تحدث الشاعر رشيد سبابو، تحدث عن بداياته الشعرية التي اشتعلت في مرحلة الثانوية، حيث شعر بأن القصيدة تنتج شاعرها، وأكد أن شعره “يستنطق العتمة” ويضع القارئ أمام تجربة إنسانية وفكرية قد يكون جزءا منها ذات يوم، بعيداً عن الرسائل المباشرة.
وأضاف، سبابو في حوار مع جريدة “العمق”، أن الهواجس الشخصية والموسيقى كانت مصادر إلهام قوية له، وأن تجربته الشعرية مزيج بين ما عاشه وما تخيله، مما يجعل قصائده تتخطى الذات إلى وجوه متعددة.
وأوضح أن العلاقة بين الشعر والجمهور تغيرت بفعل منصات التواصل الاجتماعي، ما دفع الشعراء لإعادة التفكير في لغة القصيدة وشكلها لتلائم هذا التحول، مع الحفاظ على عمقها وأصالتها.
1 لكل شاعر شرارة أولى تشعل فيه وهج الكتابة، متى بدأت تكتشف موهبتك في الشعر؟
شكرا لكم على الاستضافة والدعوة الكريمة. يمكنني القول إن شرارة الكتابة اشتعلت في وقت مبكر من حياتي، في المرحلة الإعدادية بالضبط. كنت أكتب نصوصا بسيطة، مدفوعا بالحيرة والأسئلة والرغبة في التعبير. لكنني لم أكتب الشعر في البداية، واستغرق الأمر بعض الوقت حتى وجدت نفسي في حالة “صرع شعري” انتابتني في مرحلة الثانوية. هذه اللحظة جعلتني أعتقد أن القصائد تنتج شاعرها بنفسها وليس العكس.
2 في ديوانك “غراب يواري سوءة الليل”، هناك قصائد متعددة، ما الرسالة التي أردت إيصالها من خلال هذا الديوان؟
“غراب يواري سوءة الليل” هو توثيق لتجربتي مع الأزمة الوجودية، وهو محاولة لاستنطاق العتمة، لا لتبديدها، بل لفهمها. لا أزعم أنني أوصل الرسائل من خلال كتاباتي، لأنني لا أحبها أن تكون “تبشيرية”. لكنني أردت أن أضع القارئ أمام تجربة إنسانية وفكرية قد يكون جزءا منها ذات يوم. كما أنني لا أريد أن أقدم للقارئ شيئا يشعره بالاطمئنان، بل شيئا يجعله يتساءل: هل هذه اللغة تقول شيئا عني؟ هل هذه القصيدة تشبهني؟ هل في هذا الحزن شيء من طمأنينة لم أنتبه لها من قبل؟
3 “سيمفونية الأرق” عنوان يوحي بتلاقي الموسيقى مع القلق الداخلي. هل تعتقد أن الهواجس الشخصية مادة أساسية للإبداع؟
بالتأكيد، الهواجس الشخصية هي مادة خام للإبداع، أيّا كان، على اعتبار أن هذا الأخير هو تعبير عن الذات بالدرجة الأولى. هذه المادة يحولها المبدع إلى لغة، واللغة بدورها إلى شكل جمالي يمكن للآخرين أن يتفاعلوا معه. هناك نوع من الكتابات لا تكتب إلا في لحظات الضيق، حين يصير القلم وسيلة للبقاء لا مجرد أداة للتعبير. وربما لهذا السبب، فإن بعض القراء يجدون في نصوص “سيمفونية الأرق” صدى لقلقهم الخاص، وهذا في نظري أقصى ما يمكن أن يأمله شاعر أو كاتب: أن تتحول هواجسه إلى جسر غير مرئي نحو الآخر. أما بالنسبة للموسيقى، فقد ساعدتني كثيرا في ليالي أرقي، كنت برفقتها أواجه عواصف القلق الشديدة.
