اخبار المغرب

سينما التهميش والإنسانية في “أنورا” .. شون بيكر يحقق شهرة واسعة

اكتسب المخرج السينمائي الأمريكي شون بيكر شهرة واسعة لأسلوبه الفريد والمقنع في السرد الفيلمي. تتميز أعماله بالتزامه بالأصالة، يركز غالبا على حياة الأفراد المهمشين والمغفلين في المجتمع. أفلام بيكر معروفة بتصويرها الخام وغير المصقولة للواقع، معتمدة على أسلوب بصري يبرز الطبيعة والسينما الحميمة. نهجه في صناعة الأفلام متجذر بعمق برغبة كبرى في تسليط الضوء على الحالات الإنسانية، خاصةً أولئك الذين يعيشون على هامش المجتمع. في فيلمه الجديد ( Anora) الحائز على السعفة الذهبية في مهرجان “كان” السينمائي يعيد الاعتبار لسينما المهمشين والانحياز إلى البسطاء.

سينما التهميش والنزعات الإنسانية

ولد المخرج شون بيكر وترعرع في سوميت، نيو جيرسي، وبدأ بيكر رحلته في عالم صناعة الأفلام في سن مبكرة. قاده شغفه بالسرد القصصي والسينما إلى مدرسة تيش للفنون بجامعة نيويورك، حيث صقل مهاراته وطور ميزته الإبداعية كمخرج. الأعمال المبكرة لبيكر، بما في ذلك “أربع كلمات” (Four Letter Words)(2000) و”تيك أوت” (Take Out)(2004)، مهدت الطريق لاستكشافه للقضايا والشخصيات الواقعية التي تتجاهلها غالبًا وسائل الإعلام الرئيسية. على الرغم من ميزانياتها المحدودة، فإن أفلامه أظهرت قدرة المخرج على خلق قصص لشخصيات طي النسيان والتجاهل ولكن بعمق كبير.

أحد العناصر البارزة في صناعة الأفلام لبيكر هو اختياره للمواضيع والشخصيات وانحيازه إلى العوالم السفلى للفقراء والمضطهدين. يميل غالبًا إلى القصص التي تسلط الضوء على صراعات مستترة وقدرة الأفراد الذين يعيشون على الهامش على المقاومة والتمرد بنوع من التحدي. في “أمير برودواي” (Prince of Broadway) (2008)، يروي بيكر قصة مهاجر من غانا يكافح من أجل كسب العيش في منطقة برودواي الصاخبة في مدينة نيويورك. أسلوب الفيلم الذي يشبه الأسلوب الوثائقي غير المصقول يلتقط الحيوية والتحديات في حياة البطل، ويقدم لمحة عن تجربة المهاجرين في أمريكا. هذا الفيلم، مثل العديد من أعمال بيكر، يعد دليلًا على التزامه برواية قصص إنسانية أصيلة.

خطوة كبرى في مسار المخرج السينمائية أتت مع فيلم “ستارليت” (Starlet)(2012)، فيلم يستكشف الصداقة غير المتوقعة بين ممثلة بورنو شابة وامرأة مسنة. تصوير الفيلم الحساس لشخصياته وتفاعلاتهم يبرز موهبة المخرج في خلق شخصيات متعاطفة ومتعددة الأبعاد. “ستارليت” كان نقطة تحول في مسيرة بيكر، حيث حظي بإشادة نقدية وأسس بيكر لبصمة مخرج برؤية فنية مميزة.

موضوع التهميش يتعمق أكثر في فيلم بيكر الشهير “تانجرين” (Tangerine) (2015). تم تصويره بالكامل على هاتف آيفون. يتبع فيلم “تانجرين” حياة عاملتي جنس متحولتين جنسياً في لوس أنجلوس. أسلوب الفيلم المبتكر واستخدامه للطاقة الحية حصل على إشادة واسعة، مما أظهر قدرة بيكر على دفع حدود صناعة الأفلام التقليدية. الأصالة والحدة في “تانجرين” تعكس التزام المخرج بإعطاء صوت لأولئك الذين يتم غالبًا إسكاتهم أو تجاهلهم من قبل المجتمع. نجاح الفيلم لم يثبت فقط سمعة بيكر كمخرج مبتكر؛ ولكن أيضًا أبرز التزامه بقضايا إنسانية معينة.

فيلم آخر أخرجه هو” حمى القمة ” (Summit Fever) ( 2022) يدور حول رحلة مجموعة من الأصدقاء لتسلق ثلاثة من أصعب الجبال في العالم، والتي تتحول بسرعة إلى كابوس مرعب عندما يقتربون من القمة ويتعرضون لعاصفة مميتة تقطع كل أمل للإنقاذ.

