بحلول 29 أكتوبر الجاري تطوى ستون سنة منذ اختطاف المهدي بنبركة، أبرز المعارضين المغاربة آنذاك الذي قاد انشقاق “الاتحاد الوطني للقوات الشعبية”، والذي كان مستشارا للرئيس الجزائري الأول بعد الاستقلال أحمد بن بلة وأستاذا درّس الملك الحسن الثاني الرياضيات لما كان وليا للعهد.

المهدي بنبركة لم يكن فقط معارضا يساريا مغربيا؛ بل كان من قادة ما سمي آنذاك “العالم الثالث” بتصوّر يروم توحيد القوى الاشتراكية العالمية ضد رأسمالية و”هيمنة” الولايات المتحدة الأمريكية ودولٍ غربيّة، بتنسيق كان حجرَ زاويته على أعلى مستوى، جمعه بقادة الصين والاتحاد السوفياتي ومختلف رموز القيادات غير الموالية للـ”مركز الغربي” الأفارقة والعرب والمنحدرين من أمريكا الجنوبية وأوروبا الشرقية وآسيا.

وبحلول السنة الستين منذ اختفاء بنبركة دون قبر أو إدانة صريحة، جرت مياه كثيرة تحت الجسر، حيث قاد الحكومة المغربية قبل ثلاثين سنة رفاق حزبه، وكشفت شهادات جديدة ضمن سيَر وحوارات صحافية، وصدرت كتب حول القضية وحول ضحيتها، وكانت أحد المواضيع البارزة التي اهتمت بها “هيئة الإنصاف والمصالحة” التي أنيطت بها مهمة تحقيق “العدالة الانتقالية”. كما خصّه الملك محمد السادس برسالة خاصة تليت في ذكرى نصف قرن منذ الاختطاف، دون أن تحسم إلى اليوم معالم ما وقع ومن أوقعه بالسياسي المغربي، الذي كان من أعلام “الحركة الوطنية” والذي فرضت عليه الإقامة الجبرية والاعتقال من لدن الاحتلال الأجنبي واغتيل بعد الاستقلال.

“الإنصاف والمصالحة”

هيئة الإنصاف والمصالحة، التي أعطى انطلاقتها الملك محمد السادس، تحدث تقريرها الختامي عن الحاجة إلى “مواصلة البحث بشأن حالات الاختفاء القسري التي لم يعرف مصيرها بعد، وبذل كل الجهود للتحري بشأن الوقائع التي لم يتم استجلاؤها؛ والكشف عن مصير المختفين”.

وضمن هذه الحالات التي “تحتاج إلى استكمال البحث والدراسة”، ذكر التقرير “المهدي بنبركة (الذي) تعرض للاختطاف بمدينة باريس الفرنسية يوم 29 أكتوبر 1965 من لدن عناصر الشرطة الفرنسية، وذوي سوابق متعاونين مع المخابرات الفرنسية لهم علاقات مع مسؤولين بالمخابرات المغربية. وتزامنت عملية الاختطاف مع انطلاق التحضير لقمة التضامن بين الشعوب الأفروآسيوية والأمريكية اللاتينية التي كان رئيسا للجنتها التحضيرية والمنتظر عقدها آنذاك بهافانا في يناير 1966”.

وذكرت الهيئة أنه “على الرغم من حدوث فعل الاختطاف على التراب الفرنسي، الأمر الذي يترتب عنه مسؤولية الدولة الفرنسية، فإن على الدولة المغربية مسؤولية المساعدة على الكشف عن الحقيقة لكونها معنية بذلك، ونظرا لوجود مسؤولين مغاربة كبار متوفين وآخرين محالين على التقاعد بالعاصمة الفرنسية قبل وإبان وبعد اختطافه، من جهة أخرى؛ مما يثير عددا من الأسئلة بقيت دون جواب؛ فضلا عن مكوث بعض الأشخاص من جنسية فرنسية متورطين في اختطاف المهدي بنبركة، مدة من الزمن بالمغرب، حيث حلوا به مباشرة بعد عملية الاختطاف، وتوفوا به”.

ثم قالت هيئة الإنصاف والمصالحة: “استنادا إلى المعطيات التي قامت الهيئة بتحليلها ودراستها، فإنها ترى أن الدولة المغربية تقع عليها مسؤولية المساهمة في الكشف عن الحقيقة في ملف المهدي بنبركة باعتبارها طرفا معنيا بالقضية، بحكم اشتباه تورط أحد أجهزتها الأمنية. كما أنه ينبغي عليها طبقا لالتزاماتها في إطار التعاون القضائي أن تعمل على تسهيل كل الجهود المبذولة في مجال الإنابات القضائية في أفق الكشف عن حقيقة ما جرى”.

