في زمن يفيض بالضجيج والصراخ والمطالب المعلّبة تنبع من عمق السينما تلك الصور الصامتة التي تمد يدها لا لتصفع، ولا لتأمر، بل لتُصغي وتحتضن وتتعايش ببعد إنساني. إنها سينما اليد الممدودة، التي لا تُشيّد خطابها على الأبطال المنتصرين، ولا على النهايات الكبيرة، ولا على ثقافة الاستعلاء، بل على ذاك الارتجاف الطفيف في النظرة، وعلى ذلك العبور الخافت من الذات إلى الآخر؛ وهي سينما لا تمثل العروض ولا المواجهات، بل سينما التماس الإنساني، حيث تتداخل الجراح وتتشابك الحكايات والتاريخ والجغرافيا في محاولات يائسة للقول: “أنا هنا… هل تراني؟”. في عالم يزداد الفرد عزلة، تأتي هذه السينما لتذكرنا بأن أبسط تعبير عن الحياة يمكن أن يكون يدًا ممدودة لا تحمل شيئًا سوى الاعتراف بإنسانية الآخر.
كما قالت “كليو” في فيلم Cléo de 5 à 7 (1962) “كليو من 5 إلى7 “، للمخرجة أنيس فاردا، حينما نظرت إلى الجندي الشاب في الحديقة: “حين تحدثنا بدا لي العالم أقل فزعًا… لا بسبب ما قلتَ، بل لأنك كنت هناك”. تلك هي اليد الممدودة: حضور بسيط، لكنه كافٍ لوقف الانهيار. والسؤال كيف تتأسس فكرة اليد الممدودة استعاريا في السينما؟ وما أبعادها؟.
سينما “اليد الممدودة”.. سينما القرب والحميمية والطارئ
في قلب السينما التي لا تكتفى بالتصوير ولا تتعامل مع الواقع كمنظر تبرز “سينما اليد الممدودة” كجبهة سردية وجمالية وأخلاقية تبحث عن الإنسان قبل أن تبحث عن الحكاية. وتتجاوز هذه السينما حدود التمثيل الكلاسيكي وتسعى إلى تورط بصري وعاطفي عميق مع العالم، فهي لا تُعالج الموضوعات فقط بل تُصاب بها، لا تحكي الشخصيات بل ترافقها، لا تصور الألم بل تتألمه؛ إنها السينما التي لا تريد أن تكون فنًا للمُشاهدة فقط، بل صرخة، شهادة، وربما محاولة يائسة لمسك اليد التي تغرق، ومن هنا تتولد هويتها السردية والبصرية الخاصة، بقدر ما تتولد شخصياتها وبُناها النفسية والاجتماعية والرمزية، التي تستحق قراءة معمقة تقطع مع التصنيفات التقليدية وتفتح آفاقًا جديدة للتفكير في الصورة والإنسان والعيش المشترك.
ولا تخضع الهوية السردية لسينما اليد الممدودة لهيكل الصراع التقليدي بين البطل والخصم، أو للبناء الدرامي القائم على بداية وعقدة ونهاية، بل تنبع من الرغبة في تقفي أثر حياة تنهار أو تُقاوم. ولا تُبنى القصة لكي تُحكى بل لكي تُوثّق، تُلامس، وتُفضح؛ وهي في الغالب ليست من اختراع الخيال، بل من التقاط ما لا يُرى، ما لا يُروى في الإعلام أو في الخيال المهيمن.
ولا يحتفل السرد هنا بالتحول بل بالصمود، لا يُكافئ البطل بل يمنحه صوتًا، لا يسعى إلى الخاتمة بل إلى الاعتراف. ولا يتغير البطل، ولا ينتصر، في فيلم “أنأ دانييل بلاك” (2016) للمخرج كين لوتش، بل ينهار كنداء أخير ضد البيروقراطية التي تفتك بالفقراء. ولا وجود لهدف خارجي يتحقق، بل لمأساة داخلية تنكشف. وهكذا تتحول السردية من بناء درامي إلى سيرة من الداخل، إلى مسار مفتوح لا تقوده الحيلة بل الحاجة، لا يؤطّره النجاح أو الفشل بل الكرامة المهزومة.
وتحتاج هذه السردية الفيلمية إلى هوية بصرية مضادة للفرجة السهلة، لذلك فإن سينما اليد الممدودة تشتغل على الصورة بوصفها جرحًا. ولا تمثل الكاميرا طائرة (درون) ولا عينًا متعالية، بل جسدًا يسير، يتلعثم، يهتز. ولا يُضيء المشهد بل يَكشف، ولا يعكس الضوء للتجميل بل للفضح. ولا تظل الصورة مرتبة بل مفخخة، مشوشة أحيانًا، قاسية، غير مكتملة.
