حين شُخّصت غوين أوريلو، وهي معلمة رياضيات في الحادية والثلاثين من عمرها، بسرطان رئة في مرحلته الرابعة، كانت التوقعات قاتمة إلى حد لا يحتمل التفكير بالمستقبل. الورم كان قد انتقل إلى عينها، ولم تكن تفكر في الادخار، ناهيك عن فتح حساب تقاعد. كان المرض يفرض منطقا واضحا: نهاية وشيكة لا مهرب منها؛ لكنها، الآن، بعد أكثر من عشر سنوات، لا تزال على قيد الحياة، وتعيش واقعا جديدا يفرضه جيل من العلاجات المتطورة التي لا تشفي لكنها تطيل الأمل، وتحوّل السرطان إلى مرض مزمن تعيش معه، لا تموت منه فورا.
قصة أوريلو، التي نشرتها صحيفة “وول ستريت جورنال”، هي نموذج لتغير جوهري في مسار علاج السرطان خلال العقدين الماضيين. صحيح أنها ما زالت تتناول يوميا أقراصا دوائية تبقي خلايا الورم تحت السيطرة، وأن السرطان لم يغادر جسدها؛ لكنه أيضا لم ينجح في السيطرة على حياتها بالكامل. بين كل جولة فحوصات وأخرى، تعيش وكأنها خالية من المرض، تدرّس طلابها، تدرّب فريق ألعاب القوى في مدرستها، وتشارك ابنتها، التي كانت رضيعة وقت التشخيص، أيام المراهقة والتخطيط للمستقبل.
هذا “المستقبل” لم يكن يوما جزءا من المعادلة عند تشخيص سرطان في مرحلته الأخيرة؛ لكن تحولات كبيرة في البحث الدوائي، والتطورات في العلاجات المناعية والمستهدفة، أوجدت واقعا مختلفا جذريا. هناك آلاف المرضى، الآن، ممن يعيشون لسنوات طويلة بعد تشخيصهم بسرطان متقدم. أصبح الأطباء يتحدثون عن علاج مستمر وليس نهاية قريبة، وعن مرض يُدار بالأدوية لا بالاستسلام.
أوريلو تنتمي إلى فئة من المرضى توصف، اليوم، بـ”الناجين المزمنين”. هذا التصنيف لا يعني شفاء تاما؛ بل حياة غير خالية من التحديات، لكنها حياة ممكنة. هناك مواعيد متكررة للفحوصات، تغييرات في الخطط العلاجية، آثار جانبية مرهقة، وقلق لا يزول من احتمال انتكاسة مفاجئة. مع كل فحص، تعود أوريلو إلى نقطة البداية. هل ما زال الدواء فعالا؟ هل بدأت الخلايا المقاومة في الظهور؟ تسمي ذلك بـ”قلق الفحص”، وتقول إنها تحاول ألا تفكر في الأمر خلال الأسابيع الفاصلة بين كل فحص وآخر، كي تعيش حياة “طبيعية قدر الإمكان”.
حسب بيانات المعهد الوطني الأمريكي للسرطان، فإن عدد الناجين من السرطان في الولايات المتحدة يتجاوز حاليا 18 مليون شخص، ومن المتوقع أن يصل إلى 26 مليونا بحلول عام 2040. ومن بين هؤلاء عدد متزايد من المرضى يعيشون مع سرطان في مرحلته الرابعة؛ بينهم أكثر من 690 ألفا مصابون بأنواع مختلفة كالثدي والرئة والقولون والبروستات والميلانوما والمثانة. هذه الأرقام تضاعفت خلال العقود الثلاثة الماضية، ليس فقط بسبب تحسن التشخيص؛ بل لأن هؤلاء المرضى باتوا يعيشون سنوات، وأحيانا عقودا، بعد التشخيص.
