في مواجهة أحد أكثر التحديات تعقيدًا في القرن الحادي والعشرين، متمثلا في شح المياه الناتج عن تغيّر المناخ وارتفاع حدة الظواهر الجوية المتطرفة، الذي صنفه تقرير المخاطر العالمية لسنة 2025 الصادر عن “المنتدى الاقتصادي العالمي” في المرتبة الثانية بين أبرز المخاطر التي تهدد الاستقرار العالمي، تبرز دول شمال إفريقيا كساحة اختبار حاسمة في مواجهة هذا التحدي الذي يمس الأمن القومي لهذه البلدان التي تُعدّ من بين الأكثر تضررًا من الإجهاد المائي على مستوى العالم.
وبحسب المنظمة العالمية للأرصاد الجوية، في أحدث تقرير لها حول “حالة المناخ في إفريقيا لسنة 2024″، شهدت المنطقة الشمالية الغربية من القارة الإفريقية العام الماضي كميات هطول أمطار أقل بكثير من المعدلات الطبيعية، إذ تراوحت ما بين 150 و250 ميليمتراً مقارنةً مع متوسط الفترة المرجعية 19912020 التي اعتمدها التقرير ذاته؛ فيما كان متوسط مجاميع هطول الأمطار خلال السنة الماضية على مستوى المنطقة أقل بنحو 20 في المائة بالمقارنة مع الفترة المرجعية نفسها.
دفع هذا الوضع، المصحوب بارتفاع الضغط على الموارد المائية التقليدية بسبب النمو الديمغرافي، دول الشمال الإفريقي إلى إرساء إستراتيجيات وطنية لإدارة الموارد المائية وضمان الأمن المائي لمواطنيها، ومن ثم الأمن الغذائي، نظرًا لاعتماد دول المنطقة بشكل كبير على الزراعة كمصدر أساسي للغذاء والاقتصاد، من خلال التفكير في حلول غير تقليدية لتأمين احتياجاتها المائية، من أبرزها تحلية مياه البحر، ولاسيما أن دول المنطقة تطل على واجهات بحرية شاسعة، ما يتيح استغلال مياه البحر لتحويلها إلى مياه صالحة للشرب وللزراعة أيضًا.
بدأت أولى تجارب تحلية المياه على مستوى المنطقة في ليبيا، أوائل ستينيات القرن الماضي، قبل أن تتوسع هذه التقنية لتشمل دولًا أخرى في المنطقة، كالمملكة المغربية والجزائر وجمهورية مصر العربية، إذ توجد حاليًا واعتبارًا من سنة 2020 133 محطة للتحلية قيد التشغيل أو قيد الإنشاء في الأردن وتونس ومصر وجيبوتي والمغرب والجزائر، حسب التقرير العربي للتنمية المستدامة لسنة 2024 الصادر عن “لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا”؛ فيما استثمرت بعض هذه الدول مليارات الدولارات في مشاريع التحلية خلال السنوات الماضية.
وفي خضم البحث عن حلول لهذا التهديد المائي متعدد الأبعاد تبرز التجربة الروسية، حسب خبراء ومتخصصين في إدارة الموارد المائية، كنموذج ملهم لدول المنطقة في مجال الإدارة المتكاملة للموارد المائية، إذ تعمل على دمج تقنيات التحلية مع حلول الطاقة المستدامة، ما يجعل من التقاطع بين التحدي المائي الملح في شمال إفريقيا والخبرة الروسية في هذا المجال فرصة فريدة لبناء تحالف إستراتيجي يتجاوز النماذج التقليدية للتعاون التقني.
في هذا الصدد تقول ريم جودات سلمان، باحثة في مجال علم الهيدرولوجيا بجامعة سانت بطرسبورغ الحكومية، إن “الأهمية التي تحتلها المياه في تطور مستوى معيشة السكان في شمال إفريقيا وإفريقيا عمومًا كان لا بد معها من إدارة أفضل للموارد المائية، بما يسهم في تطوير الاقتصاد وتحسين نوعية البيئة وتحقيق الرفاهية الاجتماعية؛ لذلك اتجهت الأنظار نحو تحلية المياه المالحة المستمدة من المسطحات المائية والمياه الجوفية ومياه البحر التي تمثل مورّدًا سهل المنال لا ينضب”.