ونتابع في فيلم “كفرناحوم” (2018)، للمخرجة نادين لبكي، الكاميرا وهي تُرافق الطفل زين في شوارع بيروت، من دون أن تستغل بؤسه أو تُحوّله إلى بطوليّة كاذبة، حيث الكادر ضيّق، الألوان ترابية، العدسة مشوشة، لأن الكاميرا لا تُراقب بل تعيش معه. وترفض الصورة في هذا السياق “النظرة السياحية” للمهمشين، وتتمرد على جمالية التجميل، لكي تبني لغة بصرية تنتمي إلى القرب، إلى الحميمية، إلى الطارئ.
ولا تسعى هذه السينما إلى بناء عالم متكامل بل إلى الإمساك بلحظة، بلقطة، بوجه يصرخ، بحوار منفلت، بعين تنكسر؛ فهي جمالية الشظايا والتمزقات، لذلك تعتمد على تقنيات مثل الكاميرا المحمولة، الإضاءة الطبيعية، المونتاج المقطّع، الحوارات المرتجلة، والصمت بوصفه صوتًا آخر؛ وهي جمالية التقشف البصري الذي يعكس تقشف الحياة ذاتها، حيث لا وقت للتجميل ولا رفاهية أمام التكرار. ولا نرى في فيلم Rosetta (1999) “روزيتا” للأخوين جان بيير ولوك داردين أي موسيقى تصويرية، ولا لقطات عامة، بل فقط كاميرا تلاحق جسد الفتاة وهي تحارب من أجل فرصة عمل. الجمالية هنا هي اللاجمالية، لأن الجمال يكمن في الصدق، لا في الإبهار.
سينما “اليد الممدودة”.. سينما كشف الأعطاب والتفاصيل
لا يعتبرالبطل في سينما اليد الممدودة بطلا خارقًا ولا حتى فاعلًا بمعناه التقليدي، وهو غالبًا شخصية متعثرة، مكسورة، تبحث عن شيء بسيط: مأوى، دواء، بطاقة هوية، حب صغير، لكنه في الوقت ذاته بطل وجودي، لأن مقاومته اليومية تُصبح أكبر من أي معنى. ويتعرض البطل الشاب في فيلم The Rider ، “الراكب” (2020)، للمخرجة الأمريكية ذات الأصول الصينية كلوي تشاو، لحادث دماغي أفقده القدرة على ركوب الخيل، ومع ذلك يحاول التمسك بشيء من ذاته في مواجهة واقع لا يعترف بالهشاشة؛ هو بطل هش، لكنه مقاوم، جسده ضعيف، لكن روحه تُصِر. والأمر نفسه مع الطفل في فيلم The Florida Project، “مشروع فلوريدا” (2017)، للمخرج شون بيكر، الذي لا يفعل شيئًا بطوليًا سوى أن يعيش طفولته في فندق فقير بجوار ديزني لاند، لكن الكاميرا تحوّله إلى شاهد على عالم ينهار تحت سطح الترفيه المصطنع.
ولا تمثل الشخصيات في هذا النوع من السينما رموزًا بل أفرادًا، ولا تُستخدم لتجسيد فكرة بل لتجسيد حياة، ولذلك غالبًا ما تكون هذه الشخصيات الفيلمية غير معروفة، أو ممثلين غير محترفين، أو حتى شخصيات واقعية؛ لا يُطلب منهم التمثيل بل أن يكونوا على حالتهم وطبيعتهم، ولا يُعطَون حوارات بل يُتركون للكلام الذي يأتي من وجعهم الخاص. ونتابع في فيلم الوثائقي في A World Not Ours (2012)، ” عالم ليس لنا”، للمخرج مهند يحيى، شخصيات حقيقية من مخيم عين الحلوة، لا ينطقون بسيناريو بل بذواتهم. ولا تقدم هذه الشخصيات خدمة للسرد، بل السرد هو في خدمتها. وتنزل السينما هنا من العرش لتجلس بجوار الشخصيات، تُصغي لهم، تُشاركهم الأمل والخذلان.
وتنتمي سينما اليد الممدودة إلى طبقات الهامش، على المستوى الاجتماعي، إلى من لا صوت لهم في الخطاب الرسمي: العمال، اللاجئون، النساء المعنفات، الأطفال المُهمّشين، العجزة، المرضى، السجناء، العابرون للحدود… ولا تُظهرهم بوصفهم ضحايا فقط، بل كفاعلين داخل ظروف قاهرة، يبتكرون الحياة من رمادها. ونتابع في الفيلم الياباني Shoplifters،(2018) ، سارقو المتاجر”، للمخرج الياباني هيروكازو كوري إيدا، أسرة فقيرة تسرق من المتاجر، لكن الفيلم لا يُدينها، بل يكشف هشاشة نظام يُنتج الفقر ثم يُعاقب عليه. وتُعيد الصورة هنا للفقير إنسانيته، لا تستهلك بؤسه بل تُضيء معناه.
