شنتوف.. زمزم القصيدة وزرياب مكناس الذي روى بحرفه الكريم الشعر العربي
هو زرياب مكناس والشاعر الذي لا يهادن الكلمة، ورقصة شاعرة واستعارة لمعجم الوجود في موسيقى القصيدة العربية. في شعره، يُجسد “زمزم الوجود الإنساني”، فهو “الوحيد القادر” على إرواء ظمأ الإنسان للجماليات العليا. حرفُه كريم كالغيم “يسقينا شهداً ومطراً”، وهو نقطة ضوء ساطعة “وسط ظلام إبداعي باهت لا يطاق”. هذا هو الشاعر محمد شنتوف بعيون عدد من الأدباء.
كل هذا وغيره دفع فعاليات مهتمة بالشأنين الثقافي والأدبي بدينة مكناس إلى تنظيم أمسية تحتفي بتجربة محمد شنوف الشعرية، باعتباره شاعرا مكناسي الطبع والطبيعة، ألف جملة من القصائد نشرت بدواوين: “من هاجرَ يأتي زَمْزَمُهُ”، و”إليكِ انتَهَى الأمرُ”، و”صَدى في المَدى”.
ولشنتوف أيضا ديوانين شعريين بصدد الطبع، ناهيك عن القصائد المنشورة بصحف ورقية وإلكترونية محلية ووطنية وعربية، لعل أشهرها: الشعر رزق، نوارس العدل، إليك انتهى الأمر، سقيا للجوى، من سويدائي، لغتي، مكناس يا مكناس ما الخبر، وقصيدة “يا غزة الأحرار”.
ولا تخلو قصائد وأشعار شنتوف في مجملها، إلى جانب تيمات الحب والجمال والطبيعة، من القيم الكونية، وعلى رأسها القضايا الإنسانية، لعل أبرزها القضية الفلسطينية. وسطع نجم شنتوف منذ نعومة قريحته الشعرية، حيث تم الاحتفاء بدواوينه سلفا في مناسبات مختلفة تلتها تكريمات وضيافات شرف في تظاهرات عدة منها ما كان بمدن عربية.
بالإضافة إلى تدريس اللغة الإنجليزية ونظم الشعر، فقد تبوأ شنتوف مراتب عديدة، فكان مديرا لمنتدى عبد الحلبي للشعر والثقافة، وعضو لجن مسابقات عربية في الشعر، كما اشتغل من داخل عدد من الجمعيات الثقافية.
فشنتوف، بالنسبة للشاعر ادريس الزايدي، “لا يهادن الكلمة، فهو يقلب في لغة الشعر مواطن الحب والجمال، وكأن ليس الشعر عنده غير البحث الذي يضني صاحبه لتخرج القصيدة في حلة موقعة بميزان الذهب”.
ويضيف الزايدي أن شنتوف يؤمن أن القصيدة حب يعرى ليُحَدّثَ في الكون صفاتِه التي تأبى السفور خارج الشعر. والشعر عنده لبوس الشيء للشيء، يتحقق في لغة تخرق الوجدان من خلال مسارات البحث عن المعاني التي تُنطقها الصياغة الناطقة بالمعنى وهو يتوزع ليحدث في الصورة كمالها وجمالها.
فالشعر عند شنوف، يقول الزايدي، صدى يستمر في الأحوال، عطشٌ ينادم أسرار الأسئلة، تلك الأسئلة التي توحد الكون في لغة الحب والعشق وانتزاع شهوة المدى البعيد من لعنة القلق الشعري، محمد شنوف رقصةٌ شاعرةٌ واستعارة لمعجم الوجود في موسيقى القصيدة العربية.
أما محمد عفط، الأستاذ بالمدرسة العليا للأساتذة بمكناس، فقال إن شنتوف نجح في أن “يخلق لدينا أجواء فرح دافئ في زمن الرداءة والتفاهة معا. لا يتمثل شاعرا فحسب، بل يستطيع من خلال كلماته وإيقاعاتها الباذخة أن يحمل إلينا ترانيم مسكونة بأعمق المشاعر وأصدق الخلجات، في كل قراءة لشعره أو استماع له تجد نفسك تجول في حدائق ذات بهجة لا تنضب، وتستمرئ أطاييب يتفاعل فيها الإنساني مع الجمالي بطريقة بديعة”.
يسائل شنوف بمنجزه الشعري الكثير من مسلمات” انفراط عقد القصيدة “الكلاسية”، ويثبت بشكل مستمر أن الأمر يتجاوز بكثير تلك البساطة التي يطرح بها. وهو في كل ذلك يتحمل بكل ثقة واقتدار مهمة المستغور (le spéliologue) الذي لا يكتفي بالمعاني الغائرة، بل يجعل كل الشعر مشهدا لا يسمح بالخروج منه إلا حين يشاء، يضيف المتحدث.
ولاشك أن انغمار شنوف في الهم الإنساني في مختلف أبعاده ودرجاته، يلتقي لديه مع توق أثيل إلى أن تكون أشعاره ملتقى علامات نابضة بالحياة بكل ما يسكنها من إثارة وإغراب. ذاك ما يمنح صوته تلك الطراوة التي لا تذبل تحت مطارق العابر والمبتذل، ويجعله مطلوب الحضور خاصة في لحظات غياب النصير، بحسب تعبير عفط.
