“ضائع في كفن الحياة” رواية تستلهم واقعًا مغربيًّا قاسيًا عبر سيرة أمناي، الطفل القروي الذي أُعلن موته خطأ بعد لدغة أفعى في مستوصف عمومي، بينما يُهرَّب من الباب الخلفي كبضاعة بشرية تتقاذفها أيادي نافذين وسماسرة.

الرواية، المنشورة حلقات على صفحات “العمق”، لا تكتفي بسرد مأساة فردية، بل تفضح هشاشة منظومة حماية الطفولة حين تختزل الأجساد في أوراق والأرواح في ملفات، وتغوص بإيقاع بطيء وعميق في الندوب النفسية التي يخلّفها الإهمال، وفي أسئلة العدالة والمغفرة، وهي ترافق البطل إلى لحظة اختياره لمصيره. هذه الحلقات ليست فقط لتتبّع قصة مثيرة، بل لدعوة القارئ إلى التفكير في أطفالٍ كُثر قد يكونون اليوم “ضائعين في أكفان الحياة” في هوامش هذا البلد.

تتوالى الأيام في البيت الجديد كصفحات دفترٍ مدرسيّ مرتب، لكن قلب الطفل يظلّ مكتوبًا بخطّ آخر لا يراه أحد. كان يونس ـ أمناي سرًّا ـ يتعلم بسرعةٍ قوانين العالم المحيط به، لكن شيئًا في داخله يقاوم أن يصير سطرًا عاديًّا في دفتر هذه الأسرة.

في الصباح، يوقظه صوت المنبّه قبل أن تطرق زينب الباب بلطفٍ محسوب:

ـ يونس، استيقظ… ستتأخر عن المدرسة.

يفتح عينيه ببطء، يحدّق في سقف الغرفة، يحاول أن يتذكّر للحظة شعور أن تستيقظ على صوت الديك لا على جرسٍ معدنيّ. ينهض، يطوي الغطاء كما طلبوا منه أن يفعل كل يوم، يضع قدميه على أرضية باردة ناعمة، لا على ترابٍ دافئ أو حصيرٍ خشن. في المرآة الصغيرة المعلّقة قرب الباب، يرى وجهًا بدأ يعتاد شعرًا مصففًا وثوبًا مكويًا، لكن عينيه لا تزالان تحملان ظلًّا من بريق الجبل البعيد.

في المطبخ، تجلس زينب أمام مائدةٍ منظمة: أكواب، صحون، مربّى، خبزٌ أبيض مقطّع بعناية. تقول له وهي تدفع بالصحن أمامه:

ـ يجب أن تأكل جيدًا، المدرسة تحتاج عقلاً مرتاحًا.

يهز رأسه، يلتقط قطعة خبز صغيرة، يتذكر تلقائيًّا رغيف حادة المحمّص على حافة النار، وكيف كان ينتزع القطعة الأولى سرًّا ويحشوها بالزيت والملح. هنا، لا رائحة دخان، ولا حافة قدر، كل شيء نظيف، لكن النظافة لا تعني الطمأنينة دائمًا. يلوك اللقمة ببطء، يشعر أن فمه يحنّ إلى طعمٍ آخر، إلى فتاتٍ يلتصق بالأصابع ويترك أثره على الملابس.

رضا يجلس قبالته، يراجع على عجل أوراقًا في حقيبته الجلدية، يرفع عينيه من حين لآخر ويقول:

ـ اليوم ستتعرّف إلى معلّمك الجديد. اسمه الأستاذ سامي، رجل طيب. كن مجتهدًا، لا نريد مشاكل منذ البداية.

تَعْلق كلمة “مشاكل” في هواء الغرفة. لم يكن أمناي يعرفها بهذا المعنى من قبل؛ في القرية كانت “المشاكل” تعني عراكًا على الماء، أو خلافًا على حدود حقل، أو شكوى من عنزةٍ أكلت نباتًا لا يخصها. هنا، يبدو أن “المشاكل” شيء أكبر، مرتبط بسلوك، بدرجات، بصورةٍ يجب أن تبقى ناصعة أمام المدرسة والجيران.

في طريقه إلى المدرسة، يسيران في شارعٍ مستقيم، على جانبيه متاجر صغيرة وأبواب عمارات متشابهة. يونس يحمل حقيبة جديدة، ألوانها زاهية، على عكس السلة القديمة التي كان يحمل فيها خبز الصباح إلى الحقل. ينظر إلى الأطفال الآخرين، يراهم يسيرون مطمئنين، يتحدثون عن برامج التلفاز والألعاب، يضحكون بأصواتٍ عالية لا يخشون صداها بين الجدران. يحاول أن يلتقط مفردات لغتهم، لكنّ كثيرًا منها يبدو غريبًا: أسماء مواد، أسماء فرق كرة، أسماء أماكن لم يزرها.