وتشتبك سياسيًا هذه السينما مع السلطة لا من خلال الشعارات بل من خلال الحكايات الفردية، لا ترفع شعارات ثورية صريحة، لكنها تُفجّر النظام من داخله. كل وثيقة ضائعة، كل تحقيق ظالم، كل إقامة غير شرعية، كل دواء غير متوفر، تُصبح في هذه السينما فعلًا سياسيًا. ولا يمثل البطل في The Mauritanian، (2021) ، “الموريتاني”، للمخرج البريطاني كيفن ماكونالد، بطلا يواجه الظلم فقط، بل يفضح نظاما ينهار أخلاقيًا أمام فرد ضعيف لكنه مُصِر على أن يُسمَع صوته.
ولا تأتي السياسة هنا من الخطاب بل من التفاصيل: من الانتظار في الطابور، من الصمت في زنزانة، من صرخة مكبوتة في قاعة المحكمة.
نفسيًا، سينما اليد الممدودة تكشف الأعطاب التي لا تُرى، ولا تتحدث عن الأمراض النفسية بوصفها ظواهر بل بوصفها شروخًا إنسانية تتسلل عبر القهر والعزلة والاغتراب. ولا يذهب البطل إلى الطبيب النفسي بل إلى الهروب، أو العزلة، أو الصمت. وفي الفيلم الياباني، Nobody Knows ،(2004) ، “لا أحد يعلم”، للمخرج هيروكازو كوري، يُترك أطفال في شقة وحدهم بعد أن تخلت عنهم أمهم، ومع ذلك يحاول الأخ الأكبر أن يُبقيهم على قيد الحياة. وهنا يصرخ الصمت ويُشكل الهجر الجرح النفسي الذي لا تداويه الكلمات. ولا تُشخّص السينما بل تُشارك في الألم.
وعلى المستوى الرمزي لا تبحث هذه السينما عن المجاز بقدر ما تسعى إلى تكثيف الواقع، لكنها حين ترمز تفعل ذلك من خلال الجسد، من خلال التفاصيل، من خلال نظرة العين. وتتحول الدراجة في الفيلم السعوديWadjda (2012) للمخرجة هيفاء المنصور، التي تحلم بها الطفلة، إلى رمز للحرية المكبوتة في مجتمع لا يعترف برغبات الفتيات. ويتدخل الزمن والذاكرة في فيلم Kaili Blues، (2015)، “نزهة على جانب الطريق” للمخرج الصيني بي غان، بشكل بصري يُحوّل المكان إلى استعارة لفقدان الحاضر. وهذه السينما حين تقترب من الرمزية تفعل ذلك من داخل الجرح، لا من خارجه، تجعل من الرموز امتدادًا للوجدان لا بديلاً له.
سينما اليد الممدودة.. سينما التنبيه والاحتجاج
تكمن قدرة هذه السينما على الصدق في مقابل خطر الاستغلال، والسؤال كيف تُصوَّر المعاناة دون المتاجرة بها؟ كيف يُمنح الهامش صوتًا دون أن يُستخدم؟ كيف تُعبّر الصورة عن العجز دون أن تُجمّله؟ هذه الأسئلة تتكرر مع كل تجربة في هذا النوع من السينما، وتفرض على المخرج وعيًا أخلاقيًا عاليًا لا يُقاس بعدد الجوائز بل بدرجة التورط الصادق. وتسجل في فيلم For Sama، (2019)، من أجل سما”، للمخرجين وعد الخطيب وإدوارد واتس، خمس سنوات من حياة الصحافية وعد الخطيب في مدينة حلب خلال الحرب، لا لتُثير الشفقة، بل لتُقاوم النسيان، لا لتحكي عن نفسها، بل عن الأمهات والطفولة وسط الأنقاض.
ولا تقترح سينما اليد الممدودة الحلول، بل هي سينما السؤال والتنبيه المبكر، ولا تمثل فنًا للمصالحة بل فنا ورؤية للاحتجاج، ولا تُعطي المتفرج الوهم بأنه بخير بل تُزعزعه، وتجعله يبكي لكنه لن ينسى؛ وهي السينما التي تؤمن بأن الفيلم يمكن أن يكون أكثر من مجرد صورة، بل حياة أخرى تُعاش في الظل، في الخفاء، في الكارثة. وهي السينما التي تُعيد للبطل إنسانيته المهدورة، وتعيد للصورة كرامتها المُفقَدة، وتفتح للواقع نافذة ليتكلم بلسانه هو، لا بلسان الخطاب الرسمي أو الكليشيات البصرية والنمطية. إنها السينما التي لا تُعرض في القاعات فقط بل تعيش معنا، فينا، بعد نهاية الفيلم.