من جهته، قال الشاعر عبد اللطيف الهدار، “قليلون هم الشعراء الذي يعتبرون الشعر ضرورة لابد منها، والشاعر محمد شنوف واحد من هذه القلة، ليس لكونه يبدع شعرا جميلا يحمل بصمته الخاصة، ويأتي بصور شعرية فريدة وغاية في الدقة والجمال، ويمجد في شعره القيم المثلى التي تُحصِّن إنسانية الإنسان، فحسب”. وإنما، يضيف الهدار، لأنه اتخذ من الشعر فلسفة في الحياة، وأسلوبا راقيا للتعبير عن أحاسيسه ومواقفه وهواجسه، ومنهاجا يعتمده في نظرته للعالم.
“وإن شئنا الاختزال قلنا بكثير من الاطمئنان قد لا يؤاخذنا عليه أحد ممن عرفوا الشاعر وقرؤوا له: الشعر عند محمد شنوف [زمزم الوجود الإنساني] وحده يستطيع إرواء ظمأ الإنسان للجماليات العليا. فلا غرو أن يأتي شعره قمة في الإمتاع والإقناع، وروعة في التعبير والتصوير، ومثالا للاتساق والانسجام بين الإيقاع واللفظ والمعنى، ونموذجا يُحتذى لمن رام أن يرتقي في ملكوت الإبداع”، بحسب تعبيره.
شاعر جيد الشعر قوي الحضور صارخ الموقف، هكذا وصف الشاعر عبد الناصر لقاح صديقه شنتوف، مضيفا: “تصلني بالصديق الشاعر محمد شنوف وشائج كثيرة من المحبة والصداقة والموقف المشترك. نلتقي في شيء من بداوة تظهر في أحايين على مستوى إعلان الموقف الواضح دون تردد”.
وذكر لقاح مجموعة من الميزات التي تطبع شعر شنتوف، بحيث “تشبث بعمود الشعر في شكله وفي كثير من موضوعه، وتمثله لكبار الفطاحل من شعراء العربية وغيرها، فلا يعزب على الناظر في شعره أن يقف على أحمد شوقي والبارودي وكولردج…”.
ومن ميزات شعره أيضا، يضيف المتحدث، نزوعه الواضح إلى قصيدة الحب والإكثار منها، “وهو أمر أفهم منه ضيق الشاعر بقضايا السياسة التي خبرها وذهب فيها مذاهب شتى قبل تطليقها الطلاق الثلاث”، بالإضافة إلى شغفه الشديد بالأصول في اللغة بحيث لا يضع الكلمة من أجل انسجام إيقاعي ما لم تكن هي المقصودة في المعنى، ناهيك عن صدقه الذي تقوله كل قصائده، وهو صدق المنفعل الفاعل لا المتمحل المتصنع.
للإبداع حضوره وللحضور جماله وما بين صدق المشاعر وجموح الخيال تعزف أحرف محمد شنوف أجمل فصول الإبداع، هكذا صرح الشاعر عبد الحق الفاطمي في حق شنتوف، قائلا إن “حرفه كريم كالغمام يسقينا شهدا ومطرا، ينبث بنا وردا وزهرا، ويغرقنا دهشة وسحرا.. دامت حروفه تنثر أريج اللغة على ضفاف الأبجدية”.
كما أن شنتوف شاعر بحق يستطيع قول ونظم ما لا يستطيع له كثيرون سبيلا، أسلوبه خاص وفريد، يحفر في اللغة ويغوص في المعاني، والصور الشعرية القوية، والشاعرة، بحسب ما قال صلاح الطويل، موضحا أن “معجمه يبدو تارة سلسا بسيطا وتارة صعبا ومعقدا”.
وله شاعريته الخاصة، ومتمكن من أدواته، وقصائده ليست سهلة على من يدعون الشعر، وطريقته ليست حائطا قصيرا يمكن القفز عليه. فهو يحترم قوانين الشعر، وأوزانه، وعروضه. “أحترم فيه التزامه وتسخير خصائصه الفنية لخدمة موضوعات وقضايا إنسانية شائكة”، بحسب تعبيره.
واستدرك الطويل، “فقط لا أدري لما يميل في قصائده إلى انتقاء مفردات وعبارات صعبة تحتاج معجما لفهمها بالنسبة للعامة. الشيء الذي جعلني لحدود الآن لم أتفاعل مع كتاباته لحنيا وموسيقيا. فهو شاعر كبير له مكانته القوية والمميزة حتى وإن شارك وسط مئات من الشعراء، والمستشعرين. إنه نقطة ضوء ساطعة وسط ظلام إبداعي باهث ولا يطاق”.
أما الشاعر الحسين نكور فوصف شنتوف بالشاعر الكبير الفذ والمتفرد، مضيفا أنه “إنسان صادق ونبيل”، معبرا عن إعجابه بطريقة إلقائه الجميلة والآخاذة، “أستمتع دائما بالقراءة له والإنصات لقصائده التي تنبع من تجارب الشعر العربي الأصيل، زرياب مكناس يجعلنا أمام تجربة شعرية مغربية متفردة تستحق كل التقدير والثناء والعرفان، لما قدمه من إسهامات جليلة للشعر المغربي خاصة وللشعر العربي عامة”.
يستعد شنتوف لإغناء تجربته الشعرية وإثراء الساحة الأدبية بشكل عام بمشاريع طموحة، يتمثل الأول في نظم ديوان شعري باللغة الإنجليزية، رغم ما تفرضه إكراهات لها علاقة بالوزن والإيقاع. والثاني إصدار ديوان في مجموعة من الشخصيات العربية الإسلامية. إضافة إلى مشروع ثالث يتجلى في كتابة سيرة ذاتية تعكس وتلخص حياة شنوف الإنسان والمبدع في قالب سردي يزيح اللثام عن موهبة النثر، التي ربما تضاهي موهبته في الشعر.
*باحث في الخطاب الإعلامي
المصدر: العمق المغربي