“ضائع في كفن الحياة” رواية تستلهم واقعًا مغربيًّا قاسيًا عبر سيرة أمناي، الطفل القروي الذي أُعلن موته خطأ بعد لدغة أفعى في مستوصف عمومي، بينما يُهرَّب من الباب الخلفي كبضاعة بشرية تتقاذفها أيادي نافذين وسماسرة.
الرواية، المنشورة حلقات على صفحات “العمق”، لا تكتفي بسرد مأساة فردية، بل تفضح هشاشة منظومة حماية الطفولة حين تختزل الأجساد في أوراق والأرواح في ملفات، وتغوص بإيقاع بطيء وعميق في الندوب النفسية التي يخلّفها الإهمال، وفي أسئلة العدالة والمغفرة، وهي ترافق البطل إلى لحظة اختياره لمصيره. هذه الحلقات ليست فقط لتتبّع قصة مثيرة، بل لدعوة القارئ إلى التفكير في أطفالٍ كُثر قد يكونون اليوم “ضائعين في أكفان الحياة” في هوامش هذا البلد.
كان صيف تلك السنة أثقل قليلًا من الأعوام التي سبقته، كأن الهواء نفسه ينتظر طائرة قادمة من بعيد. في الأيام الأولى من العطلة، بدأ اسم محمد يأخذ شكل موعد محدد لا مجرّد حديث مؤجَّل؛ حجز تذكرة، إرسال نسخة من الرحلة، توقيت الوصول، مطار المدينة الذي لم تطأه قدم يونس من قبل إلا في الخيال.
في الليلة التي سبقت وصوله، لم تنم زينب كما ينبغي. أعادت ترتيب البيت مراتٍ كثيرة بلا داعٍ حقيقي: مسحت الغبار عن رفّ لم يتّسخ بعد، بدّلت مكان مزهرية، أعادت ثني أغطية الصالون. كانت تعلم أن محمد، وهو الذي عاش سنواتٍ في غرفٍ ضيقة في فرنسا، لن يلاحظ كل هذه التفاصيل، لكنها كانت ترتّب شيئًا آخر لا تراه العين: إحساسها بأنها تستقبل حياة جديدة عند العتبة، لا مجرد زائر.
يونس كان يراقبها بين حركةٍ وأخرى، يلتقط من تعبها وارتباكها ما يكفي ليدرك أن ما سيحدث غدًا ليس ككل الزيارات السابقة التي اعتادها البيت. سألها قبل النوم:
ـ هل أنتِ خائفة؟
توقفت عند باب غرفته، فكرت قليلاً ثم قالت:
ـ لستُ خائفة منك ومني… ربما فقط من المسافة بين ما نرجوه وما يسمح به الواقع.
لم يفهم الجملة تمامًا، لكنه شعر أن الغد يوم ليس عاديًا.
في المطار، كانت الخطوات الأولى أبطأ من المعتاد. زينب تمسك بحقيبتها الصغيرة، ويونس يمشي بجانبها، عينه تتجول في الوجوه وفي الشاشات التي تحمل أسماء مدن لم يسمع ببعضها إلا في حصص الجغرافيا. النداءات المتكررة بمختلف اللغات جعلته يشعر للحظة أن العالم أكبر بكثير من القرية والمدينة والحي الذي عرفه.
وقفت زينب عند مخرج القادمين، قلبها يخفق بإيقاع أسرع من نداءات الرحلات. سألته وهي تصلح منديل رأسها:
ـ هل ستتعرف عليه؟
هز كتفيه:
ـ لا أعرف… رأيتُ صوره فقط.
ابتسمت:
ـ ستعرفه من عينيه.
خرج الركّاب واحدًا تلو الآخر، يحملون حقائب ووجوهاً يختلط فيها تعب السفر بفرحة الوصول. وفجأة، بدا رجل في منتصف العمر، يحمل حقيبة متوسطة، وجهه أسمر محروق قليلاً من شمس عملٍ لا من شمس نزهة، شعره مخلوط ببعض الشيب، وعيناه تبحثان في الزحام بدقّة من ينتظر شخصين لا أكثر.