وذكرت الباحثة ذاتها، في تصريح صحفي لجريدة هسبريس الإلكترونية، أنه “لسنوات عديدة استُخدمت موارد المياه في إفريقيا بشكل غير فعال”، وزادت: “نتيجةً لضعف مستوى التعاون مع الدول الأخرى نشأ تأخر كبير في المجالات العلمية والتكنولوجية والطاقية، ما أضعف مكانة الدول الإفريقية على الساحة الدولية بشكل كبير”، مضيفة أن “روسيا أعربت في عديد المرات عن استعدادها لتقديم الدعم الشامل للدول الإفريقية في هذا المجال، ومشاركة خبراتها المتقدمة في مجال ترشيد استهلاك الطاقة والزراعة والثقافة السكانية، بما يخدم القارة”.
وسجلت المتحدثة أن “روسيا تشارك بنشاط في مشاريع مختلفة لبناء منشآت هيدروليكية كبيرة في إفريقيا، كما تتنوع الابتكارات الروسية في مجال تحلية المياه، وتشمل استخدام تقنيات النانو، والتبادل الأيوني، وتقنيات الضغط، بالإضافة إلى تطوير مواد حيوية ماصة لتنقية المياه من بعض الملوثات”، لافتة إلى أن “موسكو تدعم أيضًا برامج تعليمية للمتخصصين في مجال استخدام موارد المياه بهدف تحسين مهارات الكوادر المحلية، وتقديم المساعدة للدول الإفريقية في عدد من القضايا المتعلقة بالموارد المائية، بما في ذلك تطوير وتنفيذ مشاريع لبناء وإعادة بناء محطات الطاقة الكهرومائية والخزانات وغيرها من الهياكل الهيدروليكية التي توفر مصدرًا إضافيًا للكهرباء والمياه العذبة لسكان إفريقيا وقطاعها الصناعي”.
وأوضحت الباحثة في جامعة سانت بطرسبورغ الحكومية أن “اختيار التعاون مع روسيا تدعمه الحاجة إلى الطاقة، التي يمكن أن تجعل موسكو شريكًا إستراتيجيًا، خاصة أن الأمثلة كثيرة عما أنجزته من مشاريع مائية وطاقية أثبتت فعاليتها على مدى عقود، من بناء السدود في العديد من الدول، بما فيها مصر وسوريا، إلى المحطات النووية في مصر وتركيا، ما يبرزها كرائدة في هذا المجال وشريك مضمون قادر على إيجاد حلول ناجعة ومضمونة بشروط مناسبة”.
ويحتل ملف المياه مكانة إستراتيجية بارزة في أولويات قادة وحكومات دول شمال إفريقيا، نظرًا للدور الحيوي الذي تلعبه الموارد المائية في التنمية الاقتصادية والأمن الغذائي في هذه الدول. وقد تجلّى هذا الاهتمام من خلال إطلاق برامج ومشاريع طموحة تهدف إلى تعزيز إمدادات المياه وتطوير شبكات الإمداد وتحسين كفاءة استخدام هذا المورد الطبيعي.
في هذا الإطار أطلقت الحكومة المغربية، تنفيذًا لتوجيهات الملك محمد السادس، برنامجًا طموحًا لتعبئة الموارد المائية غير الاعتيادية لمواجهة حالتي الجفاف والإجهاد المائي، يستهدف تعبئة أكثر من 1.7 مليار متر مكعب من المياه المحلاة سنويًا بحلول عام 2030 لتغطية ما يزيد عن نصف احتياجات مياه الشرب من خلال التحلية، وتطوير صناعة وطنية متكاملة في هذا القطاع الواعد، إذ يتوفر المغرب في الوقت الحالي على 17 محطة للتحلية تنتج حوالي 320 مليون متر مكعب سنويًا، فيما هناك مشاريع أخرى قيد الإنجاز، أبرزها “محطة الدار البيضاء” التي ستصل قدرتها الإنتاجية إلى 300 مليون متر مكعب سنويًا، ستُخصص 250 مليون متر مكعب منها للتزود بالمياه الصالحة للشرب، و50 مليون متر مكعب للزراعة.