4 ديوانك “لكنه كان قلبي” يلمح إلى تجربة عاطفية خاصة، هل تكتب سيرتك الذاتية وتجاربه عبر الشعر، أم تختلق عوالمك لغايات جمالية؟
ربما أستعير من سيرتي، لكنني لا أكتبها. في الأخير، أنا لم أعش كثيرا لأكون “تجربة” متكاملة. أحيانا أختلق تجربة لأكشف عن حقيقة. الشعر عندي مزيج بين ما عشته وما تخيلته، بين ما تألمت منه وما حاولت أن أتصوره. أحيانا أستلهم مشاعر لا تخصني وحدي، بل أعيد صياغتها كأنني أعيشها لأمنحها صوتا، وهذا ما يجعل الشعر عندي يقف على خط دقيق بين الاعتراف والتقمص. فالشاعر، في ظني، لا يكفي أن يكون شاهدا على ذاته، بل عليه أن يكون قادرا على ارتداء وجوه متعددة، أن يكتب عن الحب والخسارة من داخل التجربة، حتى ولو لم تكن تجربته بالضرورة.
5 ما مصدر الإلهام في كتاباتك؟
مصادر الإلهام لدي متعددة ومتداخلة أحيانا. لا يمكنني أن أحصرها في شيء واحد أو لحظة واحدة، لأن الشعر يتغذى من الحياة نفسها، من تفاصيلها الكبيرة والصغيرة، من تقلباتها، ومن صمتها أيضا. أحيانا تلهمني نظرة عابرة في الشارع، مشهد في مقهى، أو حتى وجع قديم كنت أظن أني نسيته. الإلهام قد يأتيني من جرح شخصي أو من وجع جماعي، من مشهد طبيعي أو من خبر عابر في نشرة المساء.
كما أن القراءة كانت ولا تزال من أهم مصادر الإلهام. كل كتاب جيد أقرؤه يترك أثرا ما في داخلي، يحرك شيئا في اللغة أو في الفكرة أو في الحساسية. الموسيقى أيضا تلعب دورا مهما في استدعاء الإلهام، فهي تفتح داخلي نوافذ لا تفتحها اللغة وحدها، وتعيد ترتيب الانفعال بطريقة شاعرية. ولا أنكر أن بعض القصائد تولد من حالات مزاجية خاصة، من لحظات تعب أو وحدة أو حتى فرح مفاجئ. هناك أوقات أشعر فيها وكأنني لست من يكتب، بل شيء بداخلي يتحرك ويتكلم من تلقاء نفسه، وكأن القصيدة كانت تنتظر فقط لحظة خروجها.
6 كشاعر شاب، ما التحديات التي تواجهها في المشهد الأدبي؟
التحديات كثيرة، ومتداخلة بين ما هو موضوعي وما هو ذاتي. أولها، وأشدها تعقيدا، هو أن تكتب في زمن يتراجع فيه الاهتمام بالشعر، وتغلب عليه ثقافة السرعة والسطحية. فالشعر بطبيعته فعل تأمل وبناء يتسم بالبطء، بينما المجتمع اليوم مهووس بالاستهلاك السريع للمعنى والصورة والفعل.
في هذا السياق، يصبح من الصعب أن تجد جمهورا حقيقيا يمنح القصيدة الوقت والاهتمام الذي تستحقه، وهذا يخلق شعورا بالعزلة. ثم هناك تحدي الاعتراف في المشهد الأدبي، خاصة بالنسبة للشعراء الشباب. لا يزال هناك نوع من “المركزية” التي تميل إلى تهميش الأصوات الجديدة أو التقليل من قيمتها، خصوصا إذا لم تأت من دوائر معينة أو لم تحظ بدعم مؤسساتي أو نقدي. ومن التحديات الكبرى أيضا مسألة النشر.
أن تطبع ديوانا شعريا في عالم لا يقرأ كثيرا، وأن تتحمل تكاليفه في ظل غياب شبه تام لدعم الدولة للمبدعين، هو فعل مقاومة أكثر منه نشاطا ثقافيا عاديا. وغالبا ما تنتهي المجموعات الشعرية إلى رفوف مكتبات محدودة أو توزع في حدود ضيقة، مما يجعل الوصول إلى القارئ تحديا يوميا.
7 كيف ترى العلاقة بين الشعر والجمهور اليوم؟
العلاقة متوترة أحيانا، لكنها ليست مقطوعة. الجمهور تغير، وكذلك طرائق التلقي. في زمن الوسائط السريعة وثقافة الصورة، لم يعد الشعر يقرأ فقط في المجلات والدواوين المطبوعة، بل صار يتنقل عبر إنستغرام، وتويتر، ومقاطع الفيديو القصيرة. وهذا التحول في الوسيط فرض على الشعراء، خصوصا الشباب، إعادة التفكير في لغة القصيدة، في كثافتها، في إيقاعها، بل وحتى في شكلها البصري.