تطور الأدوية المستهدفة غيّر المعادلة. منذ عام 2000، ظهرت أدوية تستهدف طفرات جينية محددة في خلايا السرطان، مثل “هيرسبتين” لسرطان الثدي، و”Gleevec” لسرطان الدم. ثم ظهرت العلاجات المناعية، مثل “Keytruda”، التي أصبحت تُستخدم الآن لأكثر من 18 نوعا من السرطان. هذه العلاجات لا تنجح مع كل المرضى؛ لكنها نجحت في خلق نافذة زمنية ممتدة يمكن خلالها إدارة المرض، وتأجيل تقدمه، وفي بعض الحالات، إيقافه تماما لسنوات.
في حالة أوريلو، اكتشف الأطباء أن لديها طفرة جينية نادرة تُعرف باسم “ROS1″، وهي واحدة من الطفرات التي تستجيب بشكل جيد لعلاجات مستهدفة. بدأت بدواء تجريبي ثم تنقلت بين أدوية متعددة، بعضها لم يكن قد حظي بعد بموافقة إدارة الغذاء والدواء الأمريكية وقت بدء استخدامها له. وعندما ظهرت النقائل في دماغها عام 2017، سافرت إلى بوسطن للحصول على رأي ثانٍ، وانضمت إلى تجربة سريرية لعقار جديد نجح في تقليص الأورام. مرّت سنوات هادئة قبل أن يطوّر الورم مقاومة جديدة؛ فتغيّر العلاج مجددا. كل دواء يمنحها فسحة جديدة من الوقت.
لكن الحياة الممتدة لها ثمن. الإرهاق المزمن، زيادة الوزن، التأثيرات العصبية، ناهيك عن التكاليف المالية المستمرة، كلها تحديات موازية. تقول أوريلو إن دعم الأصدقاء كان في أوجه خلال الأشهر الأولى؛ لكن هذا الدعم تضاءل بمرور السنوات، في وقت أصبحت فيه التكاليف مستمرة، من التأمين إلى التنقل للعلاج، إلى أدوية باهظة الثمن.
الطب أيضا لم يكن مستعدا بالكامل لهذا التحول؛ فبرامج “رعاية الناجين” كانت تُخصص تقليديا لمن أنهوا العلاج. أما المرضى الذين يعيشون مع علاج مستمر مدى الحياة، فلم تكن لهم مساحة في هذا التصنيف. الآن، بدأ الأطباء في مراجعة هذه السياسات. تقول د. روبين زون، الرئيسة السابقة للجمعية الأمريكية لطب الأورام: “هناك حاجة ماسة إلى تغيير طريقة التعامل مع مرضى السرطان الذين لا يمكن شفاءهم؛ لكن يمكنهم العيش طويلا”.
وعلى الرغم من القلق الدائم، فإن أوريلو تؤكد أنها أكثر تفاؤلا اليوم مما كانت عليه في بداية رحلتها. لم تقرأ إحصائيات النجاة إلا بعد مرور أكثر من عام على التشخيص، عندما شعرت بأن لديها فرصة حقيقية للبقاء. وتقول إن حلمها لم يعد مجرد العيش حتى ترى ابنتها تكبر؛ بل أن تراها تلتحق بالجامعة، وتدخل الحياة.
ومع أنها لا تخطط لتقاعد تقليدي، فإنها بدأت الادخار أخيرا. العائلة تخطط للسفر، وتشارك في الأنشطة، وتحتفل بالحياة. في الصيف الأخير، ذهبت مع أسرتها إلى بحيرة جورج في نيويورك، حيث تنسى السرطان مؤقتا؛ لكن الموعد التالي للفحص لا يزال على التقويم، يقترب بثبات.
قد لا يكون هناك نهاية سعيدة بالمعنى التقليدي؛ لكن هناك بداية جديدة لرواية مختلفة عن السرطان. رواية لا تنتهي بالموت الحتمي؛ بل تبدأ بالحياة المتواصلة رغم كل شيء. وكما تقول أوريلو: “طالما أن العلم يسبقني بخطوة، سأواصل السير”.
المصدر: هسبريس