وفي مصر أطلقت الحكومة الخطة الإستراتيجية لتحلية مياه البحر (20252050) التي تستهدف في مرحلتها الأولى إنشاء 23 مشروعًا بطاقة إنتاجية تصل إلى 2.655 مليون متر مكعب من الماء المحلى يوميًا في أفق سنة 2030، و9 ملايين متر مكعب يوميًا بحلول عام 2050، إذ يملك هذا البلد العربي الذي يعاني من عجز مائي يُقدّر بـ 54 مليار متر مكعب سنويًا حوالي 100 محطة للتحلية، أشهرها “محطة العين السخنة” ومحطتا “الطور” و”الغردقة”.
من جهتها تستهدف حكومة الجزائر زيادة نسبة مساهمة محطات تحلية مياه البحر في توفير مياه الشرب إلى 72 في المائة، مع تسطير هدف الوصول إلى إنتاج أكثر من 5.6 ملايين متر مكعب من المياه بشكل يومي، حسب تصريحات رسمية لمسؤولين في هذا البلد الذي يشغّل عددًا من محطات التحلية، أبرزها محطة التحلية “فوكة2” بولاية تيبازة على الساحل المتوسطي. بينما تراهن تونس هي الأخرى على توسيع مشاريع تحلية المياه لمواجهة الشح المائي، مستهدفة رفع نسبة مساهمة هذه المياه المحلاة في مياه الشرب إلى حوالي 30 في المائة بحلول العام 2030.
هذه المشاريع الطموحة تواجه تحديًا مرتبطًا بارتفاع كلفة تشغيل محطات تحلية مياه البحر، ما يحتم على هذه الدول ضرورة البحث عن شراكات إستراتيجية مع دول تتمتع بخبرة وتقنيات متقدمة في المجال، فيما تبرز روسيا في هذا الإطار، وفق مهتمين، كشريك قادر على تقديم حلول متكاملة تجمع بين تكنولوجيا الطاقة النووية وتحلية المياه. وأكد دميتري كيريلوف، رئيس الوكالة الفيدرالية الروسية للموارد المائية، في حوار سابق مع وكالة “ريا نوفوستي” الحكومية، أن موسكو مستعدة لتقديم المساعدة ومشاركة خبراتها وتقنياتها في مجال إدارة المياه مع الدول الإفريقية.
وتعمل روسيا بنشاط على إبرام اتفاقيات تعاون مع دول شمال إفريقيا في مجالات إدارة المياه والطاقة، ففي نوفمبر من عام 2015 وقعت موسكو والقاهرة اتفاقًا بشأن التعاون في بناء وتشغيل محطة للطاقة النووية على أراضي جمهورية مصر العربية، تضمن التعاون في تشييد وتشغيل وصيانة وتطوير وحدات لتحلية مياه البحر، إلى جانب توقيع مذكرة تفاهم مع الجزائر في يوليوز من العام 2023 بشأن التعاون في إدارة الموارد المائية.
وفي الشهر ذاته، وعلى هامش أشغال القمة الروسية الإفريقية الثانية التي انعقدت بمدينة سانت بطرسبورغ الروسية، وقعت شركة “Water and Energy Solutions” المغربية مذكرة تفاهم مع شركة “Rusatom Smart Utilities” التابعة لشركة “روسآتوم” الحكومية في روسيا، بهدف العمل على تنفيذ مشاريع مشتركة في مجال تحلية المياه ومعالجتها باستخدام آليات وتقنيات هذه الشركة الروسية التي لها خبرة واسعة في إنشاء محطات التحلية، إذ سبق لها تنفيذ مشاريع مماثلة في عدة دول، منها محطة التحلية الملحقة بمحطة “أكويو” النووية في تركيا، التي سبق لوفد ممثل عن المكتب الوطني للكهرباء والماء الصالح للشرب بالمملكة المغربية زيارتها قبل سنوات.
في هذا الصدد قال رومان ريابتشيكوف، مدير العلاقات العامة في مكتب “روسآتوم” لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، في تصريح صحفي لجريدة هسبريس الإلكترونية: “الصناعة النووية الروسية تتمتع بخبرة طويلة في تطوير وتنفيذ تقنيات تحلية المياه، سواء في مواقع مستقلة أو مدمجة مع محطات الطاقة النووية”، مضيفًا: “على سبيل المثال كان هناك مجمع لتحلية المياه مرتبط بمحطة نووية تعمل بمفاعلات النيوترونات السريعة في ‘أكتاو’ بكازاخستان، وقد كان يزوّد المحطة والصناعة والسكان بالمياه العذبة، وواصل عمله حتى بعد إغلاق المحطة النووية في تسعينيات القرن الماضي”.
