“ضائع في كفن الحياة” رواية تستلهم واقعًا مغربيًّا قاسيًا عبر سيرة أمناي، الطفل القروي الذي أُعلن موته خطأ بعد لدغة أفعى في مستوصف عمومي، بينما يُهرَّب من الباب الخلفي كبضاعة بشرية تتقاذفها أيادي نافذين وسماسرة.
الرواية، المنشورة حلقات على صفحات “العمق”، لا تكتفي بسرد مأساة فردية، بل تفضح هشاشة منظومة حماية الطفولة حين تختزل الأجساد في أوراق والأرواح في ملفات، وتغوص بإيقاع بطيء وعميق في الندوب النفسية التي يخلّفها الإهمال، وفي أسئلة العدالة والمغفرة، وهي ترافق البطل إلى لحظة اختياره لمصيره. هذه الحلقات ليست فقط لتتبّع قصة مثيرة، بل لدعوة القارئ إلى التفكير في أطفالٍ كُثر قد يكونون اليوم “ضائعين في أكفان الحياة” في هوامش هذا البلد.
مع مرور السنوات، بدأت الحكاية تتحوّل في القرية من حدثٍ طارئ إلى جزء من نسيجها الخفي، مثل شقٍّ في صخرة لا يراه العابر سريعًا، لكن أهل المكان يعرفون متى ظهر وكيف اتّسع.
في المواسم التي تلت رحيل أمناي، صار حضور الغياب طقسًا مضمَرًا. في أول موسم حصاد بعد الحادثة، حين اجتمع الرجال في الحقول يقطعون السنابل ويجمعونها في حزم، غاب الصوت الصغير الذي كان يسبقهم إلى الحقل وهو يركض بين الصفوف. كلما صرخ أحدهم على طفلٍ تسلّق صخرةً أو اقترب من مكانٍ مشبوه، يتذكرون كيف ركض باسو ذاك الصباح خلف ظلّ صغير عند الصخرة المسوّدة.
باسو نفسه صار أكثر صمتًا في الحقل. لم يعد يرفع صوته على البغل، ولا يغنّي تحت أنفاسه كما كان يفعل. يعمل بصبرٍ ثقيل، يقطع الحزم، يحملها، ثم يقف للحظات يحدّق في الجهة التي كان يختفي فيها أمناي ساعة اللعب. أحيانًا، يخيّل للعمال أنه يسمع شيئًا يناديه من بعيد، فيرفع رأسه، ثم يخفضه كمن ندم على الأمل المفاجئ.
في المدرسة الصغيرة عند طرف القرية، لم تعد المقاعد كما كانت. مقعد خشبي في الصف الأول، كان أمناي يجلس فيه وهو لا يزال يتعثّر في الحروف، ظلّ خاليًا فترة طويلة. لم يجرؤ أحد التلاميذ على الجلوس فيه في السنة الأولى، كأن الفراغ صار جزءًا من أثاث القسم. المعلم، رجلٌ بسيط ذو شارب كثيف، كان يفهم صمت الأطفال أكثر مما يصرّح. يُلقي نظرة عابرة على المقعد عند بداية كل حصّة، ثم يشيح بوجهه كمن يسلّم بغيابٍ لن يُملأ بسهولة.
بعد عامين، جلس فيه طفل جديد جاء من دوّار مجاور. لم يحتجّ أحد، لكن همهمة خفيفة مرّت بين التلاميذ:
ـ هذا مكان أمناي…
يسكتون، لا يطيلون، ثم يمضون إلى الدرس. حتى الأماكن تتعلم أن تتعايش مع الأسماء الجديدة، ولو بعد حرج.
حادة، في بيتها، تعلّمت أن تعيش بين طبقتين من الزمن. في النهار، تستقبل الجارات، تعجن الخبز، تجمع الحطب، تتبادل أخبار السوق والزواج والمرض. قد تضحك على طرفة، أو تشارك في تعليقٍ عابر، كأن حياتها عادت إلى مسارها السابق. لكنّ كل هذه الحركة كانت تجري فوق طبقة أخرى لا يراها أحد: طبقة الثبات عند صورة ابنها.
على الحائط، علّقت ثوبًا صغيرًا لم تعد تقوى على رؤيته مطويًّا في الصندوق، فأخرجته وعلّقته قرب النافذة. تقول للجارات إنّها تفعل ذلك “لصدّ العين”، لكن الحقيقة أنها كانت تحتاج أن يمرّ نظرها عليه كل يوم، لتتأكد أن شيئًا من جسد أمناي لم يذب في النسيان. حين تمسح الغبار عن الخيوط، تمسحه بحنانٍ أشبه بلمس كتف حيّ.
أما عسو، فعاد إلى الثكنة لفترات، ثم كان كلما عاد في إجازة حمل معه عينين أكثر قلقًا. زملاؤه سمعوا قصة ابن أخيه، بعضهم اختصرها في جملة:
ـ مستشفى القرية… الله المستعان.
لكن عسو، وهو العسكري الذي يأتمنه الناس على الحدود، بدأ يفقد ثقته في حدود أخرى: حدود بين الفقر والجشع، بين الجهل والتلاعب. في المساء، يجلس مع رجال القرية يحدثهم عن ضرورة “أخذ الحذر” عند التعامل مع الإدارات، يسرد لهم ما سمعه عن سرقة الأدوية، عن بيع الأطفال في مدن بعيدة، عن أوراقٍ تُزوَّر لتُصحّح أخطاءَ أكبر منها. كثيرون يستمعون إليه بنصف تصديق ونصف رغبة في أن يكون مبالغًا.
