لم تكن فيضانات آسفي حدثا معزولا، بل جاءت لتنضاف إلى سلسلة من الأحداث التي شهدتها مناطق مختلفة من المملكة، بدءا من حادثة الوحدة الصناعية بطنجة، وصولا إلى تداعيات زلزال الحوز وسيول الجنوب الشرقي. وتسلط هذه الوقائع المتتالية الضوء على تحديات مشتركة تتعلق بمدى صمود البنيات التحتية وفعالية منظومات تدبير المخاطر، حيث غالبا ما تتركز الأضرار الجسيمة في المناطق التي تعاني من الهشاشة الاجتماعية والعمرانية، مما يطرح نقاشا واسعا حول السياسات العمومية المعتمدة في مجال الوقاية والسلامة.
ويدفع تكرار هذه السيناريوهات إلى إثار تساؤلات جوهرية تتجاوز مجرد حصر الخسائر، لتلامس الإطار القانوني والتنظيمي المؤطر لمسؤولية الدولة وباقي المتدخلين. ويتمحور النقاش الحالي حول آليات تفعيل المحاسبة، والحدود الفاصلة بين مبدأ “التضامن الوطني” في جبر الضرر وبين المسؤولية التقصيرية الشخصية للمسؤولين، وسط مطالبات متزايدة بضرورة تجاوز مقاربة “تدبير الأزمة” بعد وقوعها، نحو تبني استراتيجيات استباقية تركز على الرصد والوقاية لتفادي تكرار الخسائر.
“التضامن الوطني”.. أساس مسؤولية الدولة
وفي هذا السياق، كشف يونس الشامخ، أستاذ القضاء الإداري بجامعة القاضي عياض بمراكش، أن المسؤولية القانونية في كارثة الفيضانات هي مسؤولية مشتركة بين وزارة التجهيز والنقل والجماعة والسلطة المحلية، مشددا على أن عدم اتخاذ هذه الجهات للحيطة والحذر الكافيين يرتب مسؤوليتها مجتمعة.
وأوضح الشامخ في تصريح لجريدة “العمق”، أن مسؤولية الدولة تظل قائمة بنسبة 100% وتستند على مقتضيات الفصل 79 من قانون الالتزامات والعقود، الذي يحمل الدولة والجماعات مسؤولية الأضرار الناجمة عن تسييرها، لكنه لفت إلى أن التساؤل الجوهري المطروح قانونيا هو ما إذا كانت هذه المسؤولية مبنية على فكرة الخطأ أم أنها تتجاوز ذلك.
وأشار المصدر ذاته إلى أنه إذا تم تأسيس المسؤولية على فكرة الخطأ، أي وجود تقصير أو ارتكاب أخطاء أدت إلى الكارثة، فإنه يمكن للدولة أن تدفع بكون ما حدث “حادثا فجائيا” لتُعفى من المسؤولية، وهو ما يضيع حق المتضرر في الحصول على تعويض.
وأضاف الشامخ أن القضاء الإداري، ولتجاوز هذه الإشكالية، أسس لمسؤولية الدولة حتى دون ارتكاب خطأ، وذلك بالاستناد إلى نظرية المخاطر أو مبدأ “التضامن الوطني”، الذي استقرت عليه الغرفة الإدارية بمحكمة النقض.
وتابع الأستاذ الجامعي أن هذا المبدأ الجوهري والأساسي يُلزم الدولة بصرف التعويضات للمتضررين من الخزينة العامة، كواجب تضامني يتحمله المجتمع بأكمله تجاه الضحايا.
وخلص الجامعي ذاته إلى أن حق المتضررين في التعويض عن الأضرار الناجمة عن الفيضانات يجد أساسه في مبدأ التضامن الوطني، دون الحاجة للبحث أو إثبات وجود خطأ من جانب الإدارة، مؤكدا أن التعويض يصبح واجبا بمجرد وجود ضرر وعلاقة سببية بينه وبين نشاط الإدارة، وهو ما يستوجب تعويض المتضررين عن هذه الحوادث.
من المسؤولية الإدارية إلى المحاسبة الشخصية
من جهته، أكد رضوان عميمي، أستاذ القانون الإداري، أن نظام المسؤولية الإدارية في المغرب هو نظام كلاسيكي يعود لسنة 1913، ولم يعد يواكب التحولات وتدخلات الدولة لمواجهة الأحداث الفجائية مثل الفيضانات، مشيرا إلى أن المشرع وضع نظاما حديثا للتأمين على الكوارث الطبيعية يقوم على التكامل بين التغطية التأمينية والنظام التضامني.
وأوضح عميمي في تصريح لجريدة “العمق” أنه يصعب تحديد المسؤوليات بدقة في مثل هذه الكوارث نظرا لتعدد المتدخلين وتداخل الاختصاصات بين الجماعات الترابية، العمالات، الأقاليم، والقطاعات الوزارية كالتجهيز والصحة، بالإضافة إلى المؤسسات العمومية والوكالات الحضرية، مما يخلق صعوبة مبدئية في تحديد المسؤوليات.
