زاوي يسلط الضوء على منطق العروي
ينتسب كثيرٌ من القراء “لعبارة العروي لا لمنطقه”، وفق كتاب جديد يهتم بمُنجَز المفكر والمؤرخ المغربي عبد الله العروي، يقول: “كلٌّ يجد في العروي غرضه منه، فيحلّ التأويل محلّ القراءة، وتُقرأ كتب العروي جزُراً لا تربط بينها جسور، وفي أحيان كثيرة يصحّ النقل لا الفهم”.
الكتاب جاء بعنوان “مُنجَز عبد الله العروي: مقدمات في التأسيس النظري”، وصدر عن مركز المغرب الأقصى للدراسات والأبحاث، حيث خلص الباحث محمد زاوي إلى أنه ليس فقط كتاب “الإيديولوجيا العربية المعاصرة”، الصادر سنة 1967، الذي لم يستنفد أغراضه، بل “كافة مشروع العروي”؛ فـ”كيف نفهم التاريخ، الدولة، الإيديولوجيا، الحرية، العقل، الوطنية، الدين، الأدب، الثقافة، الحداثة إلى آخره؟ أو كيف تفهمها نخبنا المثقفة على الأقل؟”.
ومازال العروي “كلّما غابت النظرية في ذهننا الجمعي” يذكر “بالطريق الصحيح للوعي بالتفاوت، كلما ضللناه”، وهذه “أهمية العروي النظرية التي تفوق فيها على جيله”، حَسَبَ الكتاب الجديد.
ويستحضر المصدر الجديد كتابات عبد الله العروي الصادرة في السنوات العشر الأخيرة، قائلا: “مَن يطلع على كتابه المترجَم مؤخراً بعنوان ‘الفلسفة والتاريخ’ يعرف إلى أيّ حد استطاع عبد الله العروي الإلمام بالفكر الغربي، بمدارسه وآفاقه في الحياة المادية والنّفسية للإنسان الحديث؛ فمن يريد قراءة فكر العروي، أو محاورته، مطالب بقراءة هذا الكتاب، لأنّ معرفة موقع المحاوَر أو المقروء له كفيلة بطي مسافات طويلة من الخلاف، وهذا ما يفتقر إليه لا منتقدو العروي فحسب، بل قراؤه والمنتسبون إليه أيضاً”.
ويتابع المؤلف: “من يقرأ كيف يتحدث العروي عن ‘الماركسية الموضوعية’ في كتابه الأخير ‘أوراق كوفيد’، وكيف قال إنّها كفيلة بتنظيم الفهم وترتيب الوعي بمنجز الحداثة، كذا بالتفاوت بيننا وبين الغرب؛ من يقرأ ذلك يعلم أنّ قراءة العروي مرحلة لاحقة لمراحل أخرى سابقة من التحصيل والدراسة”.
بل حتى تقييدات العروي اليومية في سلسلة “خواطر الصباح” ذكر الكتاب أن قارئها “بذهن حاضر وقراءة متأنية”، يكتشف “سر اكتناز العبارة في فكر العروي، ويعلم أنّ للتعقيد في كتابته أصلاً في موسوعية تكوينه وتعدد اهتماماته الأدبية والعلمية والفلسفية”.
وتروم دراسات هذا الكتاب “البحث عن التفصيل في فكر العروي”، وهو تفصيلٌ يقدّر الباحث زاوي أنه “همّشته العموميات، إذ يردّدها من يدعون وصلاً بالعروي؛ ففيما يبني هو نصَّه على التفصيل وتدقيق المعرفة نحا بعض قرائه بفكره منحى مثالياً لا يُميّز ماركسيته عن باقي الماركسيات، ولا تاريخانيته عن باقي التاريخانيات، حداثته عن باقي الحداثات، وطنيته عن باقي الوطنيات، علاقته بالتراث عن باقي العلاقات، وهكذا”.
وبالتالي هذا الكتاب الجديد “بمثابة تنبيه إلى التفصيل المغمور في مشروع العروي، أو إلى تلك الأفكار والمناهج المرجعية على أهميّتها ومركزيتها تُهمَل في كمّ هائل من القول التبشيري”.
ومع استحضار اختصار أبي حامد الغزالي “برهان” شيخه الجويني في “المنخول”، واختصار ابن رشد الحفيد “مستصفى” الغزالي في “الضروري في أصول الفقه”، وتدوين فلاديمير لينين محاولته لفهم الجدل الهيغلي في كتابه “دفاتر عن الديالكتيك”، ذكر العمل أن “الاختصار بداية محاولة للكشف عن الجوهري في فكر ما، بحث عن حدود الالتقاء والافتراق مع اجتهاد فكري أو علمي بعينه”.
ليسترسل الكاتب: “الذين مرّوا على وجه العجلة لنقد العروي، أو لعرض آفاقه وكشف أغراضه ومقاصده في العمل والممارسة؛ هؤلاء وأولئك لم تسعفهم طبائعهم، أو تقاعس هممهم، في إعمال قراءة متأنية في مشروع العروي. ربما (…) فرّوا من اختصار النص إلى ‘تحريفه’، وهنا نفهم قول العروي: ‘إنّ كتاب «الإيديولوجيا العربية المعاصرة» لم يستنفد أغراضه بعد’ (في ندوة أقيمت على شرف الكتاب بالدار البيضاء)؛ لو فهِم لا ستنفد أغراضه كتدوين، لو أصبح سياسة لاستنفد أغراضه كفكر”.