يتميز الفيلم بمشاهد جبال مذهلة وإثارة مستمرة، ويتناول موضوع الثقة والتعاون في ظل الظروف الصعبة. ثم فيلمه ” أنورا ” (Anora) الحائز على السعفة الذهبية في مهرجان “كان” السينمائي نسخة 2024. في غالب الأحيان، تنحدر شخصيات أطاله من العوالم السفلى ويمنحها مكانة للاحتجاج والحضور وبنوع من التمرد الكبير على الأوضاع السائدة.

فيلم “أنورا”.. استكشاف الهوية وقيمة الذات

يتعمق فيلم “أنورا” في موضوعات الهوية والحب والصراعات الثقافية، ويركز على شخصية أنورا ميخييفا، شابة تعمل كراقصة تعرٍ في بروكلين. تتغير حياتها بشكل كبير عندما تلتقي بالشاب بإيفان زخاروف، ابن أوليغاركي روسي. تتطور القصة عندما يتزوج أنورا وإيفان بسرعة للهروب من حياتهما الحالية، ولكن سرعان ما يهدد وصول والدَي إيفان إلى نيويورك بإلغاء الزواج.

الموضوع الأساسي للفيلم هو استكشاف الهوية وقيمة الذات. تمثل أنورا، التي تلعب دورها ميكي ماديسون، شخصية تجسد نضالات العديد من النساء الشابات الساعيات إلى إعادة تعريف حياتهن. هي مصممة على التحرر من قيود ماضيها والتسميات والوسم الاجتماعي المفروض عليها. رحلة أنورا هي رحلة لاكتشاف الذات والمرونة. تحولها من فتاة ليل وراقصة تعرٍ إلى زوجة مخلصة يبرز بحثها عن القبول والانتماء. يلتقط الفيلم بمهارة صراعاتها الداخلية وضغوط المجتمع التي تواجهها، مما يجعل أنورا بطلة يمكن الارتباط بها وجذابة.

شخصية إيفان زخاروف، الذي يجسدها مارك إيديلشتاين، هو شخصية لها تحدياتها الخاصة. كابن لأوليغاركي روسي قوي، تكون حياة إيفان محكومة بالتوقعات والالتزامات. قراره المتسرع بالزواج من أنورا مدفوع برغبة في الهروب من وجوده الفاخر ولكنه مختنق. تضيف شخصية إيفان عمقًا إلى السرد الفيلمي من خلال تسليط الضوء على تعقيدات الحب والتضحيات التي يقوم بها المرء من أجله. الكيمياء بين أنورا وإيفان محسوسة وتظهر تفاعلات قوة الحب بينهما في تجاوز الحواجز الاجتماعية والثقافية.

يقدم وصول والدي إيفان إلى نيويورك طبقة جديدة من الصراع إلى القصة. اعتراضه على أنورا وعزمه على إلغاء الزواج يمثل الرؤية الطبقية للأب وكذلك نوعية العقبات الاجتماعية والعائلية التي يجب أن يتغلب عليها الزوجان الشابان. هذا الصراع الثقافي والقيمي والأخلاقي هو موضوع مركزي في الفيلم، ويخدم لتسليط مزيد من الضوء على القضايا المجتمعية الأوسع المتعلقة بالفروق والتفاوتات الطبقية والثقافية. تم تصوير التوتر بين أنورا ووالدي إيفان بنعومة، ويلتقط الفيلم تعقيدات ديناميكيات الأسرة وتحديات التنقل في الفجوات الثقافية.

“أنورا”.. لغة الجذب والأضداد

تتميز الرؤية الإخراجية لشون بيكر بتصويره الأصيل للشخصيات وعلاقاتها مع المحيط الاجتماعي والتفاعل القائم بين الشخصيات بين الضد والجذب. التزام المخرج بالواقعية واضح في كيفية تصويره لعوالم أنورا الخام. النمط البصري للفيلم غير متردد ويعكس قسوة حياة أنورا ورؤية المجتمع القاسية والموسومة لها. يستخدم المخرج في تصويره للفيلم الإضاءة الطبيعية وحركات الكاميرا اليدوية، ليمنح القصة العاطفية والرومانسية بعدها وعمقها العاطفي. نهج بيكر للسرد البصري غامر وعاطفي، يجذب المشاهدين إلى عالم الشخصيات.

تلعب الموسيقى التصويرية للفيلم بدورها، التي ألفها دانيال لوباتين، دورًا حيويًا في تحديد النغمة وتعزيز السرد الفيلمي. تعكس موسيقى الفيلم، التي هي مزيج من العناصر الحديثة والكلاسيكية، موضوعات الفيلم من التحول والصراعات الثقافية والقدرة على التمرد. تضيف الألحان الساحرة والنغمات الرقيقة للموسيقى إلى الوزن العاطفي للقصة، مما يزيد من حدة التوتر والدراما. تكوين لوباتين هو تكامل مثالي مع النمط البصري لبيكر، مما يخلق تجربة سينمائية متماسكة وجذابة بينهما.

