اخبار المغرب

شغبٌ فِقهي

من كان يظن أن بلدا مِثل المغرب، طالما عاش فيه الناس متآخين رغم اختلاف ألسِنتهم واعتقاداتهم، سيعرف اليومَ بروزَ كهنوت ديني ينشر الكراهية بينهم ويهدد أمنهم الروحي؟! يتعلق الأمر بتيار سَلفي دخيل يهدف إلى تَصدُّر المشهد الديني والتربع على عرش التحريم فيما يشْبه هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي تتدخل في خصوصيات الناس، من الدعوة إلى حرمان المرأة من العمل والرياضة وحتى الجلوس في المقهى إلى التحذير من مشاهدة الأفلام والمسلسلات المغربية، مرورا بتحديد الفئة العِلمية المخوَّل لها الحديث في الدين، وكأن الوهابية وجدت ملاذا آمنا ومرْتعا خِصبا للتعصب في أرض انجذب أهلُها منذ القدم إلى التدين النظيف المتَّسم بالتعقل وقبول الآخر وخدمة الوحدة الوطنية.

إن شيوخ هذا الكهنوت مجبولون على الخلاف والتحريم ولو حقنْتَهم التساهل حقنًا؛ فهُم يستهِلُّون أغلب فتاويهم بالعبارة “لقد اختلف العلماء في هذه المسألة”، ثم يتنقَّلون بين المذاهب الفقهية ليختموا بخلاصة التحريم، رغم أن في مذهبهم المستورَد نادرا ما تتناقض الآراء وتصطرع الفتاوى. يصحبونك معهم في جولة حول المذاهب ثم يُدخلونك جُحرَ الوهابية، حيث تُعالَج العديد من المسائل الدنيوية وتُقحَم قسرًا في الدين ليتمكنوا من توزيع ما بِيدهم من حسنات وسيئات ترغيبا وترهيبا، ودون أن ينْسوا زخرفة أقوالهم بآيات قرآنية لتصِير صعبة التهجم وليسْهل عليهم اتهام منتقديهم بنصب العداء للدين.

ومن خلال استقراء مواقع التواصل الاجتماعي نلاحظ أنهم يميلون إلى تأويل النصوص الدينية لتكُون قاهرةً للبشر، مُلغيةً للحريات، مهيمنة على كل شؤون الحياة. كبائر الذنوب عندهم أكبر مِن أن يستوعبها كتاب الكبائر لشمس الدين الذهبي، وما يَنهَوْن عنه أكثر مِن أن يَسَعه معجم المناهي اللفظية لابن العثيمين. فهُم يُكثرون من الضوابط والمُعيقات التي تشل حركة المسلم، بل يسبقون إلى اختلاق الإشكال من المباح أصلا لينفردوا عن كل الأنام، مُكَبِّلين كل حركة لتوطين التقدم والحداثة في المجتمع الإسلامي.

واللافت أن خرجاتهم الاستعراضية ليست أمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر كما يدَّعون، ولا تعصبا للحق ولِصحيح المعتقَد كما يزعمون، فأصحاب الرأي الآخر من الفقهاء هم أيضا لا يرَون الحق إلا في مذهبهم؛ وبيْنهما يَتِيه عامةُ الناس، وحسْبُ المؤمنين قول الله تعالى: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ ۖ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا ٱهْتَدَيْتُمْ).

ولا يتَوانَى هؤلاء المشايخ الذين استباحوا الساحة الدعوية في إشاعة فتنة التطرف وممارسة العنف اللفظي بكل اللهجات المغربية. فألسنتهم السليطة التي طُبعت على التجريح لا يسلم منها عموم المسلمين الذين يُشَكلون معهم الجسد الواحد والبنيان المرصوص، بل يهاجمون من خالفهم من العلماء المعتمَدين، يصِفونهم بأنهم دعاة على أبواب جهنم وأصحاب بدعة باعوا دينهم وآخرتهم بدنيا غيرهم؛ يُؤلِّبون ضدهم متابعيهم من الجهلة والأميين المغرر بهم، يؤججون عواطفهم لدفعهم إلى النيل منهم، بل ويستهدفون مُحِبي مخالفيهم من الفقهاء برسائل تحريضية وتسميات تبخيسية وِفق ما يسمونه عقيدة الولاء والبراء التي يوظفونها في خصوماتهم المذهبية وحروبهم الكلامية.

