تم إعداد هذا النص انطلاقًا من الرسائل التي كان ليوطي قد بعث بها إلى مختلف السلطات ابتداءً من سنة 1903، والتي جُمعت ونُشرت سنة 1937 عن دار النشر أرمان كولان، ونورد المرجع الخاص بها فيما يلي بالهوامش.
عندما جرى تعيين ليوطي قائدًا على منطقة عين الصفراء في أكتوبر 1903، وكان حينها لا يزال برتبة كولونيل، كانت منطقة بشار بأكملها خارج الحدود الجزائرية، أي أنها كانت بلا منازع جزءًا لا يتجزأ من أراضي الإيالة الشريفة، أي المغرب؛ ففي فگيگ، كان هناك “عامل” يُمثل سلطان المغرب (Lyautey, Versle Maroc . Lettres du SudOranais, (le 9 octobre 1903) publiées chez la Librairie, Armand Colin, 1937, p.41)، وكان ليوطي يؤكد أنه يعتبر نفسه حريصا على للتفاهم الفرنسيالمغربي. ولم يكن يتوانى عن زيارة حاكم فگيگ، ممثل السلطان، من أجل استشارته في كل الأمور التي تهم المنطقة (Lyautey, p.42).
وفيما يخص الاتفاقيات والتفاهمات مع قبائل آيت خباش وبني امحمد، يؤكد ليوطي أن هذه الاتفاقات تمت “تحت رعاية السلطان” المغربي (Lyautey, p.43). وأما بخصوص فگيگ وقبائل بني گيل، فليوطي كتب أن هذه القبائل عَرضت عليه الخضوع لسلطته؛ لكنه رفض، واقترح عليهم أن يتوجهوا إلى الحاكم المغربي في فگيگ، لأنه وحده يملك السلطة عليهم بموجب الاتفياقات الفرنسيةالمغربية (Lyautey, p.42).
وبالروح نفسها، كان ليوطي يتعامل مع كامل منطقة بشار وبني عباس، إذ كان يُبلّغ “عامل” السلطان في فگيگ بكل تحرك أو خطوة يقوم بها. وقد سيطرت فيالق مكونة من “السبايسية” و”الكوم” الجزائريين، تحت قيادة ضباط فرنسيين، على بشار بشكل رئيسي. وكانت هذه السيطرة قد أصبحت ممكنة بسبب ضعف المخزن، الذي أنهكته سنوات الفوضى التي أعقبت هزيمة معركة إيسلي؛ وهي الهزيمة التي كانت هي نفسها نتيجة للدعم المغربي لثورة الأمير عبد القادر (يمكن العودة إلى ما كتبه ليون روش العميل الفرنسي الذي تسلل إلى الدائرة الضيقة للأمير عبد القادر حتى أصبح مستشاره الأمين، يروي أحداث معركة إيسلي، ويشرح، على طريقته الخاصة، أسبابها وكيفية وقوعها.( Léon Roche, Dix ans en terre d’Islam, Paris Hachette (1904), Hachette, 2013). كما ساهمت في هذه السيطرة الاضطرابات التي شهدتها المناطق الحدودية الشرقية بسبب نشاط عصابات متمردة كانت تستغلها السلطات الفرنسية من أجل إضعاف المغرب والنيل منه، مثل تلك التي قادها الروگي “بوحمارة”. في هذا السياق تحديدًا، قرر ليوطي احتلال كامل منطقة بشار.
أنشأ الاتفاق الفرنسي المغربي لسنة 1901 (والمعروف أيضًا باسم بروتوكول فجيج) نوعًا من الشرطة المشتركة لمراقبة الحدود المغربية الفرنسية، دون أن يمنح فرنسا سلطة حصرية في مراقبة تلك الحدود؛ غير أن ليوطي، الذي كان مقتنعًا بإمكانية تجاهل الالتزامات التي تعهدت بها بلاده تجاه المغرب بحكم أن الظروف كانت ملائمة لذلك، اختار انتهاج سياسة “الاحتلال التدريجي” للجنوب الوهراني، ضاربًا عرض الحائط باتفاقيتي 1901 و1845.
وهكذا، تم إنشاء مركز مراقبة جديد في العرجة “لاستكمال السيطرة المادية والسياسية على الواحات” (Lyautey, p.8) ؛ لأن القوات الفرنسية كانت لا تزال في صراع مع القبائل المغربية التي كانت ترفض وجودها في المنطقة. وفي اليوم التالي لوصوله إلى فگيگ، توجه ليوطي إلى القوات التي كانت تعرضت لهجوم من لدن القبائل في “المنگار”، حيث أُبيدت إحدى كتيباتها في “الحجيرات”.
وفي 9 أكتوبر 1903، تمت ترقية ليوطي إلى رتبة جنرال؛ مما عزز مكانته لدى السلطات العسكرية والسياسية. وعلى إثر ذلك، تم قبول طلبَيه: أولهما استقلال قيادته عن سلطات الجزائر، وثانيهما احتلال بشار، إذ تم إبلاغه في 28 أكتوبر من السنة نفسها، بـ “الترخيص الرسمي لاحتلال منطقة بشار”؛ وهو الترخيص الذي قال إنه “سعى إليه بكل قواه” (Lyautey, p.10). ومن ثم، وقع احتلال بشار في 12 نونبر 1903، وتم تغيير اسمها إلى “كولومب”.
إن احتلال بشار كان، حسب ليوطي، أساسًا لدواعٍ أمنية ولموقعها الاستراتيجي. ومن أجل ذلك، كتب ليوطي أنه يجب أولًا ودون تأخير الاستقرار في بشار، إذ توجد هناك مجموعة من الواحات ونقاط المياه، حيث تتجمع وتتزود بالمؤن وتلجأ إليها وتنطلق منها كل الحركات المسلحة التي تهدف إلى الوصول إلى منطقة “الزوسفانة” (يُقصد بها المنطقة الواقعة بين فكيك في الشمال الشرقي، وبشار في الشرق، وقنادسة وتاغيت في الجنوب).
كانت المنطقة الممتدة بين فگيگ وبشار وإيغلي جزءًا من المغرب حتى سنة 1903؛ وهي السنة التي احتُلّت فيها بشار بإرادة من الجنرال ليوطي، مدفوعًا بأحلامه في المجد ورغبته في تكرار ما عاشه في “تونكين” مع المارشال گالييني، ضاربًا عرض الحائط بالالتزامات الدولية لفرنسا.
لقد كان احتلال بشار وإخضاع قبائل “أولاد جرير” و”ذووا منيع” يهدفان إلى جعل هذه القبائل “حزامًا واقيًا ضد تافيلالت”. وبهذا، صرّح ليوطي قائلاً: “إنها الطريقة التي نجحنا بها على الحدود الصينية، وهي الوحيدة التي تنجح”.
أما بخصوص البروتوكولات الفرنسية المغربية، فقد اعتبر ليوطي أنه ينبغي تفسيرها بشكل موسّع، مبررًا ذلك بضرورة تأمين المواقع العسكرية الفرنسية في المنطقة وحماية أرواح المواطنين الفرنسيين. وبشيء من السخرية، ختم بقوله: “ما نقوم به هناك لن يُقدَّم إلا على أنه دعم لشرطتنا، لمساعدة أصدقائنا المغاربة على الخروج من وضعية لا يستطيعون معالجتها بمفردهم”.
(*) أستاذ بجامعة القاضي عياض
المصدر: هسبريس