“ضائع في كفن الحياة” رواية تستلهم واقعًا مغربيًّا قاسيًا عبر سيرة أمناي، الطفل القروي الذي أُعلن موته خطأ بعد لدغة أفعى في مستوصف عمومي، بينما يُهرَّب من الباب الخلفي كبضاعة بشرية تتقاذفها أيادي نافذين وسماسرة.
الرواية، المنشورة حلقات على صفحات “العمق”، لا تكتفي بسرد مأساة فردية، بل تفضح هشاشة منظومة حماية الطفولة حين تختزل الأجساد في أوراق والأرواح في ملفات، وتغوص بإيقاع بطيء وعميق في الندوب النفسية التي يخلّفها الإهمال، وفي أسئلة العدالة والمغفرة، وهي ترافق البطل إلى لحظة اختياره لمصيره. هذه الحلقات ليست فقط لتتبّع قصة مثيرة، بل لدعوة القارئ إلى التفكير في أطفالٍ كُثر قد يكونون اليوم “ضائعين في أكفان الحياة” في هوامش هذا البلد.
الفصل الثالث:
باب جديد للحب والأسرة..
تغيّر شكل البيت بعد رحيل الزوج، لكن صوته ظلّ عالقًا في الزوايا أيامًا طويلة، كأن الجدران تحتاج وقتًا لتفرغ ذاكرتها. صار الصالون أهدأ، والليل أطول، والأثاث أقلّ حركة. ومع ذلك، لم يشعر يونس بأن البيت صار فارغًا تمامًا؛ كان هناك حضور آخر بدأ يتقدّم إلى الواجهة بهدوء: حضور زينب، أمّه بالتبنّي، وهي تعيد ترتيب حياتهما على مقاس جديد، بين خوفها من المستقبل وإصرارها على ألا يعود الطفل إلى مصيرٍ غامض.
في الصباح الأول بعد الطلاق، استيقظ يونس على صمتٍ مختلف. لم يعد هناك وقع خطوات رجل يتجه نحو الباب وهو يعدّل ربطة عنقه، ولا صوت مفاتيح تُرفع من الصحن الصغير قرب المدخل، ولا جملة: “لا تتأخر عن المدرسة” تُقال من عتبة البيت بنبرةٍ تجمع بين الأمر والوصية. فتح عينيه، نظر إلى السقف، ثم التفت إلى الباب. طرقات خفيفة جاءت هذه المرة من يد واحدة:
ـ يونس… حان وقت النهوض.
كان في صوت زينب شيء من التردد، كأنها تتعلّم للمرة الأولى كيف تطرق باب صباحٍ وحدها.
دخلت الغرفة، حملت معها رائحة قهوة خفيفة وصابون ليمون. ابتسمت ابتسامة صغيرة، لكن عينيها كان فيهما سهر ليلة كاملة.
ـ كيف نمت؟
ـ عادي.
لم يكن “عادي” وصفًا دقيقًا، لكنه الكلمة الوحيدة التي لا تفتح أبواب أسئلة كثيرة.
اقتربت من السرير، سحبت الغطاء بلطف، وقالت كمن يقنع نفسه قبل أن يقنعه:
ـ سنعتاد… البشر يعتادون كل شيء، حتى ما ظنّوه مستحيلًا.
في المطبخ، كان المكان أهدأ من المعتاد. كرسيّ واحد مسحوب، وفنجان قهوة وحيد، وصحن للصغير. وضعت أمامه قطعة خبز وكأس حليب، وجلست على الطرف الآخر من الطاولة. لأول مرة، لم تتصرف كمن يراقب طفلًا في بيتٍ يضمّ ثلاثة، بل كمن يتحمّل مع طفل واحد مسؤولية كل شيء: الصمت والكلام، الخبز والمستقبل.
سألته وهي تحرّك الملعقة في كوبها وقتًا أطول مما يلزم:
ـ هل تحب أن نغيّر شيئًا في البيت؟ نعيد ترتيب غرفتك؟ الصالون؟
هزّ رأسه:
ـ لا أعرف.
كانت إجابته صادقة. لم يعد يعرف إن كان التغيير يريحه أم يربكه أكثر. ما عاد يثق في أن بيتًا مستقرًّا اليوم سيبقى غدًا كما هو.
مع مرور الأيام، بدأت ملامح المرحلة الجديدة تتضح. زينب ـ التي كانت طوال السنوات الماضية نصف حكاية، زوجة لرجل وأمًّا بالتبنّي لطفل ـ صارت الآن كل الحكاية داخل هذا البيت: أمًّا وحيدة، وصوتًا وحيدًا، وكتفًا وحيدًا.