والذي يتتبع كلام الشيوخ الاستعراضيين عبر وسائل الاتصال العصرية يدرك أنهم يتُوقون إلى المواضيع الخلافية ويأخذون بأسباب الاختلاف عِوض الائتلاف، بما يشير إلى عمق انحطاط فكرهم ويثْبت أنهم لا يعيشون عصرهم؛ فهُم دومًا يخوضون في رؤية الله وصفاته وخلق القرآن وشروط التوحيد وعذاب القبر وتفاصيل الإسراء والمعراج وفي مَن يدخل الجنة وما يوجد فيها؛ ويعلنون، بعد افتعال فوضى خلاقة، تفرُّدَهم بامتلاك الحق الذي لا عدول عنه واحتلالَهم منزلة أقرب إلى الله تعالى تزيدهم حرصا على الغلبة لتكون كلمتهم هي الأعلى التي تحسم الجدال. وهكذا يُسْهبون في تَمايُزهم الطائفي إلى أن يصِلوا إلى مرحلة “هذا عندنا غير جائز”. في هذا السياق، لا يملك المرءُ إلا أن ينشد مع الشاعر:

يقولون هذا عِندنا غيرُ جائز *** ومَنْ أنتم حتى يكون لَكم عِنْد

وليتَ شيوخ فقه التشويش، إذْ ضيَّقوا على الناس، اكتفوا بهذا الطراز من الكوابح وقصَروه على المسائل العَقَدية الغيْبِية؛ لكن لهم نظائر أخرى من القوالب المعيارية المسماة زورا “حُكم الشرع”، يُخرجونها بشكل دوري وهم يجترُّون نفس المواضيع في المناسبات والأعياد. في بداية رمضان من كل سنة يُخرجون فتوى أحد أئمتهم “لا يُقبل صيام تارك الصلاة”، التي قد تُرَغِّب البعض في الصلاة طيلة شهر رمضان كما قد تدفع البعض الآخر إلى ترك الصيام ما دام لا يُقبل بلا صلاة؛ وفي نهاية شهر الصيام يَعرضون فتوى مُعلَّبة لا تُبيح إخراج زكاة الفطر نقدا، عكْس ما أقره المجلس العلمي الأعلى منذ سنوات واعتاده المغاربة لِخيْره على الفقير ويُسره على المُزَكّي. وفي ذكرى المولد النبوي، رغم الاحتفال الرسمي والشعبي بالمناسبة، يَخرج أولئك الدعاة على الشاشات مُشهرين فتاوى التبديع والتضليل. أما التهنئة بالسنة الميلادية الجديدة فعندهم مُوَالاةٌ للنصارى قد يفُوق إثمُها كلَّ ما اجتمع من موبقات. وبُعَيد هذه المناسبة بقليل يتجدد الجدال حول الاحتفال بالسنة الأمازيغية وما تمثله من تجذر تاريخي وتنوع ثقافي؛ إنها لَعَوْدةٌ إلى الجاهلية وجحود بأفضلية جنس العرب على غيرهم، هذا أقَلُّ ما يقوله عنها شيوخ لم يجيزوا حتى التهنئة بالسنة الهجرية الجديدة.

وإذا كان معظم الفقهاء الأكاديميين يتنزهون عن الخوض في المسائل الخلافية، لِحِكمتهم وحِلْمهم من جهة، ولعدم امتهانهم وإتقانهم التراشق المذهبي من جهة أخرى، فإن الفقهاء المشاغبين لا يترددون في الاقتراب من عش الدبابير، إذ يصَعِّدون ويزيدون الحطب اشتعالا. والحق يقال، لقد تمادوا في شغبهم الفقهي حتى صاروا مثالا في البهرجة اللفظية والخطابات البهلوانية؛ غَرَّهم تزايدُ عددِ متتبعيهم بالترويض والتجييش، فظنوا أن شأنهم قد علا، متناسين أنهم يخاطبون جماهير تنازلت عن عقولها، تهتمُّ بالقشور دون اللُّباب، وتُكِنُّ للتفاهة كل الإعجاب.

ومِن ضُعفهم في علوم العصر وشدة حنينهم للفقه البدوي لا يفسرون الكوارث الطبيعية والأزمات الاجتماعية والاقتصادية إلا بغضب الله على العباد. وفي هكذا سياق، يستَقْوون بتفاسير أئمتهم بحجة أنهم ربانيون معروفون بصحة العقيدة وسلامة المنهج، وبآرائهم الفقهية غير قابلة للنقد والنقض بدعوى حصول الإجماع حولها؛ فالإجماع عندهم لم ينخَرِم يوما حتى يُعرَض للنقاش والمراجعة؛ واجتهادُهم اتضح لهم صوابُه لدرجة يستحيل معها مخالفته إلى يوم الدين. وما أغربها من أفكار! يتحدثون عن علوم القرآن وعلوم الحديث وقد جمَّدوا كل محتوياتها! أمَا آن الأوان لِمن يَرْكَنون إلى فهم السلف أن يستفيدوا من منهجيات العلوم الكونية والإنسانية؟! لَيْتَهم يفهمون ما يسمعون، فلِسان حالهم يقول:

لقد أسمعتَ لو ناديتَ حيًّا *** ولكن لا حياة لِمن تنادي

شغبٌ فِقهي .

المصدر: هسبريس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *