفويت، حيث يعرض على المالك الأصلي للعقار تعويض مالي يمثل القيمة التي قدّرتها اللجنة. وفي حال رفض المالك استلام هذا المبلغ، يتم تحويله إلى “الأملاك المخزنية” بالمنطقة التي يتواجد فيها العقار، ويعتبر هذا الإجراء بمثابة خطوة رسمية تمكن الدولة من حيازة العقار بشكل قانوني.

وأضاف أن المالك الذي يرى أن المبلغ المقترح لا يعكس القيمة الحقيقية لعقاره، يحق له اللجوء إلى المحكمة الإدارية للطعن في مبلغ التعويض والمطالبة برفعه. وهنا، تلعب المحكمة دورا حاسما، إذ تقوم بتعيين خبير محلف لتحديد القيمة الفعلية للعقار، بناء على معايير دقيقة تشمل موقعه، مساحته، طبيعته، والمشاريع المجاورة له.

وأشار الشمسي إلى أنه بمجرد إيداع مبلغ التعويض في حسابات الأملاك المخزنية، يعتبر العقار محل النزاع قد انتقل تلقائيا إلى ملكية الدولة، حتى قبل صدور الحكم القضائي النهائي، ما يتيح للجهات المختصة الشروع في تنفيذ المشروع العمومي دون تأخير.

وأكد أن المحكمة الإدارية، بموجب سلطتها التقديرية، تملك صلاحية تعديل قيمة التعويض، بشرط ألا تقل عن المبلغ الذي حددته اللجنة المختلطة في البداية، مشددا على أنه “لا يجوز بأي حال أن تصدر المحكمة حكما بتعويض أقل مما تم اقتراحه مبدئيا، وذلك لضمان حد أدنى من الحماية لحقوق الملاك”.

وفي سياق متصل، أوضح الشمسي أن موضوع هدم البنايات يجب التعامل معه بتمييز دقيق بين حالتين رئيسيتين. الحالة الأولى تتعلق بالبنايات العشوائية أو غير المرخصة، وهي بنايات أُقيمت خارج الإطار القانوني والتخطيطي للمدن، وبالتالي فإن القانون لا يوفر الحماية لها، ولا يعد هدمها انتهاكا للحقوق، بل إجراء قانونيا لتصحيح وضع غير مشروع.

أما الحالة الثانية، بحسب الشمسي، فتتعلق بالتجمعات السكنية القانونية أو التي توجد في طور التسوية، وهنا يستحيل على السلطات أن تقوم بهدمها بشكل تعسفي أو دون دراسة الملفات حالة بحالة، مشددا على أن الإدارة لا يمكنها، قانونا أو واقعا، أن تهدم ممتلكات المواطنين دون سند قانوني واضح أو دون تعويض مناسب وعادل.

وأكد المتحدث على أهمية التوازن بين حق الدولة في إنجاز مشاريعها التنموية، وحق الأفراد في التملك والتعويض العادل عند نزع الملكية، مشددا على أن القضاء الإداري يشكل الضمانة الأساسية لحماية هذا التوازن وتحقيق العدالة.

مواقيت الهدم وغياب التشاركية

من جهته، أكد يونس ريتب، منسق تنسيقية ضحايا قرارات الهدم بالمدينة القديمة، أن سلسلة عمليات الهدم التي تشهدها جهة الدار البيضاء سطات تندرج ضمن جهود الدولة لتأهيل المجال الحضري وتحديث البنية التحتية للمدينة، وهو مسار مطلوب وضروري لتحقيق التنمية الحضرية.

غير أنه في المقابل، أشار إلى أن هذه العمليات أثارت موجة من الانتقادات والجدل، خصوصا في ما يتعلق بكيفية تعويض السكان المتضررين والتعامل مع وضعياتهم الاجتماعية الصعبة.

وأوضح ريتب، في تصريح خص به جريدة “”، أن واحدة من أبرز الإشكاليات التي تواجه هذه العملية تكمن في غياب جدولة زمنية واضحة ومرنة لعملية الهدم.

وأضاف أن توقيت تنفيذ الهدم في فترات حساسة، مثل فترة الامتحانات الإشهادية، يزيد من معاناة الأسر، خاصة أن أغلب المتضررين لديهم أبناء يتابعون دراستهم في مستويات حاسمة، ما يهدد استقرارهم النفسي والدراسي ويزيد من الضغوط على العائلات.

وانتقد ريتب بشدة عدم اعتماد السلطات على مقاربة تشاركية حقيقية مع الساكنة المتضررة، موضحا أن تجاهل التشاور مع السكان حول التوقيت المناسب للهدم والسكن البديل يفاقم من حدة الاحتقان الاجتماعي، وقد يؤدي إلى تعطيل العملية برمتها بسبب تنامي الاحتجاجات وعدم تقبل الأسر المتضررة لأسلوب التدبير.

وأشار المتحدث إلى أن ما يزيد الوضع تعقيداً هو أن عمليات الهدم، في كثير من الحالات، تتعارض مع حقوق الساكنة التي شيدت مساكنها بدعم أو تساهل من جهات رسمية كانت قد منحتها تراخيص ضمنية أو تغاضت عن البناء العشوائي في وقت سابق.

ويرى منسق تنسيقية ضحايا قرارات الهدم بالمدينة القديمة أن المسؤولية لا يمكن تحميلها بالكامل للمواطن، بل يجب توجيه جزء منها إلى الجهات التي غضت الطرف أو قدمت موافقات غير واضحة خلال فترة البناء.

وفي هذا الإطار، شدد ريتب على ضرورة أن تضطلع الوكالة الحضرية بدور أكثر فعالية ووضوحاً في تنزيل القرارات المتعلقة بالهدم، معتبراً أن هناك غياباً لرؤية استراتيجية واضحة تراعي الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية للساكنة المتضررة.

كما دعا السلطات المعنية إلى تبني حلول واقعية وفعالة، من بينها توفير شقق سكنية في إطار برامج إعادة الإيواء، تضمن انتقالاً آمناً وكريماً للأسر من مساكنها المهددة بالهدم.

وفي ختام تصريحه، أوضح منسق تنسيقية الضحايا أن مشروع “المحج الملكي” يدخل ضمن مخطط تأهيل المدينة القديمة، وهو أمر مرحب به في جوهره، إلا أن أي مشروع من هذا النوع يجب أن يقرَن بضمانات فعلية تحمي حقوق السكان وتمنع تعرضهم للتشريد.

وشدد على ضرورة الاعتماد على رؤية تنموية شاملة توازن بين متطلبات التحديث ومبادئ العدالة الاجتماعية، عبر تمكين المتضررين من حقوقهم كاملة وتوفير بدائل سكنية تحفظ كرامتهم واستقرارهم الأسري.

المصدر: العمق المغربي

شاركها.