توقفت عينا زينب عنده كما لو أنه خرج من صورة في هاتفها إلى الهواء مباشرة. رفعت يدها، لوّحت له، فتوقفت نظراته عندها، وتغيّر كل شيء في وجهه: ارتخت قسوته، وانفرجت ابتسامة صغيرة، كأن سنوات الغربة انحنت للحظة أمام دفء اللقاء.
اقترب. للحظة، شعر يونس أنه ينظر إلى رجل عرفه من بعيد طويلًا دون أن يصافحه. مدّ محمد يده إلى زينب أولاً، لم يعانقها في العلن، كان بينهما حرج تربيةٍ محافظة، لكن في اليد التي التصقت بيدها كانت حرارة اعترافٍ كامل بما حمله كلٌّ منهما من انتظار.
ثم التفت إلى يونس. انحنى قليلاً إلى مستواه، مدّ يده الأخرى، وقال بصوتٍ حمل بقايا لهجة ريفية تُركت قبل سنين، مضافًا إليها نبرة فرنسية خفيفة على الحروف:
ـ أنتَ يونس… أليس كذلك؟
أومأ يونس برأسه، ثم مدّ يده بخجل.
ـ وأنا محمد… تعبتُ من سماع قصتك من بعيد، حان الوقت لأسمع صوتك أنت.
لم يكن في اللقاء الأول عناقٌ دراميّ ولا دموعٌ غزيرة، بل لحظات متردّدة، يختبر فيها كلّ طرف مساحة الآخر. في السيارة التي اكتراها محمد في المطار، جلست زينب في المقعد الأمامي، ومحمد إلى جانبها يقود، بينما جلس يونس في الخلف يحدق تارة في الطريق وتارة في انعكاس وجهيهما في المرآة.
حاول محمد أن يفتح حديثًا بسيطًا:
ـ تحب كرة القدم يا يونس؟
ـ قليلاً.
ـ أي فريق تشجع؟
تلعثم الطفل، لم يكن ممن يحفظ أسماء الفرق العالمية كما يفعل أقرانه، فقال الحقيقة:
ـ لا أعرف… كنت ألعب في الحقل فقط.
ضحك محمد بخفة:
ـ هذا أفضل فريق. الحقل لا يهزمك إذا أخطأت.
نظر يونس إلى المرآة، لمح فيها عيني محمد تبتسمان دون استعلاء، فارتاح قليلاً. لأول مرة، شعر أن الرجل لا يخطّط لاستجوابه، بل لمحاورته.
في البيت، حين دخل محمد لأول مرة، وقف لحظة على العتبة، نظر إلى الجدران، إلى الأثاث المتواضع، إلى النافذة الصغيرة التي تُدخل شريطًا من الضوء. قال كمن يحدّث نفسه:
ـ هذا بيت… ليس فخمًا، لكنه حقيقي.
نظرت إليه زينب بسرعة، كأنها تخشى أن يرى ضيق المساحة أو تواضع الأثاث كعيب. لكنه كان يرى شيئًا آخر: آثار حياةٍ سكنت هذا المكان، لا مجرد قطع أثاث موضوعة في صالون فارغ.
في الأيام التالية، بدأ محمد ينسج خيوط علاقته مع كلٍّ منهما. مع زينب، استعاد ذكريات الطفولة المشتركة:
ـ تتذكرين حين كنا نسرق التين من حديقة الجيران؟
ـ أنت كنت تسرق، أنا كنت أراقب الطريق فقط.
ـ لا، كنتِ الشريكة الأذكى… من دونك كنا سنُمسك في أول مرة.
تضحك، فتخفف هذه الضحكات من ثقل السنوات التي وضعت بينهما بحورًا وطائرات ووظائف ووحدات سكنية ضيقة.
مع يونس، اختار طريقًا آخر: الحكايات.
في المساء، بعد العشاء، يجلسون ثلاثتهم في الصالون. يطلب منه محمد:
ـ احكِ لي عن الجبل الذي كنتَ تراه من بيتكم.