طبيعة الأداءات في “أنورا” لا مثيل لها، تجسد ميكي ماديسون تصويرًا قويًا ومتعدد الأبعاد لأنورا، تلتقط فيها ضعف وقوة الشخصية في لحظات متعددة من الفيلم. يتميز أداء ماديسون بأصالته وصدى عاطفي، مما يخلق شخصيتها مع المتلقي / المشاهد نوعا من الارتباط بها بعمق والتعاطف معها. وكذلك تجسيد مارك إيديلشتاين لشخصية إيفان رائع أيضًا. يبرز إيديلشتاين عمقا وتعقيدا للشخصية، مسلطا الضوء على صراعات إيفان الداخلية وعزمه على التحرر من ماضيه.

تتجلى علاقة المخرج مع ممثليه كعنصر أساسي في عملية صناعة الأفلام الخاصة به؛ فهو يخلق بيئة تعاونية مع المجموعة، يشجع الممثلين على تقديم تفسيراتهم الخاصة لأدوارهم. هذا النهج يسمح بأداء أكثر عضوية وديناميكية، حيث يبحث الممثلون بطرق مختلفة لاستكشاف شخصياتهم بالكامل. تكمن قدرة المخرج على استخراج أداءات قوية من طاقمه، وهي شهادة على مهارته كمخرج والتزامه بالسرد الفيلمي.

الهوية البصرية لفيلم أنورا.. الانحياز إلى البسطاء

لفيلم “أنورا” هوية بصرية واضحة وهي ميزة بارزة استخدام بيكر للمناظر الطبيعية والإعدادات الحضرية يخلق تباينًا لافتًا يعكس الصراعات الداخلية للشخصيات. التضاد بين شوارع بروكلين الممثلة لطبقة من المهمشين وفخامة عالم إيفان يخدم فكرة التهميش وتبيانها لتسليط الضوء على الفروق الطبقية والثقافية والاجتماعية التي يجب على الشخصيات التنقل فيها. تضيف لوحة ألوان الفيلم، بظلالها الهادئة والتباينات الواضحة، إلى الجو العام، مما يعزز التأثير العاطفي للسرد الفيلمي.

نهج بيكر لصناعة الأفلام متجذر بعمق في التزامه بالأصالة والواقعية، اهتمامه الدقيق بالتفاصيل وتفانيه في التقاط المواد الخام للعواطف البشرية واضح في كل إطار من “أنورا”. يتميز الأسلوب البصري للفيلم بحركة الكاميرا الديناميكية والإضاءة الطبيعية، مما يخلق تجربة سينمائية غامرة وجذابة. قدرة بيكر على مزج السرد البصري مع القصص الجذابة، علامة بارزة في أعماله، و”أنورا” ليس استثناءً.

العمق الموضوعي لـفيلم “أنورا” هو جانب آخر يميزه، يستكشف الفيلم قضايا معقدة تتعلق بالهوية والحب والصراعات الثقافية بحساسية وفهم. رحلة أنورا هي رحلة لاكتشاف الذات والتحول، حيث تتعامل مع ماضيها وتسعى إلى إنشاء حياة جديدة لنفسها. استكشاف الفيلم للضغوط المجتمعية والعائلية يضيف طبقة من التعقيد للسرد الفيلمي، مما يسلط الضوء على القضايا الأوسع المتعلقة بالفروق الطبقية والثقافية.

يجد فيلم “أنورا” صداه على مستويات متعددة، استكشافه للهوية وقيمة الذات هو موضوع اجتماعي بطعم سياسي، يعكس نضالات العديد من الأفراد الذين يسعون إلى إعادة تعريف حياتهم. تصوير الفيلم للحب والتضحيات التي يتطلبها هو مؤثر بعمق، يلتقط تعقيدات العلاقات وتحديات التنقل في الفجوات الثقافية. إخراج بيكر، بالإضافة إلى الأداءات القوية لماديسون وإيديلشتاين، يخلق تجربة سينمائية جذابة وصدى عاطفيا.

فيلم “أنورا” هو شهادة على مهارة شون بيكر كمخرج والتزامه بالسرد الفيلمي. استكشاف الفيلم للهوية والحب والصراعات الثقافية هو موضوع يجذب التفكير والانخراط العاطفي. تصوير بيكر الأصيل للشخصيات وعلاقاتهم المعقدة، بالإضافة إلى أسلوبه البصري الديناميكي والسرد الغامر، يجعل “أنورا” فيلمًا بارزًا في الحضور السينمائي المتميز، من خلال سرد جذاب وأداءات قوية، تلتقط “أنورا” جوهر التجربة البشرية، ويعكس تعقيدات الهوية وقوة التحول والحب والانحياز التام إلى قضايا للبسطاء.

* كاتب مغربي

المصدر: هسبريس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *