“ضائع في كفن الحياة” رواية تستلهم واقعًا مغربيًّا قاسيًا عبر سيرة أمناي، الطفل القروي الذي أُعلن موته خطأ بعد لدغة أفعى في مستوصف عمومي، بينما يُهرَّب من الباب الخلفي كبضاعة بشرية تتقاذفها أيادي نافذين وسماسرة.

الرواية، المنشورة حلقات على صفحات “العمق”، لا تكتفي بسرد مأساة فردية، بل تفضح هشاشة منظومة حماية الطفولة حين تختزل الأجساد في أوراق والأرواح في ملفات، وتغوص بإيقاع بطيء وعميق في الندوب النفسية التي يخلّفها الإهمال، وفي أسئلة العدالة والمغفرة، وهي ترافق البطل إلى لحظة اختياره لمصيره. هذه الحلقات ليست فقط لتتبّع قصة مثيرة، بل لدعوة القارئ إلى التفكير في أطفالٍ كُثر قد يكونون اليوم “ضائعين في أكفان الحياة” في هوامش هذا البلد.

كانت الأيام، في ظاهرها، تسير على سكة واحدة: مدرسةٌ ليونس، وعملٌ قصير ثم بيتٌ لزينب، ثم مساء هادئ يتقاسمانه بين طعام بسيط ودراسة ونوم مبكر. لكن بين السطور، كانت العلاقة بينهما تنسج خيوطًا أوثق، كأن القدر أراد أن يمنحهما هدنة حقيقية بعد كل ما سبق، قبل أن يفتح بابًا جديدًا على امتحان آخر.

شيئًا فشيئًا، صار ليونس مكان واضح في تفاصيل يوم زينب. لم يعد مجرد “طفل في عهدتها”، بل صار جزءًا من إيقاعها: توقيت استيقاظها، نوع العمل الذي تقبله أو ترفضه، المواعيد التي تحددها، وحتى الأطباق التي تطبخها.

في نهاية الأسبوع، كانت تحاول أن تصنع له “قرية صغيرة” داخل الجدران: تشتري من السوق قليلاً من الشعير الأخضر لتضعه في إناء على النافذة، تقول له مازحة:

ـ هذا جدولنا الخاص… لن يقفز على الحصى، لكنه سيذكرك بأن الأرض ما زالت هنا.

يضحك ابتسامة خفيفة، يلمس العشب بإصبعه، ويستعيد للحظات ملمس سنابل بعيدة.

في المقابل، صار يونس يحرس تعبها بطريقته. ينهي واجباته دون أن تُلحّ كثيرًا، يرتّب أشياءه، يحاول ألّا يُثقل عليها بطلبات زائدة. إذا تأخرت في العودة، لا يملأ البيت بهلع الأسئلة، بل يفتح كتابه في الصالون بحيث تكون أول ما يراه حين تدخل. كان يعلم أن صورة طفل ينتظر في ضوء خافت تخفف كثيرًا من وحشة الباب حين يُفتح آخر النهار.

في بعض الليالي، تجلس هي لتحكي، لا عن أوجاعها المباشرة، بل عن ذاكرتها البعيدة؛ كأنها تستعيد خيوط حياتها لتربط عليها خيط وجوده.

تحكي له عن طفولتها في قرية ساحلية صغيرة، عن أم كانت تصحو قبل الفجر لتخبز، وأب صيّاد يعود محمّلًا برائحة البحر. عن أخٍ أصغر مات بحمّى مفاجئة في ليلة مطرية، وكيف بقيت صورة وجهه تطاردها في أحلامها لسنوات.

ـ ربما لهذا… حين رأيتك أول مرة، شعرت أنّ شيئًا ما من وجهه يعود فيك.

تقولها ثم تبتسم بسرعة، كأنها تخشى أن تكشف عن جرحٍ قديم لم يلتئم تمامًا.

يونس، الذي لم يتعود أن يسمع الكبار يتحدثون عن ضعفهم، كان يصغي في صمتٍ مهيب. في داخله، تلتقي حكايتها بحكايته عند نقطة واحدة: الموت الذي مرّ قريبًا من جسدين صغيرين، ومرتين لم يقل فيه كلمة الفصل بنفس الطريقة.

مرّة، جعل بيتًا كاملًا في القرية يعلن الحداد على طفلٍ لم يُدفن.

ومرّة، ترك بيتًا آخر في المدينة يفتح ذراعيه ليتبنّى طفلاً لم يولد منه.

ومع أن العلاقة بينهما بدأت تستقر على هذا الإيقاع الحميم، إلا أن العالم خارج الشقة لم يكن متجمّدًا. زينب كانت ما تزال امرأة في منتصف العمر، تحمل على كتفيها همّ بيت وطفل وذاكرة، لكنها تحمل أيضًا قلبًا لم يُسدل عليه الستار تمامًا. لم تكن تبحث عن حب، لكنها لم تكن مغلقة تمامًا في وجه المصادفة.