أخذت على عاتقها أن تُخفف ما أمكن من آثار الفقد المزدوج: فقد الأب، وفقد شعور “الأسرة الكاملة”. كانت تُصرّ على طقوس صغيرة كأنها أوتاد الخيمة الجديدة: إفطار بسيط يجلسان فيه معًا ولو لخمس دقائق قبل المدرسة، سؤال ثابت عن اليوم عند عودته، متابعة الواجب، وإصرار على أن يظلّ البيت مرتبًا، كأن الفوضى، لو دخلت، قد تجلب معها ذكريات لا تريد لها أن تستيقظ.
في المدرسة، لم تتغير أشياء كثيرة ظاهريًا. المعلم هو المعلم، الصف هو الصف، والأصدقاء القليلون هم أنفسهم. لكن في داخل يونس، كان هناك فارق خفي: حين يُطلب منهم كتابة موضوع عن “الأسرة”، تتأزّم الكلمات في قلمه. يبدأ بعبارة: “أسرتي مكوّنة من…”، ثم يتوقف. هل يكتب “أمي” فقط؟ هل يضيف اسم الرجل الذي غادر؟ هل يكتب عن قرية بعيدة فيها أب اسمه باسو وأم اسمها حادة، لم يرهما منذ أن خرج من المستشفى؟
في النهاية، يختار الطريق الأبسط أمام المعلم:
“أسرتي مكوّنة من أمي، التي تهتمّ بي وتساعدني في دراستي.”
تقرأ زينب الموضوع لاحقًا في البيت، تشعر بوخزة في صدرها. تعرف أن في هذه الجملة اختزالًا لقصةٍ أطول بكثير، لكنها لا تصححه. تكتفي بأن تقول له:
ـ كتابة جميلة.
بينما تقول في سرّها: “ليت العالم يعرف كم من الأسماء اختفت لتبقى كلمة (أمي) هذه وحيدة على الورق.”
اقتصاديًّا، لم تتحوّل الحياة إلى رخاءٍ فجأة. بالعكس، صار الحمل أثقل على زينب وحدها. اشتغلت في عملٍ إضافيّ جزئيّ، تنظّم ساعاتها بين دوامٍ قصير في مكتبٍ متواضع، وبين عودةٍ مسرعة إلى البيت قبل انتهاء حصص يونس. تعلمت أن تُدير الوقت كما تُدار الميزانية: بحذرٍ وحساب.
يونس، من جهته، بدأ يدرك ـ من غير أن يُقال له صراحةً ـ أن كل طلبٍ زائد قد يعني توترًا جديدًا. حين يرى حذاءه تبلى أطرافه، يتردد قبل أن يقول: “أريد حذاءً جديدًا.” حين يسمع زملاءه يتحدثون عن دروس الدعم، يسأل نفسه أولاً: “كم تكلف؟” قبل أن يسأل: “هل أحتاجها؟”
ذات مرة، قالت له زينب وهي تعود منهكة:
ـ الشيء الوحيد الذي لا أريد أن تُفكّر فيه هو أنك عبء.
نظر إليها مطولًا، ثم قال بهدوء طفلٍ احترف الصدق:
ـ لكنني جزء من الحساب، سواء فكّرتُ أو لم أفكّر.
ابتسمت بحزن:
ـ أنت الجزء الوحيد الذي لا يُمسّ، مهما تغيرت الحسابات.
مع الوقت، تعمّقت العلاقة بينهما بطريقة لم تكن ممكنة في وجود رجلٍ ثالث بينهما. صار بينهما شكل من أشكال الصداقة الحذرة: تجلس معه أحيانًا لتتحدث عن طفولتها، عن قريتها هي أيضًا قبل أن تنتقل إلى المدينة، عن أخٍ فقدته صغيرًا، عن أحلامٍ قديمة لم تكتمل. لا تذكر تفاصيل عن سبب عدم إنجابها، ولا عن لحظة قرار التبنّي الأولى، لكنها كلما روت قصة من ماضيها، كان يونس يشعر أنه يُسمح له، بالمقابل، أن يحتفظ بسرٍّ واحد على الأقل لنفسه: اسمه الأول الذي لم تعد هي تنطقه إلا نادرًا، حين تغلبها العاطفة فتقول في زلة: “آ … أمنا… عفوًا، يونس.”
كان هذا الانزلاق في الاسم يحدث أحيانًا حين يمرض، أو حين تراه نائمًا قبل أن تطفئ النور. تقف عند باب الغرفة، تستند إلى الإطار الخشبي، تنظر إلى ملامحه في العتمة المخفّفة، فيبدو لها كأنه طفلان في جسد واحد: واحدٌ عاش هنا منذ سنوات، وآخر جاء من مكان بعيد يحمله معه.