وتابع ريابتشيكوف بأنه “في شهر أبريل الماضي بدأ تشغيل مجمع ‘روسآتوم’ لتحلية المياه بقدرة 2000 متر مكعب يوميًا في موقع محطة ‘آكّويو’ النووية بتركيا، وسيقوم بتزويد المحطة النووية بالمياه المحلاة للاستخدامات المنزلية وأنظمة السلامة من الحرائق”، مشددًا على أن “مجمع تحلية مياه البحر، الذي يعمل بالطاقة الكهربائية المولدة من مصدره الخاص، يُعتبر مرجعًا دوليًا مثبتًا، إذ يجمع بين استخدام الحلول التقنية الخاصة بـ’روسآتوم’ والخبرة العالمية في تشغيل محطات التحلية؛ وهذا يشكّل دليلًا عمليًا على خبرة ‘روسآتوم’ وكفاءتها في دمج تقنيات التحلية والطاقة”.
وخلص مدير العلاقات العامة في مكتب الشركة الحكومية الروسية سالفة الذكر بمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا إلى أن “الميزة الأساسية لهذا النهج تكمن في توحيد صناعتين توفران أهم موردين للحياة البشرية: الماء والكهرباء، ما يخلق تجمعًا مواردياً فريدًا يضمن التنمية المستدامة للمنطقة”.
في سياق مماثل أكد أسامة محمد سلام، الخبير الدولي المصري في الموارد المائية، أستاذ باحث بالمركز القومي لبحوث المياه بمصر، أن “الخبرة الروسية في مجال المياه تقدم حلولًا مبتكرة في تحلية ومعالجة المياه، وتشمل تقنيات متطورة لا تقتصر على التناضح العكسي، بل تمتد لتشمل تقنيات أخرى، إذ ابتكر العلماء الروس محطات لتحلية المياه تعمل بالطاقة الشمسية، ما يوفر حلولًا مستدامة لمواجهة شح المياه عالميًا، كما طوروا تكنولوجيا جديدة لإنتاج مواد ماصة لتنقية المياه من الملوثات العضوية، وهي تقنية واعدة لمواجهة التلوث ونقص المياه العذبة”.
وأضاف الخبير الدولي ذاته، في تصريح صحفي لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن “هذه الابتكارات تعد جزءًا من إستراتيجية روسية أوسع لتقديم حلول متكاملة لإدارة المياه، تتجاوز مجرد بيع تقنية منفصلة”، مشددًا على أن “شركة ‘روسآتوم’ الحكومية الروسية تعد لاعبًا رئيسيًا في مجال التكنولوجيا النووية على مستوى العالم، وتكمن نقطة قوتها في قدرتها على دمج تكنولوجيا تحلية المياه مع حلول الطاقة النووية، ما يضمن مصدرًا مستدامًا وموثوقًا للكهرباء والحرارة اللازمة لعمليات التحلية”.
وأشار المتحدث ذاته إلى أن “هذه الشركة الروسية تستخدم تقنيتين أساسيتين في تحلية المياه، أولهما تقنية التناضح العكسي (RO) عبر استخدام الكهرباء المنتجة من المحطات النووية لتشغيل مضخات الضغط العالي، ثم تقنية التقطير متعدد التأثيرات (MED/MSF) عبر استخدام الطاقة الحرارية المهدرة من المفاعل النووي لتبخير المياه وإنتاج البخار”، مردفا بأن “من أبرز ابتكاراتها أيضًا تطوير المفاعلات النووية العائمة التي يمكن أن تتحول إلى محطات تحلية لإنتاج آلاف الأمتار المكعبة من المياه المحلاة يوميًا؛ إذ تعد هذه المحطات خيارًا جيدًا في المناطق الساحلية النائية التي تفتقر إلى الأراضي أو البنية التحتية، ما يوفر حلاً فريدًا يتناسب مع الظروف الجغرافية لمثل هذه المناطق”.