لكن في كل مرة يذكر اسم أمناي، يسود صمتٌ ثقيل. لا أحد يجادله حينها؛ فقد صار الطفل، في وجدانهم، شاهدًا على أن القصص التي يسمعونها عن “المدينة الظالمة” قد لا تكون مجرد مبالغات.
حتى الجدول، الذي كان أمناي يرافقه بأغانيه الصغيرة، حمل نصيبه من الحكاية. بعض الأطفال صاروا يتجنبون اللعب عند منعطفه القريب من الصخرة، ليس خوفًا من الأفعى فقط، بل من “ذاكرة المكان”. تقول لهم إحدى الأمهات:
ـ لا تلعبوا هناك كثيرًا… ذاك المكان تشبّع بالحزن.
يتساءل أحدهم:
ـ وهل تحزن الحجارة؟
تجيبه:
ـ إذا بكت عليها الأمهات بما يكفي، نعم.
في الأعراس القليلة التي عرفتها القرية بعد ذلك، كان باسو حاضراً جسدًا وغائبًا نظرةً. قد يحمل صحناً، يساعد في الذبح، يجلس في صف الرجال، لكنّ عينه تتيه كلما رأى طفلاً يركض بين الأقدام، يختبئ ثم يخرج، يضحك بلا خوف. حادة، التي عزفت فترة طويلة عن حضور الأعراس، عادت إليها لاحقًا، كمن يجبر نفسه على أن يرى الحياة وهي تستمر، رغم كل شيء. لكن في كل زغردة، كانت تسمع في أذنها الثانية صرخة تلك المرأة التي اكتشفت النعش الفارغ.
الإمام في المسجد، رجل هادئ الصوت، بدأ يلمّح في خطب الجمعة إلى “الحفاظ على الأمانة”، و”الخوف من الله في المستضعفين”، و”حرمة التلاعب بأرواح الناس”. لم يسمِّ أحدًا، ولم يذكر حادثة أمناي مباشرة، لكنه كان يعلم أن كل قلبٍ في المسجد يعرف على من تدور هذه التلميحات. بعض الرجال كانوا يردّدون بعد الخطبة:
ـ لو كان من أخذ جسده يسمع هذه الكلمات…
ثم يسكتون، لأن الطريق إلى أذن ذلك “المجهول” أطول بكثير من خطى الإمام على المنبر.
ومع ذلك، لم تكن القرية كلها غارقة في الحزن. الأطفال الذين وُلدوا بعد أمناي كبروا، دخلوا المدرسة، لعبوا في الساحة، تعلّموا حذرًا إضافيًا من الأفاعي ومن المستوصف. جيلٌ جديد نشأ وهو يسمع الحكاية من بعيد، لا كتجربة شخصية، بل كقصة تُحكى مع قصص “العجوز التي ضيّعت مالها” و”الرجل الذي وجد كنزًا تحت حجر”.
الفرق الوحيد أن هذه الحكاية لم تُختَم بعبرة واضحة. لم يقل لهم أحد: “لا تفعلوا كذا لئلا يحدث لكم كذا.” كانت تنتهي دائمًا بجملة معلّقة:
ـ المهم… أن تدعوا له بالرحمة والحفظ، أينما كان.
في أمسيات الشتاء، حين يجتمع الرجال في الدكان الصغير قرب الطريق، يحتسون الشاي الثقيل ويحكون عن أسعار الغنم وغلاء العلف، لا بدّ أن يمر اسم أمناي في سياقٍ ما. يقول أحدهم:
ـ يومها، حين اختفى النعش، شعرت أن القرية لا تملك أمرها في يدها كما نظن.
يرد آخر:
ـ القرية جزء من بلدٍ كبير… وما لا نراه هنا، يُفعل هناك باسمنا دون أن ندري.
عسو، إذا حضر، يبتسم ابتسامة قصيرة بلا فرح، كمن يقول لهم: “اكتشفتم هذا متأخرين. لكن اكتشافه خير من العمى.”
ومع أن الزمن علّم أهل القرية أن يُخففوا من حدّة الكلام، إلا أن باسو وحادة لم ينسيا. لم يعودا يبكيان كل يوم، لكن قلبهما صار يشبه نبعًا تحت صخرة: لا يُرى على السطح، لكن من يضع أذنه على الحجر يسمع خريره الخافت.
حين يمرّ عامٌ جديد، وتأتي ذكرى ذلك الصباح ثقيلة دون أن تُعلن، يخرج باسو إلى الحقل وحده، يقترب من الصخرة التي شهدت اللدغة، يلمسها بكفّه، ثم يرفع عينيه إلى الجبل ويتمتم:
ـ إن كان حيًّا، فاحمه. وإن كان ميتًا، فارحمه…
أما حادة، فتشعل شمعة صغيرة في قلبها، لا في بيتها؛ فلا قبر تضع عنده الضوء، ولا صورة رسمية تعلق تحتها آية. تكتفي أن تهمس في الليل:
ـ يا رب، إن كان له نصيب في هذه الدنيا، فلا تحرمه منّا إلى الأبد. وإن كان نصيبه هناك، فلا تحرمني من رؤيته في حلمٍ صادق واحد.
هكذا استمرت القرية بعد رحيل أمناي: لم تنهَر، ولم تُشفَ تمامًا. عاشت بين حنينٍ مكتوم إلى طفلٍ غاب، وخوفٍ خفيّ من أن تكون هناك “أمنايات” آخرون يُسحبون من حياتهم عبر أبوابٍ خلفية لا تراها العيون. وصار ظِلّ الجبل، كل صباح، أثقل قليلاً مما قبل، كأنّه هو الآخر يحمل في سفحه حكايةً لم تُحكَ للنهاية بعد.
يتبع…
المصدر: العمق المغربي