ولا تقدم “سينما اليد الممدودة” فقط توصيفًا لحالات الفقر والتهميش، بل هي بنية رمزية وثقافية ترصد الهشاشة الإنسانية في أبهى تجلياتها القاسية، كما أنها سينما تمعن النظر في ملامح البؤس، لا لتستجدي الشفقة، بل لتعيد تأطير الفعل الاجتماعي والسياسي في علاقته بالكرامة والإقصاء، حيث تصبح اليد الممدودة سواء كانت في لقطة ثابتة أو حركة عابرة استعارة عن العجز، الحاجة، وأحيانًا التمرّد الصامت. في هذا السياق لا يمكن تجاهل أفلام مثل “روزيتا”، للأخوين داردين، حيث تصارع الفتاة المراهقة الفقر عبر مقاومة الذل، فتصبح يدها ليست فقط ممدودة بل مغروسة في الطين بحثًا عن كرامة. تقول روزيتا في أحد المشاهد الأكثر تعبيرا: “لن أعيش مثل أمي… لن أتسوّل الحياة”. وتنقل هذه الجملة ما هو أعمق من البؤس، إنّها صرخة ضدّ التواطؤ مع الواقع المرير والنظام القائم.
وتتحوّل اليد الممدودة في فيلم “كفرناعوم” إلى صوت طفل يقاضي والديه لأنهما أنجباه إلى عالم بلا رحمة. ولا يمد الطفل “زين” يده فقط للمال، بل يمدها للعالم، في محاولة لوقف الدمار الذي يلتهم الطفولة. ويصرخ في المحكمة: “ما بدّي شي… بس وقّفوا تجيبوا ولاد إذا ما بتقدروا تحمّوهم”. وتتجاوز هذه اللحظة السينما إلى مساءلة الوجود الأخلاقي ذاته.
أما في الفيلم الياباني “لصوص المتاجر” فتُنتزع اليد الممدودة من سياقها السلبي، إذ تصبح وسيلة للمحبة ولإعادة تشكيل مفهوم “الأسرة” في مجتمع يطرد الضعفاء إلى الهوامش. يقول الأب بالتبني للطفل: “أحيانًا من نسرق معهم هم من نحبّهم أكثر”. ويجعل هذا الانزياح في المفاهيم من “اليد الممدودة” ليس فقط فعل حاجة، بل مساحة مقاومة، ومسألة أخلاقية معقّدة.
ولا تكتفي اليد الممدودة في هذه السينما بأن تكون علامة على العوز، بل تصبح أداة نقد لنظام سياسي واقتصادي واجتماعي ينتج التفاوت ويعيد إنتاجه؛ لذلك فهي ليست مشهدًا بل موقفًا. سينما “اليد الممدودة” تسائل، تُدين، وتترك لنا سؤالًا معلقًا: من المسؤول عن أن تظل هذه اليد ممدودة إلى الأبد؟.
في نهاية هذا التيه الذي تقترحه سينما اليد الممدودة ندرك أن الجمال لا يكمن في اللقطة المتقنة، بل في اليد المرتعشة وهي تُمدّ نحو آخر، لا تطلب شيئًا سوى الاعتراف. ولا تسعى هذه السينما إلى الحل بل إلى الإصغاء، ولا تصنع أبطالًا خارقين بل تخلق مساحات هشّة للتواصل بين غرباء وجيران توحدهم الحاجة إلى من يصغي وإلى بناء التصدع والسلام. إنها سينما التماس الحيّ، سينما التفاصيل المنسية، وسينما الصمت الذي يقول كل شيء حين تعجز الكلمات؛ ولا تتوقف إشكالياتها عند ثنائية المُعين والمُعان بل تتجاوزها إلى نقد كل منظومات العزل والعجز والتهميش والتمثيل والتمثلات المشروطة. وفي أحد أعذب لحظات هذا السينما تقول الشخصية العجوز في فيلم Amour (2012)، “حب”، للمخرج النمساوي مايكل هانكيه، حين تُمسك بيد زوجها المريض بصمت: “أمسك يدي، لا تقل شيئًا… أريد فقط أن أبقى هنا، معك، هكذا”، بهذا المشهد الجميل تكتمل هوية سينما اليد الممدودة كمساحة لا تُعرّف بالحبكة، بل بما يُقال حين لا يبقى شيء يُقال.
المصدر: هسبريس