سارع بإحراز نصف العلم بكلمة لا أدري
حقيقة أنه كثيرا ما يجرفنا تيار النقاش في أي لقاء أو اجتماع سواء مع الأصدقاء والعائلة أو داخل العمل خصوصا حينما يُثار سؤال في مسألة من المسائل الاجتماعية أو السياسة أو الرياضية أو الاقتصادية نجد أن كل طرف منا يبادر بالإجابة بحكم إلمامه ببعض جوانبها وهذا ليس بالعيب والخطأ، لأن هذا النقاش قد يخلق نوع من الالفة والدفيء العائلي وتبادل وجهات النظر الحميدة، لكن عندما يتعلق السؤال والنقاش بعلم من العلوم التي تتطلب نوع من الدقة والبرهان، كعلوم الرياضيات أو الطب أو الدين والشريعة السماوية فإن القضية قد تأخذ منحا مختلفا، وتجانب بعدا أخر يقتضي الرجوع إلى المصادر والتحاليل والبرهان والتوفر على آلية الاجتهاد التي تعطيك قدرة الإستنباط والقياس وغيرها من البراهين نظرا لخطورة سوء اجابتها، لأنها علوم دقيقة ومقيدة قاطعة، لهذا فهي موكلة على رجال ذوات الاختصاص رجال رسخو فيها رسوخا العلماء والحكماء، لهذا فمن الخطأ العبث فيها من خلال الافتاء دون علم مسبق ومحكم وهذا ما اصبحنا نعيشه ونراه في وقتنا الحاضر من خلال تجرأ بعض الأشخاص من خلال الكتابات والصوتيات عبر القنوات الالكترونية بالإجابة وإعطاء براهين دون علم وتدقيق مسبق ولو حتى الاستعانة بمشورة المختصين في هذا المجال، حيث أنه من المفروض أن يوجه هذا السؤال أو النقاش أمام عالم أو فقيه او طبيب مختص، ولكن المسألة هكذا والحال كما نعلم أننا أحيانا نسأل ولا نفكر مسبقا من يجب أن نسأله وعما نسأل فيه. على الرغم من أن الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم قد وجهنا بقوله 🙁 واسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون )، وبطبيعة الحال اللفظ يفيد الشمول والعموم، فيراد بأهل الذكر في الآية كل من له تخصص سواء كان في الطب أو الرياضيات والفيزياء او الفقه أو في علم الإلكترونيات أو في أي مجال من المجالات العلمية الأخرى التي تتطلب العلم والبرهان والتأكيد، وأظن أن العيب أحيانا يكون من السائل، ويستفحل هذا العيب وتتسع مساحته إن تمت الإجابة من شخص دون علم مؤكد، خاصة و أننا في الحقيقة مصابون بعقدة الإجابة عن كل وأي شيء، وهذه طبيعة خاطئة فينا وليعود بالله.
لأن العِلم، محيط وبحر ضخم، إن وقفنا على ساحله ظَننا لِجَهلِنا أننا قد نرى نهايته، أَما إِذا ابحرنا فيه فسنعلم كلما تعمقنا في السباحة والغوص فيه، نكتشف ما لم يخطر على بالنا، لأن كل ما ندعيه من معرفة، ونتفاخر فيه من علم، ليس بشيءٍ أمام ما نجهله من علوم ومعارف. وكُلَما ازدَدنا يقيناً بِسِعَةِ العِلمِ، عَلِمنا بلاشك أَن معرفتنا تَتَضَاءَلُ أمام هذه المحيط الضخم والشاسع. فإذا تصلبنا بحقيقة التواضع، قد تفتح لنا أبواب من أبواب المعرفة، لأنه لا يمكن أن يتعلم الشخص فينا الحامل في جسده وعقله الكبر والاستعلاء. وكلما اتَسَعَت المَسَاحُةُ بينَنا وبين التفاخُر، اقتَرَبَت المسافَةُ بيننا وبين التعَلم، فالعاقل منا من يُجبِر نفسه على التواضع، واضعا بين اعينه حقيقة مفادها، هي أنك لا تعلم شيئاً، إذا قِستَ ما تعرفه مع ما لا تعرفه، ونتيجة هذه المعرفة والسلوك يجب أن تسري على لساننا كلمة، لا أدري! مبتعدين عن الخجل منها، ومقتنعين بوجوب استخدامها، للتعبير عن واقع حالنا، فمن يعترف