أصبح من الضروري أحيانا أن يجد الشاعر صيغة تمكن قصيدته من العيش في هذه المنصات، من دون أن تفقد صوتها وأصالته أو عمقها. ولا يمكن تجاهل أن جمهور الشعر صار نخبويا نسبيا، أو لنقل “انتقائيا”. الجمهور العريض يميل اليوم إلى الفنون السمعية والبصرية، وإلى المحتوى الخفيف والسريع، مما يجعل الشعر يواجه منافسة شرسة على “انتباه” المتلقي. ومن هنا، أرى أن الشاعر اليوم لا يكفي أن يكتب، بل عليه أن يسائل طرق التوصيل والتواصل، وأن يكون مبدعا أيضا في كيفية تقديم الشعر للناس، لا تسويقا تجاريا، بل تواصلا إنسانيا صادقا.
8 من هم الشعراء أو الكتاب الذين تركوا بصمة في تكوينك الأدبي؟
كثيرون، لكن الأسماء التي أثرت في بشكل كبير هي: على الصعيد العربي، بدر شاكر السياب، محمود درويش، أمل دنقل، رياض صالح الحسين، عبد العظيم فنجان، وعبد الله زريقة. أما على الصعيد العالمي، فقد تأثرت بما ترجم لتوماس إليوت، وبوكوفسكي، وبابلو نيرودا.
9 كيف ينظر الشاعر رشيد سبابو لفعل الكتابة؟
الكتابة بالنسبة لي نوع من المقاومة الهادئة، وآلية للتفاوض مع الواقع. كما أنني أعتبرها ضرورة وجودية، وليست ترفا. هي بحث مستمر عن صيغة جديدة للقول، عن نبرة مختلفة ربما. لا أكتب لأعيد ما قيل، بل لأختبر ما لم يقل بعد، لأتحرك في مساحة رمادية بين الممكن والمستحيل. لذلك، أتعامل مع كل نص على أنه مغامرة فريدة، لا يمكن توقع نتائجها، وأحيانا لا أكون واثقا مما كتبته إلا بعد أن يمر زمن ويعود النص إلي كغريب.
10 كيف تنظر إلى القراءة والشباب والكتابة والنشر في المغرب؟
الحديث عن القراءة والكتابة والنشر في المغرب، خصوصا في علاقتها بالشباب، يستدعي شيئا من التأمل والصدق. أولا، يجب أن نعترف أننا نعيش في سياق ثقافي لا يجعل من القراءة أولوية، لا في السياسات العمومية، ولا في المدرسة، ولا حتى داخل الأسر. وهذا يؤثر بشكل مباشر على علاقة الشباب بالكتاب.
حين لا ينشأ الطفل في بيئة تعتبر الكتاب رفيقا ضروريا، يصبح من الطبيعي أن يكبر وهو يشعر بأن القراءة أمر هامشي أو نخبوي أو “لا يطعم خبزا”. ومع ذلك، ثمة مفارقة مثيرة: رغم كل هذه الصعوبات، هناك جيل جديد من الشباب المغربي بدأ يقتحم عالم الكتابة والنشر، رغم قلة الإمكانيات، ورغم ضعف الدعم المؤسسي. وسائل التواصل الاجتماعي لعبت دورا مهما في هذا الصدد، إذ أتاحت للشباب فضاء بديلا للتعبير والتجريب ونشر النصوص، وأحيانا لبناء جمهور صغير لكنه حقيقي.
هذا التحول الرقمي، رغم ما فيه من اختزالات وتشويش، أعاد للشباب بعض الثقة في أصواتهم، وفتح أمامهم إمكانيات جديدة للتعبير. ما أراه هو أن هذا الجيل، رغم التحديات، يحمل طاقات كبيرة، وحساسية خاصة، وقدرة مدهشة على التجديد. فقط يحتاج إلى من يؤمن به، إلى فضاءات تتيح له النضج والتطور، وإلى شبكة دعم حقيقية: نقد صادق، قراء متفاعلون، ناشرون يؤمنون بالرهان الجمالي لا فقط الربحي، وصحافة ثقافية تفتح الأبواب بدل أن تكرس نفس الأسماء. أقول أخيرا: القراءة هي الجذر، والكتابة هي الثمرة، والنشر هو الجسر. وإذا لم نعتن بالجذر، فالثمرة ستكون بلا طعم، والجسر سيبقى معلقا في الهواء.
المصدر: العمق المغربي