يتردد يونس قليلاً، ثم يبدأ الحديث عن ظلّ الجبل الذي يثقل على القرية صباحًا، عن الجدول الذي يقفز على الحصى، عن البغل الذي يعرف طريقه من غير مناداة. يستمع محمد باهتمامٍ حقيقي، يسأله عن تفاصيل صغيرة، لا يضحك على بساطة الصورة، بل يضيف إليها أحيانًا تجاربه:
ـ ونحن في قريتنا، كان البحر هو الجبل… حين يعلو موجه، نشعر أن شيئًا في صدورنا يضطرب.
هكذا، كان يونس يشعر أن ذاكرته لا تُمحى، بل تُستقبل وتُقدَّر.
لم يُسارع محمد إلى لعب دور الأب. لم يقل له يومًا “أنا الآن أبوك”، لكنّه بدأ يتصرف كمن يحجز لهذا الدور مكانًا في المستقبل. في صباحات قليلة، عرض أن يوصله إلى المدرسة:
ـ لدي وقت اليوم… إن أحببت، نذهب معًا.
على الطريق، لا يكثر من الأسئلة. يكتفي ببعض التعليقات:
ـ هنا يُذكّرني هذا الزقاق بأزقة مدينتنا القديمة.
ـ في فرنسا، الأطفال يذهبون إلى المدرسة مشيًا أيضًا، لكن وجوههم أقلّ شمسًا.
كان يونس يتعلم منه شيئًا جديدًا: أن الكبار يمكن أن يقتربوا دون أن يضغطوا، وأن الرجل الذي جاء من بعيد لا يحمل مفتاح باب خلفي جديدًا، بل مفتاح حوارٍ مفتوح.
زينب، وهي ترى هذا الاقتراب، كان قلبها يتأرجح بين امتنانٍ وخوف. تمتّن لمحمد أنه لم يحاول أن يفرض حضوره على الطفل بعجرفة، وأنه ترك للوقت أن يعرّفهما على بعض، لكنها كانت تخشى أيضًا من لحظةٍ قد يأتي فيها طلبٌ غير متوقع، أو قرارٌ مفاجئ.
في إحدى الليالي، بعد أن نام يونس، جلسا في المطبخ يشربان الشاي. قالت له بهدوء:
― لا أريد أن أظلمك… أنت رجل في منتصف العمر، لك الحقّ في حياة أقل تعقيدًا. أن ترتبط بامرأة لا تستطيع الإنجاب، ومعها طفل له حكاية طويلة، ليس أمرًا سهلًا.
أجاب وهو يقلب الكأس بين أصابعه:
ـ التعقيد كان حين كنت وحدي، أصحو ولا أجد أحدًا ينتظرني. الآن، حتى وهم نائمون، هناك اثنان يربطانني بمكان.
ـ وماذا عن فكرة أن يكون هذا الطفل… هو ابنك الوحيد؟
نظر إليها بجدية:
ـ فكرتُ فيها طويلاً هناك، قبل أن أقول لك كلمة واحدة. لو أنني كنت أفتّش عن “سلالتي” في الدم، لما اتصلت بك أصلًا. ما أبحث عنه الآن أن أسمع يومًا أحدًا يناديني بـ”أبي” ويقصدني حقًا، لا مجاملة.
مرّت أسابيع وجود محمد في المغرب كأنها تمرينٌ عام لحياةٍ يريدون أن يتأكّدوا من قدرتهم على عيشها معًا. رافق زينب إلى عملها يومًا، التقى بجارتين، ساعد يونس في حلّ تمرين رياضيات لم يجد له تفسيرًا، اشترى له كرة صغيرة، واقترح عليه أن يلعبا بها في الحديقة القريبة.
عند المساء، وهما عائدان، كانت زينب تتأمل المشهد من النافذة: رجلٌ في منتصف العمر يركض بخفةٍ نسبية خلف صبيّ يضحك لأول مرة منذ مدة طويلة ضحكة خالصة، بلا خيط قلقٍ معلق بها. تقول في نفسها: “ربما يكون هذا هو الشكل الممكن للسعادة، لا الكمال، بل شيء من الأمان في قلب الفوضى.”
لم يكن قرار الزواج بعد ذلك مفاجئًا، بل نتيجة طبيعية لحوارٍ طويل بين ثلاثة قلوب. جلسوا في الصالون ذات مساء، كانت زينب تريد أن يكون يونس حاضرًا حين يتفقون لا أن يسمع الخبر جاهزًا بعد أيام.