وذكر الخبير المائي نفسه أن “مذكرة التفاهم التي وقعتها ‘روسآتوم’ مع شركة ‘واتر أند إنرجي سولوشن’ المغربية تفتح الباب أمام التعاون لتوفير ما يُطلق عليها ‘المياه الخضراء’، إذ يُعدّ هذا المفهوم تطورًا لافتًا يربط تحلية المياه بالطاقة النووية كمصدر نظيف ومستدام، ويتوافق مع الأهداف البيئية للدول التي تسعى إلى تقليل انبعاثات الكربون”، مسجلاً أن “الميزة التنافسية لروسيا لا تكمن في أن تقنياتها أرخص بالضرورة من مثيلاتها الغربية أو الكورية، بل في نموذجها المتكامل الذي يجمع بين الطاقة والمياه”.
وأوضح الخبير ذاته أن “محطات تحلية المياه تتطلب تكلفة طاقية باهظة، وبالتالي فإن التعاون مع روسيا في هذا المجال، خاصةً من خلال المشاريع الإستراتيجية مثل ‘محطة الضبعة النووية’ في مصر، يمكن أن يُسهم في خفض هذه التكلفة؛ فرغم أن التكلفة الرأسمالية الأولية للمشاريع النووية ضخمة إلا أن تكاليف إنتاج الكهرباء من الوقود النووي أقل بكثير من الوقود الأحفوري”، وزاد: “هذا الخفض في تكاليف التشغيل على المدى الطويل يمكن أن يؤدي إلى انخفاض التكلفة الإجمالية للمتر المكعب من المياه المحلاة”، لافتًا إلى أن “المفاعلات النووية العائمة التي تطورها ‘روسآتوم’ يمكن أن تُعدّل لإنتاج 240,000 متر مكعب من المياه العذبة يوميًا”.
وتفاعلًا مع سؤال لهسبريس حول أهمية انخراط القطاع الخاص إلى جانب الأطراف الحكومية في هذا المسار أكد الأستاذ الباحث في المركز القومي لبحوث المياه بمصر أن “اللاعبين الرئيسيين في المشاريع الإستراتيجية الكبرى في شمال إفريقيا هم في الغالب شركات عملاقة مملوكة للدولة الروسية، وهذا يشير إلى أن التعاون في مجال المياه يُعدّ جزءًا من أجندة إستراتيجية أوسع لروسيا في القارة”، وتابع مستدركا: “غير أن مذكرة التفاهم التي وقعتها ‘روسآتوم’ مع الشركة المغربية سالفة الذكر تعد نموذجًا رائدًا للشراكة بين كيان حكومي روسي عملاق وقطاع خاص محلي. وتُعتبر هذه الشراكة بوابة إستراتيجية لـ’روسآتوم’ للدخول إلى السوق الإفريقية”.
وتبدي عدد من الشركات الروسية اهتمامًا متزايدًا بالمشاركة في مشاريع إنشاء محطات لتحلية مياه البحر في شمال إفريقيا، خاصة في مصر، حيث تشارك “روسآتوم” في مشروع “محطة الضبعة النووية” التي ستوفر الطاقة الكهربائية لتحلية مياه البحر في الساحل الشمالي المصري، من خلال تشييد أربع وحدات للطاقة، ستمكّن كل وحدة منها من تحلية حوالي 170 ألف متر مكعب من المياه يوميًا، حسب ما نص عليه الاتفاق الموقع بين الحكومتين المصرية والروسية سنة 2015.
ولم تعد المفاعلات النووية الروسية مجرد مصدر للطاقة من خلال توفير كهرباء منخفضة الكربون، بل تساهم أيضًا في تحويل مياه البحار والمحيطات إلى مياه عذبة، وبالتالي توفير حلول مستدامة لتلبية الاحتياجات المائية المرتفعة لملايين البشر في منطقة شمال إفريقيا، ولأنشطتهم الزراعية أيضًا، وهو ما يعطي اهتمامًا خاصًا لمشاريع المحطات النووية المدمجة مع مجمعات تحلية المياه، التي ستساهم في ضمان الأمن الطاقي والمائي وكذا الغذائي لسكان المنطقة.
في هذا الصدد يقول الخبير الزراعي المغربي رياض أوحتيتا إن “هناك مجموعة من التقارير الدولية التي توقعت منذ مدة طويلة أن تواجه منطقة شمال إفريقيا حالة شح مائي مزمن، لكنها لم تكن تؤخذ بمحمل الجد في إعداد السياسات المائية، غير أنه مع حالة الإجهاد المائي التي وصلت إليها المنطقة تم التوجه نحو تحلية مياه البحر باعتبارها اليوم خيارًا إستراتيجيًا وضرورة ملحة، ليس فقط لتوفير المياه الصالحة للشرب للمواطنين وإنما أيضًا للحفاظ على استدامة الإنتاج الفلاحي”.