بدأ اسم “محمد” يدخل إلى البيت من شاشة الهاتف قبل أن يدخل من الباب. في البداية، كان مجرد إشعار عابر: رسالة قصيرة على تطبيق مراسلة، نغمة خفيفة، ثم ابتسامة عابرة على وجه زينب تحاول أن تُخفيها وهي تقرأ.

لاحظ يونس أول الأمر أنّ الهاتف صار أقرب إلى يدها مما كان سابقًا. حين يرنّ، تنظر للمرّة الأولى إلى اسم المتصل قبل أن تجيب، لا بعده. أحيانًا تتأخر في الرد، ترتّب ملامحها، ثم تضغط على زر القبول وتقول بصوتٍ اكتسب نعومة لم يسمعها في حواراتها السابقة:

ـ السلام عليكم يا محمد…

يتوقف سمعه عند الاسم، يعلق به كما تعلق العيون بظلّ جديد على الحائط.

في أحد المساءات، كان يجلس في الصالون يراجع درسه، حين دخلت هي وفي يدها الهاتف، وقالت بنبرة عادية تحاول أن تكون عابرة:

ـ يونس، هل تعرف من اتصل؟

رفع رأسه:

ـ من؟

ـ ابن خالتي… محمد. يعيش في فرنسا منذ سنوات طويلة.

لم يكن يعرف عن خالاتها الكثير؛ ماضيها العائلي ظلّ دائمًا في الخلفية، لا يُستدعى إلا شذرات. أضافت وهي تملأ الفراغ:

ـ كان يأتي عندنا ونحن صغار، ثم هاجر شابًّا. الآن عاد يتصل أكثر.. يسأل، يطمئن.

مع توالي الأيام، لم يعد مجرد “ابن خالة في فرنسا”. صار اسمًا حاضرًا في أحاديث قصيرة:

ـ محمد قال إن الحياة هناك صعبة لكنها منظمة.

ـ محمد أرسل لي صورًا للثلج في مدينته.

ـ محمد يفكر أن يأتي زيارة في الصيف المقبل.

كانت تروي الجمل كأخبار عامة، لكن نبرة الصوت، واللمعة الهاربة في العين، كانت تقول إن هذا الحضور أبعد من مجرّد “أخبار قريب مغترب”.

مرّة، بينما كانت تغسل الصحون، قالت ليونس كمن يفتح نافذة صغيرة في جدار الحديث:

ـ هل كنت تتخيّل يومًا أنك قد ترى فرنسا؟

توقف عن حلّ المسألة التي بين يديه، نظر إليها باستغرابٍ طفوليّ:

ـ فرنسا؟ لا… الجبل نفسه لم أره منذ خرجت، فكيف فرنسا؟

ضحكت ضحكة قصيرة، فيها شيء من الحسرة:

ـ الدنيا غريبة… تأخذنا أحيانًا إلى أماكن لم نفكر فيها أبدًا.

ثم سكتت، كأنها قالت أكثر مما ينبغي.

يونس لم يشعر بالغيرة كما قد يتخيّل البعض، لكنه شعر بشيء غريب يشبه الحذر. وكأن بيتًا في قلب زينب كان ملكًا له وحده، وبدأ يسمع فيه وقع خطوات غريب مهذّبة تتجوّل في الردهات. لم يكن ظهور محمد تهديدًا مباشرًا، بقدر ما كان إعلانًا بأن حياة زينب لا تتوقف عند أمومتها له. لها أيضًا حقّ في أن تُحَب، أن تُسافر، أن تُرى بعين رجل آخر غير عيني طفلها المتعلق بها.

في إحدى الأمسيات الطويلة، جلست معه بعد مكالمة مرحة، وحديث عن الطقس في فرنسا وعن اختلاف العادات، فسألته فجأة:

ـ يونس، ما رأيك في أن يتزوج المرء مرة ثانية بعد تجربة صعبة؟

تردد، لم يكن قد سئل سؤالًا كهذا من قبل. قال بعد لحظة صمت:

ـ إذا كان لن يترك من يحبّهم، فلا بأس.

نظرت إليه بدهشةٍ رقيقة:

ـ ومن تحبّهم هنا؟

فكر للحظة، ثم قال:

ـ أنتِ.

ابتسمت، لكن في عينيها بدت غيمة صغيرة: كانت تعلم أن قرارها القادم، أيًّا كان، سيمرّ من هذا الجواب بالذات.