مرةً، تقدمت على أطراف أصابعها، جلست على طرف السرير، مررت يدها في شعره وهمست دون أن تنوي أن يسمع:
ـ لو عرفوا ما صار بك، لَمَا نامت عين في تلك القرية.
كان يغطّ في نومٍ عميق، لكن شيئًا في جسده ارتجف قليلا، كأن الكلمة لامست مكانًا في حلمه.
في سنوات الهدوء النسبي هذه، خفّت وطأة الفلاش باك في ذهن يونس، لكنها لم تختفِ. صارت تأتي على شكل ومضاتٍ متباعدة: أثناء سيره في شارعٍ بعد المطر، تذكره رائحة الإسفلت المبلّل برائحة طريق المستشفى في ذلك اليوم الأول. حين يرى سريرًا حديديًّا في فيلمٍ تلفزيونيّ، يقفز إلى ذهنه سرير المستوصف الأبيض وجدارٌ مقشّر وسقفٌ عالٍ. في أحد الدروس، حين تكلّم المعلّم عن “التزوير” في مادة التربية المدنية، أحسّ بطنه ينقبض؛ تذكّر توقيعاتٍ لا يعرف مضمون أوراقها، وختمًا أزرق على ورقة وفاةٍ لم يرَ صاحبها يُدفَن.
ومع ذلك، شيئًا فشيئًا، بدأت حياة المدينة تأخذ حيزًا أكبر من وعيه: صداقات بسيطة في المدرسة، نجاح في مادةٍ يُثني عليه فيها الأستاذ، أول مرة يسمع فيها زينب تقول لجارتها بفخر:
ـ يونس حصل على أعلى نقطة في الامتحان.
تلك الجملة أشعرته أن وجوده هنا ليس فقط “مشروع إنقاذ”، بل بداية حقيقية لحياةٍ يمكن أن تُبنى فوق هذا الأساس الهش.
كانت الأمسيات المشتركة بينه وبين زينب تزداد. يشاهدان أحيانًا برنامجًا وثائقيًا عن الحيوانات؛ تندهش هي من دقة بعض التفاصيل، بينما يندهش هو من قدرة الكاميرا على الاقتراب من أفاعٍ وأنياب دون أن تخاف. مرةً قالت له وهي ترى ثعبانًا على الشاشة:
ـ هل تخاف أن ترى هذا؟
هزّ رأسه:
ـ لا. ما يخيفني ليس الأفعى، بل الذين يستعملونها ليكتبوا قصة أخرى لغيرهم.
نظرت إليه نظرةً طويلة، شعرت أن الطفل الذي أمامها ليس فقط ضحية حدثٍ قديم، بل قارئ مبكر لمعنى الظلم.
على الرغم من كل هذا التقارب، ظلّ هناك في علاقة يونس بزينب شيء غير منطوق: حافة رقيقة من الحذر. هو يخاف، في أعماقه، أن يحب المكان أكثر مما ينبغي، فيُسحب منه فجأة كما سُحبت أشياء كثيرة من قبل. وهي تخاف، في أعماقها، أن تترك لهذا الحب أن يكون بلا حدود، فتفقد ذات يوم القدرة على حمايته من واقعٍ قد يفرض نفسه
لكنّ الحياة، كما تفعل دائمًا، لم تنتظر حتى يتراضيا مع هذا الخوف. كانت تحضّر لهما، بهدوء، امتحانًا جديدًا لم يكن في حساب أحد: قرار زينب بالزواج من رجل آخر يطرق بابها بعد سنوات من الوحدة، ورجلٍ لن يرى في يونس بالضرورة ما تراه هي.
في تلك اللحظة الفاصلة، حين سيُطلب من قلبٍ واحد أن يتسع لحبّين متنازعين، وحين سيُطلب من طفل أن يجرّب شكلاً آخر من العائلة لم يختره أيضًا، سيفهم يونس أن الاستقرار الذي عاشه مع زينب كان فصل راحةٍ بين إعصارين، لا نهاية الحكاية.
وهو يطفئ النور في غرفته، وزينب تغلق باب الصالون برفق، كان كل ما يشعر به أنه ـ لأول مرة منذ زمن ـ لا ينام في بيتٍ يخاف أن يُطرد منه في أي لحظة، وأن كلمة “أمّي” حين تخرج من فمه باتت تمتلك، ولو مؤقتًا، مكانًا تحطّ فيه.
يتبع…
المصدر: العمق المغربي