بأنه لا يدري، يمكن أن يبدأ السير في طريق التعلم الطويل، حقيقة أن كلمة لا أدري ليست ضمن قاموسنا اللغوي، ولا نجد لها محلا من الإعراب في ثقافتنا المجتمعية معتقدين أنه من يدعيها منا فهو جاهل وكسول وستنقص من شخصيته، وهذا هو العيب في حد عينه، حيث قال علي بن أبي طالب ” ما أبرد على القلب! إذا سُئِل أحدكم عما لا يعلم، أن يقول: الله أعلم”. وكذلك نجد عمر بن عبد العزيز يقول ” من قال لا أدري فقد أحرز نصف العلم” وبينما أنا افكر جليا في هذا المقال، استحضرني موقفين الاول للإمام مالك بن أنس، حينما كانت تطرح عليه مسألة من المسائل الفقهية فيجيب على الأكثر منها بكلمة” لا أدري”، فتبث عنه أنه كان يقول: ” جُنَّة العالم قوله: لا أدري، فإذا أغفلها أصيبت مقاتله ” هذا الجواب الذي راود عقلي وجعلني أتأمل وأسأل نفسي، خاصة وأنني أقف عند هرم من أهرام الفقه والعلم، هل هو تواضع منه؟ ام فعلا كان لا يدري ؟ ففي الحقيقة أنني أشك في عدم معرفته وجهله للجواب، فمالك مفتي المدينة، وهو الذي قيل عنه: ” لا يٌفتى ومالك في المدينة “، إضافة إلى أنه كان من كبار عصره وقطب من أقطاب مدرسة الحديث والأثر، لهذا لا اتصور أنه لا يعلم الإجابة عن مسائل كثيرة من الأسئلة التي تطرح عليه، وهذا ما نجده عكس ما يحدث في يومنا الحالي من علماء لا يمكن ان تصل الى مستواه فرغم ذلك نجدهم يجيبون على أي شيء، لهذا اعتقد انه من خلال جوابه هذا كان يعطي ربما عبرة للعلماء والباحثين القادمين أن كلمت لا ادري هي في حد ذاته جواب وتواضع وجزء يجب أن لا يغفله الناس لأن من يدعي العلم المطلق فهو كاذب، وخير دليل على هذا ادعاء كليم الله موسى العلم دون قصد فأجابه الله فورا ان هناك شخص اقل منه شأن اكثره علما وهو سيدنا الخضر فتعلم موسى من هذا واستغفر ربه فورا فلو كان أحد مكتفياً من العلم، لاكتفى منه موسى عليه السلام، حين قال ” هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا” اما ابليس وليعود بالله فنظرا لتكبره وادعائه اكثر علما وقيمه وتكبر فقد لعنه الله من رحمته.
لذا فالإجابة في بعض الأحيان بكلمة لا أداري لا تُنقص العالم قدره ولا تقلل من منزلته، بل هي حال من التواضع والتحري والدقة في طلب الحق، ولا بأس إن جهل العالم الإجابة في بعض الأحيان واعترف بذلك ورجع إلى مراجعه حتى يبحث عنها أو ليتأكد مما يتوفر لديه وما اهتدى إليه، فالعلم أمانة والعالم حاملها، ومن شأن هذا اللون من التواضع العلمي أن يجعل المرء مُقبِلاً على التعَلم إِقبالا بِلا فُتور، حريصاً على التزود من المعرفة، في كل زمان ومكان، باحثاً دونَ مَلَلٍ عن الفائدة، مهما كان مَصدَرُها، طالباً المعلومة، أَيّاً كان مَورِدُهَا، وهذا في الحقيقة، هو ما يَجعَلُ المَرءَ منا أَكثَر عِلمَاً، وأَغزَر معرفة، لأنَّه بهذا المستوى يَتَعَلَمُ على الدوام، ويَجذِبُ إليه من يَجُود بالفائدة، وينطق بالمعرفة، كما يجب على الملتقي او السامع كيفما كان شأنه شخص عادي او رئيس او عالم ان لا يقلل من شأن الشخص الذي يجيب بكلمة لا أدرى وينزل من قدره، حتى لا ينتشر التدليس وتتسع مساحات الادعاءات الفارغة والخاطئة وتصبح من السلوكيات الجماعية لدينا، ونتظاهر بعلم ما لا نعلمه، وبالتالي يتم تعطيل عملية التعلم الحقيقية لدينا.
المصدر: العمق المغربي