محمد، في الجانب الآخر من البحر، كان يظهر كصورة رجل في منتصف الأربعينات، يحمل في صوته تعب الغربة وحنينًا لأرضٍ تركها منذ زمن، وواقعية من عرف أن العمر لا ينتظر كثيرًا. لم يكن شابًّا متهورًا، ولا حالمًا كبيرًا. كان، في أحاديثه مع زينب، يسأل عن تفاصيل صغيرة:

ـ كيف حال المدرسة مع يونس؟

ـ هل ما زال يحب القراءة؟

ـ هل تحتاجين شيئًا؟

أسئلته لم تكن مباشرة في الحب، لكنها تلتفّ حولها كما تلتف أغصان كرمة على جدار قديم.

ببطءٍ شديد، بدأ يونس يحفظ توقيت اتصالاته: مساءات نهايات الأسبوع، بعض الليالي الباردة، أحيانًا في الظهيرة حين يكون في المدرسة ويعود ليجد إشعارًا “اتصال فائت”. لم يكن يفتح الهاتف ولا يقرأ الرسائل، لكن مجرد رؤية اسم “محمد” على الشاشة جعلته يؤنس وجوده: صار جزءًا من المشهد اليومي، كما هو جزء من حديث زينب عن المستقبل.

مرّت شهور على هذا النحو، حتى جاء يومٌ استثنائيّ: اليوم الذي تحدثت فيه زينب عن محمد لا كـ”ابن خالة” فقط، بل كرجل يفكر أن يكون “شريكًا” في ما تبقّى من حياتها.

كان ذلك ذات مساء، حين عادت من عملها أكثر صمتًا مما اعتاد. أعدّت العشاء في هدوء، جلست معه إلى المائدة، لكنّ يديها كانتا تتحركان ببطء متردد. بعد أن فرغا، قالت:

ـ يونس… أريد أن أتحدث معك في موضوع مهم.

عرف من نبرة الصوت أن الأمر ليس عن المدرسة ولا عن الفاتورة. رفع رأسه، انتظر.

ـ محمد… يفكر في العودة إلى المغرب لبعض الوقت.

هزّ رأسه:

ـ قلتِ هذا من قبل.

ـ هذه المرة… ليس للزيارة فقط.

ترددت، ثم أكملت:

ـ هو… يفكر في الزواج.

ظلّ ينظر إليها في صمت. لم تسارع بإضافة شيء، كأنها تريد أن ترى أثر الجملة العارية قبل أن تُلبسها تفاصيل.

قال بصوتٍ هادئ:

ـ بكِ؟

ابتسمت ابتسامة مبهمة، نصف دهشة ونصف اعتراف:

ـ نعم… بي.

في تلك اللحظة، شعر يونس أن الزمن تباطأ قليلًا. لم تأته الصورة كاملة دفعة واحدة، لكن ومضات متفرقة: زينب في فستانٍ مختلف، رجل غريب يجلس إلى طاولتهما، بيت ربما يتغيّر شكله من جديد، وربما… احتمال آخر: أن يُطلب منه مرة ثانية أن يغيّر مكانه أو دوره، كما فعل القدر به مرارًا.

لكن زينب، قبل أن تتدحرج هذه الصور كلها في رأسه، قالت بسرعة وهي تميل نحوه:

ـ اسمعني جيدًا يا يونس.

ـ أنا… إذا فكّرت في هذا الموضوع، فلن أفكر فيه إلا ومعي سؤال واحد: أين ستكون أنت؟

سكت، ينتظر.

ـ لن أقبل بأي شيء يهدّد وجودك في حياتي. لا أقول ذلك فقط لأطمئنك… أقولها لأنني لا أستطيع تخيّل بيتٍ لا تكون فيه.

كانت تلك أول مرة يسمع فيها وعدًا واضحًا بهذه الصيغة. لم يكن وعدًا بعدم الألم، ولا وعدًا بعدم التغيير، لكنه كان وعدًا بأن يكون اسمه حاضرًا على الطاولة حين تُناقَش القرارات، لا مجرد “تفصيل لاحق”.

مع ذلك، بقي في داخله ظلّ شكّ صغير: ليس في زينب، بل في العالم نفسه. لقد تعلّم أن القرارات الكبيرة لا تُتخذ دائمًا بإذن الأطفال، وأن الأوراق تُوقّع أحيانًا في غيابهم، وأن الأبواب الخلفية مفتوحة دومًا لمن يريد أن يغيّر مسار حياةٍ ما.

وفي مكانٍ بعيد، كان محمد يجهّز حقائبه، يُنهي أوراق إجازته من المعمل في فرنسا، ويشتري هدية لصبيّ لم يلتقِ به بعد، لكنه سمع عنه بما يكفي ليشعر أن دخوله إلى هذا البيت لن يكون مجرد دخول رجلٍ إلى حياة امرأة، بل دخول غريبٍ إلى حقل ذاكرة طفلٍ تحمل قدماه القديمة أثر لدغة أفعى واسمين اثنين.

يتبع…

المصدر: العمق المغربي

شاركها.