رسالة “الخمسينية”

بالمكتبة الوطنية قبل عشر سنوات، قرأ الوزير الأول الأسبق والقيادي لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وقبله “الاتحاد الوطني” الراحل عبد الرحمان اليوسفي، المحامي والسياسي الذي حمل القضية عقودا خارج المغرب، رسالة وجهها الملك محمد السادس إلى المشاركين في اللقاء حول “مكانة الشهيد المهدي بنبركة في التاريخ المعاصر”.

وقال الملك محمد السادس في ذكرى نصف قرن منذ اختطاف بنبركة: “ورغم أن هذه الذكرى تأتي في وقت لا تزال فيه العديد من التساؤلات مطروحة دون إجابات، فقد حرصنا على مشاركتكم هذا الحدث، دون عقدة أو مركب نقص من هذه القضية، تقديرا لمكانته لدينا ولدى المغاربة”.

ثم ذكر في محطة لاحقة من الرسالة: “يجب التذكير هنا بأن مرحلة ما بعد الاستقلال كانت مشحونة بشتى التقلبات والصراعات حول ما كان ينبغي أن يكون عليه مسار المغرب المستقل. إننا لسنا هنا لإصدار الأحكام على المواقف التي تبناها هذا الطرف أو ذاك؛ ولكن الأكيد أن القاسم المشترك بين جميع المغاربة، في تلك المرحلة التاريخية، كان هو السعي إلى خدمة مصالح البلاد، والنهوض بتنميتها وتقدمها، والدفاع عن قضاياها، كل من منطلق قناعاته وتوجهاته. وكيفما كان الحال، فإن بنبركة قد دخل التاريخ: ليس هناك تاريخ سيء أو تاريخ جيد، وإنما هناك التاريخ كما هو : ذاكرة شعب بأكمله”.

وسجل الملك، آنذاك، أن “الدول تبنى على تاريخها، بإيجابياته وسلبياته، وشعب بلا تاريخ هو شعب بلا هوية، ولن يكون له مستقبل. لذا، فإنه يجب استخلاص الدروس والعبر من قضية بنبركة، وجعلها في صالح الوطن، لتساعدنا على البناء وليس على الهدم”.

الذكرى الستون

ولّت عشر سنوات بعد الذكرى الخمسين، ولم تعرف قضية اختطاف المهدي بنبركة تغيرا جوهريا، ولو طفت بين الحين والآخر على ساحة النقاش العمومي بالمغرب وفرنسا خاصة.

ولا يزال يوم رحيل بنبركة، الذي يعدّ مدنيا في المغرب “يوم المختطف”، موعدا يحييه سنويا فاعلون مدافعون عن حقوق الإنسان بوقفات وبيانات تدعو إلى “الحقيقة الكاملة” و”الطّيّ العادل والشامل لملفّ الانتهاكات الجسيمة”، وتطبيق توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة التي من بينها المسؤولية الحكومية عن “العمليات الأمنية وحفظ النظام العام وحماية الديمقراطية وحقوق الإنسان، وإلزامها بإخبار الجمهور والبرلمان بأية أحداث استوجبت تدخل القوة العمومية، وماجريات ذلك بالتدقيق، وبالعمليات الأمنية ونتائجها والمسؤوليات وما قد يتخذ من التدابير التصحيحية”، مع “قيام الأحزاب السياسية الممثلة في البرلمان بإعمال مبدأ مسؤوليتها السياسية والتشريعية فيما يتعلق بحماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية للمواطنين، كلما تعلق الأمر بادعاءات حدوث انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، أو حدوث أفعال جسيمة ماسة أو مهددة لقيم المجتمع واختياره الديمقراطي”.

ولا تزال قضية المهدي بنبركة محفزة للنشر، حيث صدر في السنة الراهنة 2025 بفرنسا كتابان جديدان حول السياسي المغربي، أحدهما للصحافيين ستيفن سميث ورونين بيرغمان بعنوان “قضية بنبركة.. نهاية الأسرار”، والكتاب المصوّر “بنبركة.. الاختفاء” الذي أعدّه الصحافي والكاتب جاك راينال ورسّام القصص المصورة دافيد سيرفيناي.

ماذا عن المسار القانوني؟ رغم انقضاء ستة عقود منذ الاختطاف، فإن قضية المهدي بنبركة لا تزال ضمن أطول القضايا القضائية المفتوحة في تاريخ القضاء الفرنسي لكون الجريمة وقعت على أرضها؛ بل وكلّفت قاضية فرنسية جديدة بالملف، وهو ما علّقت عليه عائلة المهدي بنبركة، على لسان نجله البشير بنبركة الذي قال، في شهر يوليوز الماضي لوكالة الأنباء الفرنسية، إن القاضية “أبدت التزامًا ملموسًا، وانخرطت بجدية منذ عام في دراسة حيثيات القضية، وتسعى إلى تحريكها بعد سنوات من الجمود”؛ وهو ما صرح به عقب جلسة استماع هي الأولى منذ ست سنوات.