قال محمد، بنبرة هادئة لا استعراض فيها:
ـ يونس… أنا طلبت يد أمّك من أهلها.
رفع الطفل عينيه بسرعة إلى زينب، ثم إلى محمد.
تابع الرجل:
ـ أهلها موافقون… ونحن نريد أن نسمعك أنت أيضًا.
تلعثم، لم يتعود أن يُسأل عن رأيه في قرارات الكبار.
ـ ماذا يعني… بالضبط؟
أجابت زينب هذه المرة:
ـ يعني أن محمد سيكون زوجي… ورفيق حياتنا.
سأل بهدوء خائف:
ـ وسأبقى معكِ؟
ـ نعم.
ـ وسأسافر معكما إن سافرتما؟
ـ نعم.
ـ ولن تقولوا لي يومًا… “ارجع من حيث أتيت”؟
اهتزّ صوتها وهي تجيب:
ـ لن أقولها، ولن أدع أحدًا يقولها لك.
أما محمد، فاقترب قليلاً، وقال ببطءٍ محسوب:
ـ ما أطلبه الآن من أمّك… هو أن أكون زوجًا لها. وما أطلبه من القدر… أن يسمح لي أن أكون أبًا لك.
لم يقل “أطلبه منك”، كأنه يحترم المسافة التي ما زال الطفل بحاجة إليها. لكن في هذه الجملة، شعر يونس أن الرجل لا يدخل فقط من باب الحب، بل من باب المسؤولية أيضًا.
تمّ الزواج في حفلٍ بسيط، كما يليق بحياة لم تعتد على الأضواء. لم يكن هناك صالون فخم ولا قاعة مزينة بالورود. بعض الأقارب، جارات تعرفهنّ زينب، إمام الحيّ الذي عقد القِران، وشاهدان.
جلست زينب في فستانٍ أبيض بسيط، لا يشبه فساتين الأعراس التي يراها يونس في الإعلانات، لكنه بدا له أجمل لأنها هي التي تلبسه. كان محمد بجوارها، جلبابه نظيف، عيناه فيهما توتر الفرح وتأمّل الماضي.
حين نطق الإمام صيغة العقد، التقت عينا محمد بعيني يونس لثوانٍ. لم يكن في النظرة سؤال، ولا طلب موافقة، بل كان فيها وعد غير منطوق: “لن أكون بابًا خلفيًا جديدًا في قصتك.”
بعد انتهاء المراسم، اقترب بعض الأقارب من يونس يمازحونه:
ـ مبروك عليك العريس يا يونس.
ـ الآن صار عندك أب في فرنسا!
كان يبتسم بخجل، لا يعرف ماذا يجيب. في داخله، كان يشعر أن الكلمات لا تلتقط تمامًا ما يجري: محمد ليس “بديلًا” عن أحد، ولا “هبةً” من الغربة، بل رجلٌ اختار، بوعي كامل، أن يحمل معه إلى ما تبقّى من عمره طفلًا اسمه مركّب من قريةٍ ومدينة، ومن أفعى ومستشفى، ومن نعشٍ فارغ وباب خلفي.
في آخر الليل، حين عادوا إلى البيت بعد أن انفض الحفل، دخلت زينب الشقة أولًا، تلتها خطوات يونس، ثم محمد الذي أغلق الباب بهدوء.
نظرت زينب حولها، كأنها ترى البيت للمرة الأولى بثلاثة ظلال بدل اثنين. رفعت رأسها وقالت بابتسامة متعبة:
ـ من اليوم، سنجرّب أن نكون عائلة… على طريقتنا.
نظر يونس إلى محمد، ثم إلى زينب، وأحسّ ـ ولو للحظة قصيرة ـ أن كلمة “بيت” لم تعد تهديدًا كما كانت يوم دخل أول مرة من بابٍ غريب، وأن هذا الزواج، رغم كلّ ما قد يحمله من تعقيدات قادمة، هو هذه المرة عقدٌ وقعته القلوب قبل أن ترفعه الأيادي للإمام.
يتبع…
المصدر: العمق المغربي
