في زمنٍ باتت فيه المنصات الرقمية تقيس قيمة الإنسان بعدد المتابعين، وتُقيّم فكره ببلاغة منشوراته لا بعمق أفكاره، أصبح من السهل أن تصادف “مثقفًا” يحمل لقب دكتور، وصورة بنظارات وبدلة رسمية، ومنشورًا مزيّنًا باقتباس من نيتشه أو فوكو، فتظنه مرجعًا في زمان التباس. لكن ما إن تخدش هذا الطلاء اللامع، حتى ينكشف زيف المعنى: كلمات رنانة بلا جذور، لغة متعالية بلا مضمون، حضور طاغٍ على الشاشة، وغياب تام عن العمق.
هنا تبدأ ظاهرة يمكن تسميتها بـ “الرياء الأكاديمي” تلك الحالة التي يتحوّل فيها الفكر إلى عرض، والمعرفة إلى تمثيل، والباحث إلى ممثل بارع في مسرح الأنا الرقمية.
في عالمٍ أصبحت فيه وسائل التواصل الاجتماعي منابر للظهور لا للجوهر، ومواضع للعرض لا للعمق، نشهد طغيان نوع خاص من المثقفين: “الأكاديمي المتشبه”. لا هو باحث جاد، ولا قارئ عميق، لكنه ماهر في محاكاة نبرة الوقار، وفي تقليد هيئة العارفين. صفحته مكتظة بالصور الجادة، وبالاقتباسات المنزوعة من سياقها، مغموسة بتصنّع فلسفي ركيك، وأسلوب متكلف لا يُقنع من يعرف الفرق بين العمق والتطويل، وبين النقد والثرثرة.
ليس الرياء الأكاديمي نابعًا من قلة الأطروحات أو الجهل بالمنهج فحسب، بل من زيف النوايا. لا يبحث صاحبه عن الحقيقة، بل عن الجمهور. لا يقيم ميزانًا للعلم، بل يُكيّف العلم على مقاس هويته الرقمية. لا يطلب الفكرة، بل الرتبة. لا يهمه أن يصيب، بل أن يُصفّق له. يغدو العلم زينة، لا وسيلة. ويغدو الباحث خطيبًا، لا سامعًا. ويُصبح السؤال الأهم: كم حصدت منشوراتي من إعجابات؟ لا: كم غيّرتني أفكاري؟
في قلب هذا الرياء، تتجلّى واحدة من أكثر الصور تكرارًا على صفحات الأكاديميين المتكلفين: نشر غلاف الكتاب. ليس في سياق مراجعة أو تحليل، بل كوسيلة لالتقاط صورة. يلتقط غلاف الكتاب كما يلتقط سيلفي أمام مرآة الصالة… لا فرق بينهما سوى أن المرآة تعكس وجهه، والغلاف يعكس خواءه.
هذا الفعل الذي يبدو عابرًا، يحمل في طياته رمزية ساطعة: غلاف يُستخدم كزينة، كواجهة، كدليل مزيف على العمق. لا أحد يطلب منه تلخيصًا، ولا يتوقع أحد منه رأيًا، لأنه لم يعتد أن يُنتج، بل أن يُشير إلى الإنتاج كما يُشير المغني إلى كلمات أغنية لا يحفظها.
هذا النموذج من “الباحث المتصنّع” يحتمي أحيانًا بلغة تقنية مفرغة، يكثر من أسماء المفكرين كما لو كانوا تمائم أو زينة لغوية، لا سياقًا معرفيًا. يُفرط في الاقتباس، لكنه لا يُنتج. يُغرِق في الحشو، لكنه لا يُحرّك. يتحدث عن التفكيك، ولا يُمارسه إلا على خصومه. عن الحياد، ولا يطبّقه إلا على المجهولين. وعن العقل، لكنه يُعطّله في حضرة رأيه.
الخطير في هذا النوع من الرياء أنه يتخفى في زي المصداقية. يبدو وقورًا، منطقيًا، متزنًا. لكنه لا يُنصت، لا يُراجع، لا يتعلم. يخشى الحوار الحقيقي لأنه يكشف خواءه. ولذلك يُحيط نفسه ببيئة لا تعارض، بمتابعين يُطبلون له، أو بأقران يتبادلون المجاملات كما يتبادل الساسة الابتسامات الدبلوماسية.
لقد أصبحت وسائل التواصل ميدانًا لعرض الشهادات لا لتجربة الفكر، ولممارسة التذاكي لا للتفكر، ولم يعد من الغريب أن يعلو من يصرخ، ويغيب من يفكر، ويُحتفى بمن يصوغ منشورًا خادعًا بلغة أكاديمية خشبية، بينما يُهمّش من يبني فكرة أصيلة دون تكلّف.
الرياء الأكاديمي ليس مجرد سلوك فردي، بل هو أزمة وعي جماعي. حين تُقاس القيمة بعدد المتابعين، والمكانة بكمّ الاقتباسات، والمصداقية ببلاغة المنشور لا بمراجعه، فإننا لا نصنع مثقفين، بل ننتج واجهات لامعة لفراغ معرفي. وهنا تبرز الحاجة إلى فقه جديد للعلم، يربط بين النية والطرح، بين المسؤولية والتعبير، بين القناعة والتواضع.
فالمثقف الحقيقي لا يسعى ليُرى، بل ليُنير. لا يكتب ليثير، بل ليبني. لا يحتكر الفهم، بل يُشرّعه للنقاش. أما “الأكاديمي المتفذلك”، فسرعان ما ينكشف، لأن المعرفة لا تخدع، والنية تفضح نفسها ولو بعد حين.
قال الله تعالى: ﴿كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ [الصف: 3] فكيف إذا كان ما يقولونه لا يعلمونه أصلًا، وما يزعمونه لم يدرسوه، وما يُظهرونه لم يعيشوه؟
الرياء الأكاديمي ليس مجرد تصنّع علمي، بل انفصال عن الصدق الداخلي. والحل ليس في الرد عليه بالصوت العالي، بل بالثبات على العلم الحق، وبالكتابة التي تصدر من تجربة، وبالصمت حين يكون أبلغ من الزيف.
رياء أكاديمي .
المصدر: هسبريس