وماذا عن المغرب؟ قرب أحد أبرز شوارع الرباط المتسمّي باسم المهدي بنبركة، في البلد الذي تحمل فيه مؤسسات ثقافية وتربوية عمومية اسم المعارض السياسي المختطَف مجهول المصير، من المرتقب تنظيم وقفة دعا إليها سياسيون “بالشموع والورود” ترحما على “الروح الطاهرة للشهيد”.

ومن المرتقب أن يشارك مدافعون عن حقوق الإنسان في وقفة “اليوم الوطني للمختطف” التي تحيي الذكرى الستين منذ اختفاء بنبركة، في شارع محمد الخامس بالعاصمة الذي يحاذي مؤسسات رسمية؛ من بينها البرلمان والقصر.

ماذا بعد؟

جوابا عن سؤال “الماذا بعد؟” يقول لهسبريس عبد الإله بنعبد السلام، رئيس الائتلاف المغربي لهيئات حقوق الإنسان، إنه “لا يوجد مستجد باستثناء أن السلطات المغربية ترفض التعاون مع القاضي الفرنسي المكلف بالملف”، مع تنديده بخروج إعلامي “يحاول تبييض صورة جلادين معروفين في الوثائق الرسمية لهيئة الإنصاف والمصالحة، وشهادات عدد من المسؤولين الأمنيين”.

وتابع الحقوقي: “لا نزال نؤكد على وجود ملفات عالقة ذكرت في التقرير الختامي لهيئة الإنصاف والمصالحة، الذي قدم للملك في يناير 2006، ليوصي بعده المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، المجلس الوطني لحقوق الإنسان حاليا، والقطاعات الحكومية على تفعيل توصيات التقرير الختامي؛ لكن عددا من الملفات لا تزال عالقة، ولا تزال على حالها رغم التوصيات”.

وواصل: “عدد من العائلات لجؤوا إلى القضاء بحثا عن الحقيقة القضائية؛ لكن شكاياتهم حفظت”. ولذلك، يستمر إحياء ذكرى اختطاف بنبركة “لتذكير السلطات بمسؤوليتها في حل ملف الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان”.

من جهته، أجاب محمد العوني، منسّق “لجنة سنة الشهيد بنبركة”، سؤال هسبريس بقول إن الذكرى الستين تواكبها “العديد من الفعاليات مغربيا وخارجيا، ولا يمكن إحصاؤها كلها؛ ومن بينها إعلان صدور كتاب جديد يقول ضمن عنوانه إنه سيكشف عن كل الأسرار، وتوزيعه سيتم بمناسبة الذكرى. وبدأت ترشح بعض مضامينه التي تؤكد معطيات سبق أن أكدها شهود وباحثون ومذكرات رجال مخابرات، وتقدم حبكة متكاملة لسيناريو الاغتيال”.

ثم قال: “الأساسي طبعا أن العائلة ستستمر في التأكيد على مطالبها بالحقيقة الكاملة. وبالنسبة للسلطات الفرنسية فعليها أن تتجاوز حجب المعلومات المتعلقة بالشهيد، وأيضا بالنسبة للسلطات المغربية فعليها تنفيذ توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة، وتقديم كل المعطيات ومتابعة كل المتورطين أو المشتبه فيهم على الأقل لتقديمهم للعدالة، ونعلم أن الموت اختطف بعضهم”.

ثم ختم الفاعل المدافع عن حرية التعبير تصريحه بقول: “توجد لجنة متابعة المناظرة الثانية من أجل فتح مسار استكمال الحقيقة في ملفات حقوق الإنسان بالمغرب، التي تطالب باستكمال أعمال هيئة الإنصاف والمصالحة، وستنظم وقفتها السنوية المعتادة أمام محطة القطار بالرباط. كما تدعو إلى المساهمة في وقفة دعت إليها العائلة وعشرات الجامعات بباريس حيث اختطف الشهيد. وبالنسبة للجنة الشهيد بنبركة التي أنسقها، فهي تبرمج لعمل بمناسبة الذكرى، وأخّرنا تاريخه حتى لا نكثف كل الأنشطة في زمن واحد، هو يوم ذكرى مرور ستين سنة منذ اختطاف الشهيد المهدي بنبركة”.

المصدر: هسبريس

شاركها.