(قصة قصيرة جدًا)
اجتمع زعماء الأحزاب وعددٌ من النواب ونخبةٌ من المثقفين حول طاولة طويلة، دعا إليها المصرفي الثري عِماد بنكحلون. عِماد رجلٌ لا يبتسم إلا للأرقام، لكنه هذه المرّة كان يبتسم لفكرة غريبة عن قاموس اهتماماته. خاطب الحاضرين قائلًا:
“أقترح أن تُبحر الباخرة محمّلة بدقيق القمح والزيت والسكر يوم الاثنين من الأسبوع القادم. علينا أن نُسرع بتجهيزها في أقرب وقت. سنتحمّل في مصرفنا مصاريف الرحلة والمساعدات بالكامل. نحن أولى من غيرنا بدعم شعب زيتونة المحاصر. علينا أن نكسر هذا الحصار الظالم على أشقائنا في زيتونة.”
بعد أيام، وفي قصره الفخم بالعاصمة، جلس الثري عِماد بنكحلون أمام هاتفه الذكي، يتابع مسار باخرة محمّلة بأطنان من دقيق القمح والزيت والسكر، موّلها مصرفه. قطعَت عليه مكالمة هاتفية من صحفي مرموق مهتم بالحدث متابعته لأخبار الباخرة في وسائل الإعلام والمواقع الرقمية. سأله الصحفي:
كيف لا ترافق الزعماء السياسيين والنواب والمثقفين وصناع الرأي والمؤثرين في الباخرة التي أبحرت نحو زيتونة لمساعدة شعبها وفك الحصار الظالم عنهم؟ وأنت مهندس المبادرة وممولها، سي عِماد؟
“لستُ رجل شعارات. دوري أن أدفع الفاتورة.” أجاب الثري ببرودٍ ونبرة لا تخلو من جفاء.
على رصيف ميناء متوسطي كبير، احتشد الصحفيون والكاميرات. صعد النواب والزعماء واحدًا تلو الآخر، يتبارون في الخطب والتصريحات عن “الواجب الإنساني” و”التضامن العربي” و”الأمة الإسلامية”.
في قاعة الطعام على متن الباخرة، تحوّل الجو إلى منبر انتخابي:
“ستُكتَب هذه المبادرة في سجل تاريخ الشعوب!” صاحت نائبة يسارية.
قاطعها إسلامي بنبرة تحدٍّ:
“بل ستُكتَب باسم الأمة الإسلامية.”
ضحك زعيم حزب محافظ وهو يحدّق في هاتفه الذكي:
“هذه الملحمة امتداد لكفاح الحركة الوطنية ضد الاستعمار. زيتونة جزء من وطننا العربي الكبير.”
تدخّل كاتب فرنسي من أصول شمال إفريقية، يُقيم في باريس ويشارك في الرحلة:
“يجب صياغة بيان بثلاث لغات ليُقرأ لحظة رسوّنا! أقدّم لكم هذه المسودة بلغة موليير.”
رنّ هاتف القبطان، وكان على الخط السي عِماد. خيّم الصمت على الجميع وهم يتابعون حركات وملامح القبطان، الذي خاطب الجمع بعد نهاية المكالمة:
“السيد بنكحلون يحييكم ويطمئنكم بأن جهات عليا رتّبت كل شيء، ويؤكد لكم أن دخولكم إلى ميناء زيتونة سيكون آمنًا.”
بعد أيام، في مياه المتوسط، بين الخطب الرنّانة، ظهرت سواحل زيتونة. ارتجّ المركب على وقع رصاص تحذيري من زوارق الاحتلال، ودبّ الرعب في النفوس.
اختبأ نائب خلف كيس دقيق وهو يصرخ: “نحن من بلاد النسناس، لا تطلقوا النار!”
آخر سجد متوسّلًا: “نحن إخوانكم من ساحل بحر الزقاق!”
رفع الكاتب جواز سفره الفرنسي يلوّح به وهو يصرخ: “إذا أصبتموني ستغضب فرنسا!”
لم يجد نائب برلماني عن حزب إسلامي سوى الدعاء وهو يتدحرج خلف حاوية معدنية، يردد مرتعدًا المعوذتين.
اتصل أحد النواب بعماد بنكحلون يصرخ:
“سي عماد، إنهم يطلقون النار علينا! كان عليك أن ترافقنا في هذه الرحلة! اتصل بأصدقائك فورًا!”
أجابه بسخرية واستخفاف:
“أنا أدفع، وأنتم تُمثّلون. لي مصالحي، ولكم شرف البطولة. كان هذا اتفاقنا، أليس كذلك يا حضرة النائب المحترم؟ لكن لا تقلقوا، لن تصابوا بأي أذى. كل شيء مُرتّب بعناية.”
جنود الاحتلال في حالة تأهب، وطائرة مسيّرة تحلّق فوق الباخرة. أحد الضباط يأمر عبر مكبرات الصوت قبطان الباخرة بالتوقف وصعود كل ركابها إلى السطح. ساد الصمت لبعض الدقائق، قبل أن يصدح صوت ضابط قوات الاحتلال عبر مكبرات الصوت مرة أخرى، آمرًا الجنود بالتراجع وفسح الطريق للباخرة لدخول ميناء زيتونة.
استقبلهم الزيتونيون بالدموع والتكبير، والتقطوا أكياس الطحين بشغف وكأنها كنوز ذهب. وعلى الرصيف، تزاحم السياسيون والزعماء أمام الكاميرات، بعضهم حمل كيسًا على كتفه ليلتقط صورة البطل.
في حي راقٍ بعاصمة بلاد النسناس، عبدالإله يُصفق بحماس وهو يتابع خبر الباخرة التي هزمت جيش الاحتلال، واخترقت الحصار الظالم، ورسَت محمّلة بالمساعدات في ميناء زيتونة. لكن يدًا باردة أيقظته من الحلم. لم يكن هناك ميناء ولا باخرة. كان ممتدًا في صالون بيته الفسيح، يتابع برنامجًا حواريًا، حين أخذته غفوة واستسلم للنوم، حتى أيقظته زوجته تهزّه بيدها تدعوه لصلاة الظهر قبل تناول وجبة الغداء.
فتح عبدالإله عينيه متثاقلًا. لا ميناء ولا باخرة ولا هم يحزنون. فقط قناة غربية تُعلن خبرًا عاجلًا:
“خمسون باخرة أقلعت من إسبانيا، على متنها ناشطون معظمهم من غير المسلمين، لكسر حصار غزة.”
ابتسم بمرارة، وتمتم:
“حتى في أحلامنا… نصل متأخرين.”
بعض الأسماء وإن تشابهت فهي من وحي الخيال.
زَيْـتُونـَة .
المصدر: هسبريس