وأضاف أن المسؤولية الإدارية للدولة تظل واضحة وقائمة في إطار الفصل 79 من قانون الالتزامات والعقود، سواء كانت مبنية على الخطأ أو على أساس المخاطر، لكن الاعتماد فقط على تحميل الإدارة كشخص معنوي للتعويض أثبت فشله.
وشدد عميمي على ضرورة تجاوز هذا المنطق والذهاب إلى ما هو أبعد في إطار ربط المسؤولية بالمحاسبة، من خلال تفعيل مقتضيات الفصل 80 من نفس القانون وتفعيل المسؤولية الشخصية للمسؤولين، خاصة أمام وجود حالات تقصير خطيرة وقصوى. وأشار إلى أن هذا التفعيل يعني أن أداء التعويض يتم بشكل شخصي من طرف المسؤول، سواء كان منتخبا أو معينا، بالإضافة إلى إمكانية قيام مسؤوليات أخرى جنائية في ظل فقدان الأرواح والممتلكات.
وفيما يتعلق بآليات التعويض، ذكر المصدر ذاته وجود نظامين، الأول يعتمد على عقود التأمين الخاصة، والثاني هو نظام تضامني تكافلي للأشخاص غير المؤمنين، يتم من خلال “صندوق التعويض على الكوارث الطبيعية”. لكنه انتقد الشروط المعقدة والبيروقراطية التي وضعها القانون للاستفادة من هذا الصندوق، والتي تتطلب تدخل رئيس الحكومة لإعلان المنطقة منكوبة وتحديد فترة الكارثة، معتبرا أن التعويضات التي يقدمها هزيلة وغير شاملة، حيث تقتصر على السكن الرئيسي والأضرار البدنية دون أن تشمل المحلات المهنية أو السكن الثانوي.
وخلص المتخصص في القانون الإداري إلى أن المغرب اليوم أمام نظام مسؤولية إدارية كلاسيكي ونظام تأمين وتضامن حديث لكنه معقد تشريعيا، داعيا إلى تجاوز المنطق البيروقراطي وتبسيط إجراءات التعويض، وإلى إعادة النظر في النموذج التدبيري على مستوى الجماعات الترابية، وتأهيل المدن والمناطق لمواجهة التحديات المناخية المتزايدة عبر استعمال التقنيات الحديثة في الرصد والاستشعار.
“الإفلات من العقاب”.. منهجية تكرر المآسي
اعتبر محمد رشيد الشريعي، رئيس الجمعية الوطنية للدفاع عن حقوق الإنسان بالمغرب، أن التعامل الرسمي مع الكوارث يكشف عن أزمة بنيوية في فهم طبيعة عمل السلطات لمفهوم الحق في الحياة والكرامة البشرية، حيث يتم التعامل مع هذه الحقوق بمنطق إدارة الأزمات بعد وقوعها وليس بمنطق الوقاية منها.
وأوضح الشريعي في تصريح له أن هذا “النهج الممنهج” يؤدي حتما إلى تكرار الأزمات والمآسي، لغياب اتخاذ الإجراءات الوقائية اللازمة لمنع وقوعها، معتبرا أن سياسة “الإفلات من العقاب” هي العنوان البارز الذي يلخص الوضع الحالي، حيث لا يتم محاسبة المسؤولين عن الانتهاكات بشكل كاف، مما يؤدي إلى استمرار خرق القانون في غياب رادع حقيقي.
وأشار الفاعل الحقوقي إلى أن هذه المنهجية تتجسد في كوارث سابقة مثل التلاعبات في صفقات إعادة اعتبار المدن القديمة كما في نموذج آسفي، والتغاضي عن مخالفات أدت إلى سقوط بنايتين بفاس، وصولا إلى فاجعة الحوز.
وتساءل الشريعي عما إذا كانت السلطات قد قامت بعمل استباقي لمواجهة الكارثة الأخيرة بآسفي بناء على النشرات الإنذارية التي توصلت بها، وهل تم تجنيد لجان اليقظة وتنقية البالوعات وإخبار الساكنة وإخلاء الأحياء المهددة بالخطر، أم كان هناك تهاون في التعامل معها، مشددا على ضرورة تعميق البحث لترتيب الجزاءات.
وطالب رئيس الجمعية الوطنية للدفاع عن حقوق الإنسان باعتبار مدينة آسفي مدينة منكوبة لتستفيد من الدعم المخصص للفئات المتضررة، داعيا إلى تشخيص وضع الدور السكنية بالمدينة القديمة، وتقديم الدعم المالي واللوجيستيكي والنفسي لكل العائلات المتضررة، مع إطلاق عملية إصلاح المنازل وإخلاء المهددة بالانهيار وتوفير المأوى لقاطنيها.
المصدر: العمق المغربي