وأضاف الخبير الزراعي ذاته، في تصريح صحفي لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن “تحلية المياه كشفت في المغرب، على سبيل المثال، من خلال محطة التحلية ‘اشتوكة’ نواحي مدينة أكادير في الجنوب، عن دور هام في الحفاظ على النشاط الفلاحي في هذه المنطقة التي تعتبر القلب النابض للفلاحة المغربية والمزود الأول للسوق الوطني بمختلف المنتجات الزراعية إلى جانب التصدير إلى الخارج، في وقت كان النشاط الفلاحي بالمنطقة مهددًا بالشلل بسبب قلة التساقطات المطرية وتوالي سنوات الجفاف”.
وشدّد أوحتيتا على أن “تحلية مياه البحر توفر مصدرًا موثوقًا ومستدامًا للمياه الموجهة للري، يمكن للفلاحين الاعتماد عليه رغم ارتفاع السعر مقارنةً بموارد المياه التقليدية، غير أن الدخول في شراكات مع بعض الدول التي لها خبرة في هذا المجال، مثل روسيا، يساهم في خفض هذا السعر، وبالتالي زيادة جدوى الاستثمارات الزراعية وتقليل النفقات والتكاليف سواء بالنسبة للحكومات أو الفلاحين أنفسهم”.
وتابع المتحدث ذاته: “المغرب تربطه علاقات قوية مع روسيا، سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي والتجاري، إذ تعد المملكة من كبار مستوردي القمح الروسي، كما يُصدر المغرب عددًا من المنتجات الفلاحية إلى هذا البلد، وبالتالي فإن تعميق الشراكة والتعاون بين البلدين في مجال تحلية المياه ومختلف التقنيات المرتبطة بها على أساس مبدأ رابحرابح لا يمكن إلا أن يكون مفيدًا للمغرب من أجل خفض تكاليف إنتاج المياه المحلاة وتعزيز قدرة القطاع الفلاحي على الصمود أمام شح الموارد المائية، وبالتالي ضمان الأمن المائي والغذائي الذي يؤرق العديد من الدول”.
وسبق للسفير الروسي بالمغرب، فلاديمير بايباكوف، أن أكد في كلمة له بمناسبة الاحتفال بـ”يوم روسيا” في يونيو الماضي بالعاصمة الرباط أن المملكة المغربية والاتحاد الروسي مستعدان لإثراء شراكاتهما في مجالات جديدة، موردا: “مازالت هناك إمكانيات كبيرة غير مستغلة في علاقات المغرب وروسيا؛ إذ تبدي الشركات الروسية اهتمامًا بالمشاريع الاستثمارية المحلية في مجالات مثل الزراعة والصناعة والطاقة النووية وإدارة الموارد المائية”.
وأكد الدبلوماسي الروسي ذاته أن بلاده “راكمت خبرة كبيرة، ويمكنها أن تقدم للمغاربة المساعدة في تنفيذ المشاريع الكبرى في إطار خطط التنمية الاقتصادية الخضراء، والتعاون عبر المجال الأطلسي، وفي مجالات التكنولوجيا العالية”.
وفي سياق ذي صلة نصّت خطة عمل منتدى الشراكة الروسية الإفريقية للفترة 20232026، المنشورة على الموقع الإلكتروني لرئاسة الاتحاد الروسي، على تعزيز التعاون بين موسكو والدول الإفريقية في “تحسين كفاءة إدارة موارد المياه لتلبية الاحتياجات الحيوية للناس من المياه، بما في ذلك مياه الشرب والمياه اللازمة لإنتاج الغذاء”، إلى جانب “تقديم الدعم للدول الإفريقية بشأن القضايا المتعلقة بالتكيف مع تغير المناخ والأمن المائي من خلال تكثيف وتوسيع التعاون القائم في هذا المجال على المستويين الثنائي ومتعدد الأطراف”، وهو ما يدعم تطلعات دول القارة المنصوص عليها في “أجندة الاتحاد الإفريقي 2063 إفريقيا التي نريدها”، وكذا في أجندة التنمية المستدامة 2030، التي أقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة بموجب قرارها رقم 70/1 المؤرخ في 25 شتنبر 2015.
المصدر: هسبريس