ويتطلع العمل الجديد إلى “الإيضاح والإفهام والبحث عن روحٍ من العروي في شؤوننا الخاصة والعامة”، ويعد القارئ بأن يجد فيه “الاختصار والإيضاح”، و”المقارنة والاجتهاد في كشف أسرار المكتنز من نص العروي، استصحاب العروي لشرطنا الحالي”.
ويقدّم المنشور “خارطة طريق لقراءة مشروع عبد الله العروي”؛ هي محاولة مبنية “على علاقة خاصة بنص صاحب ‘الإيديولوجيا العربية المعاصرة’، قد تفيد من يتلّمس لتوه طريقه إلى هذا المشروع المتشعب والإشكالي”، كما يقرأ “الإيديولوجيا العربية المعاصرة” على ضوء سجال وواقع جديدين، مع التركيز أيضاً على بعض القضايا التي ظلت مغمورة في نصّها.
ويختصر الكتاب الجزء الأول من كتاب “مفهوم التاريخ”، حيث “تطرّق العروي لعدد من المفاهيم والإشكاليات الرئيسية الضرورية لمن يزاول مهنة (التأريخ)”، مع استنتاجه “نظرية الدولة من كتاب ‘مفهوم الدولة’، حيث يناقش العروي أهم المرجعيات الفلسفية والفكرية المؤسّسة لنظرية الدولة، وحيث ينقد بعضها ببعض إلى أن يضع خلاصة نقده في ‘تركيب نهائي’ يجمع بين هيجل وفيبر وماركس”.
ويشير المصدر إلى أهم الموضوعات التي تضمنها كتاب “من ديوان السياسة”، حيث “ينتقل العروي من السياسة بمعناها العام إلى السياسة بمعناها الخاص، ومن مناقشة النوازع كدوافع للسياسة إلى مناقشة السياسة في خصوصيتها المغربية”، ويقدّم أيضا قراءة سياسية في “مفهوم الحرية”؛ تسلّط الضوء على “المسار الفلسفي لتبلور نظرية الحرية في الغرب، مع التمييز بين ما هو منها من النظرية وما هو من الدعوة أو الطوبى، وكلها في سياق علاقة جدلية بالواقع السياسي، حيث تمارَس السلطة”.
ويبحث الكتاب عن ماركسية العروي في كتابه “مفهوم الإيديولوجيا”، ويتتبّع جدلية الديني والسياسي في كتاب “السّنة والإصلاح”، حيث “يمزج العروي بين منهجين في تناول الظاهرة الدينية؛ منهج تاريخي يفسّر الظاهرة بشروطها التاريخية، وتخمين وجداني يحاول من خلاله البحث عن تفسير لغير المفسر”.
ويكشف العمل عن نوع العقيدة التي يميل إليها العروي من خلال تعريبه “عقيدة قس الجبل” (دين الفطرة) لجان جاك روسو، مع إعمال مقارنة بين مَيل العروي من جهة، وموقفَي كل من أنور عبد الملك وعبد الصمد بلكبير، ثم يقدّم الوعي بالحداثة وما بعدها من خلال محاضرة العروي الصادرة بعنوان “عوائق التحديث”؛ لأنه “بالوعي نستوعب الحداثة الغربية بدل أن تمكر بنا، أما معاداتها اللاواعية فليست في صالحنا”.
ويبرز الكتاب أيضا موقف العروي من الاستعمار؛ فهو إشكالية اهتم بها عكس ما ساقه المفكر محمد عابد الجابري في هذا الباب.
ويشدّد المؤلف على أن المغرب، وبالتبع المنطقة العربية؛ يجنيان اليوم “نتيجة غربة أمثال العروي في مجتمع يطلب التحديث”؛ فـ”نرى بالضبط من يعارض الدولة في مشروع التحديث، نرى من يتكلم في السياسة بمنطق ‘العقيدة’، من ‘يفهم’ الاقتصاد بمرجعية أخلاقية، من يطالب بالحق ليس في العيش فحسب بل في إقامة ‘طوباه’ أيضاً، من يحاسب التدبير الفقهي بمنطق ‘التقليد’ لا بمنطق ‘المصلحة’، من يحرج الدولة بقراءة عقائدية في تاريخ المغرب؛ هؤلاء هم بالضبط خصوم العروي، وهم في الوقت نفسه خصوم إستراتيجيون للدولة”.
ومن بين أسئلة الكتاب الكبرى “أليست الدولة اليوم في حاجة إلى مشروع العروي أكثر من أي وقت سابق؟!”، ومن أجوبته أنْ “لا غنى للنخبة المنضوية في مشروع الدولة، أو تلك المرتبطة به، عن الاهتمام بالعروي؛ قد لا يروقها سقف مطالبه في السياق الحالي، لكنها في مشروعها ترى ‘مغرب اليوم’ في ‘مغرب الغد’، يلهمها الأفق في واقع غير مسعف، تختبر نظرياً ومستقبلياً إلى أي حدّ يمكن للعقل المغربي أن يعرف قضاياه معرفة ملموسة، تتوخّى الإنتاج في التاريخ، لا التيه في عوالم غير ملموسة وقابلة للخلاف”.
المصدر: هسبريس