أمام باب المدرسة، بوابة حديدية عريضة، وساحة يُسمّى فيها الاصطفاف “طابور الصباح”. يُدفع مع بقية الأطفال إلى الداخل، يبتعد رضا، يلوّح له وهو يردد:

ـ كن شجاعًا يا يونس.

الكلمة تُعيده لحظةً إلى الحقل، إلى صوت باسو وهو يقول: “أنت رجل البيت، لا تخف من الظلام.” الفرق أن الظلام آنذاك كان غابة وأفعى، أما هنا فهو عيون كثيرة تراقب وجهه، أسماء تناديه، ومعلم يسأل: “من أنت؟”

في الصف، يجلس في آخر مقعد. الجدران مغطاة برسومات وخرائط وأحرف ملونة، على عكس جدران مدرسة القرية العارية إلا من سبورة سوداء وعبارة باهتة عن العلم. المعلّم يكتب اسمه على اللوح: “الأستاذ سامي”، ثم يلتفت إلى التلاميذ واحدًا واحدًا.

ـ ما اسمك؟

ـ اسمي… يونس.

تتردد الكلمة في فمه، كأنها قطعة حجر حاد في فمٍ لم يتعود سوى على حبات الشعير. يكتب المعلم الاسم في اللائحة، ينقل الطفل من خانة “مجهول” إلى خانة “موجود”.

في داخله، يسمع صوتًا آخر يقول: “أمناي”. لا يُكتب هذا الاسم في أي دفتر. يبقى سطرًا سريًّا في ذاكرة لا يطّلع عليها أحد.

أول حصة تمرّ كأنها اختبارٌ للصمت. الأطفال يرفعون أيديهم، يجيبون، يخطئون، يضحكون. يونس يراقب. لا يجرؤ على الكلام كثيرًا، يخاف من ضحكةٍ قد تنفجر في وجه لهجته الريفية إذا انزلقت كلمة من عالمه القديم. حين يضطر للإجابة، يحرص أن تكون الجملة قصيرة، مفصولة المقاطع، بلا حروف تُمدّ أكثر من اللازم.

في الاستراحة، يقف وحيدًا قرب الجدار. يراقب لعبة الكرة في الساحة، يسمع أسماءً تنادى: “هشام”، “آدم”، “سليم”. لا أحد ينادي “يونس”. في لحظة شرود، يسمع من بعيد ـ أو يتخيل أنه يسمع ـ أحدهم يصيح: “أمناااي!” يلتفت بقوة، لا يجد سوى طفلٍ ينادي صاحبه باسم آخر. يبتسم لنفسه بمرارة صغيرة: يبدو أن الأسماء تلاحقه حتى في أوهامه.

في البيت الجديد، بعد المدرسة، يبدأ نوعٌ آخر من الامتحان. زينب تفتح حقيبته، تراجع كراسه، تسأله عن الدروس، تساعده في كتابة الواجب. تحاول أن تكون أمًّا كما يجب أن تكون الأمهات في الكتب: صبورة، مشجعة، حازمة عند الحاجة.

ـ لماذا كتبت هذه الكلمة بهذا الشكل؟

ـ هكذا تعلّمنا في القرية…

ـ هنا نكتبها هكذا. يجب أن تنسى تلك الأخطاء.

“تنسى”. الكلمة ليست بريئة. شيئًا فشيئًا، كل تصحيحٍ في الدفتر يبدو له كأنه محاولة لمحو طريقةٍ كاملة في رؤية العالم. في القرية، كانت الأخطاء تُقوَّم بالضحك، أو بضربة خفيفة على الرأس من يد المعلم، ثم يركض الجميع إلى الحقل. هنا، الخطأ يُحاصَر بدائرة حمراء، يُعلَّق في دفترٍ قد يُرى في اجتماع أولياء الأمور.

 

صعوبة التأقلم لا تظهر فقط في الكلام والكتابة، بل في الجسد أيضًا. في القرية، كان جسمه يعرف طريقه جيدًا: كيف يقفز فوق الجدول، كيف يركض في الحقل دون أن يتعثر، كيف يتسلق شجرة تين بجوار البيت. في المدينة، لا يوجد جدول ليتجاوزه، ولا شجرة ليصعدها. الأرصفة مستقيمة، لكنها تضيق تحت قدميه. كلما حاول أن يركض، جذبته يد الكبار إلى الخلف:

ـ انتبه، للسيارات!

ـ لا تبتعد عن الرصيف!

ـ لا تلمس ذلك، إنه متسخ!

يصبح جسده فجأة محاطًا بخطوطٍ حمراء لا تُرى، لكنه يحسّها عند كل خطوة.

في الليل، تشتدّ وحشة المكان. رضا وزينب ينسحبان إلى غرفتهما بعد نشرة الأخبار، تبقى الأضواء خافتة في الصالون، ويسود البيت صمتٌ لا يُشبه صمت القرية. هناك، كان الصمت مملوءًا بأصوات خفيّة: همس الأشجار، حفيف الحشرات، أنين الريح عند زوايا الجدران. هنا، الصمت مجرّد فراغ بين جدران سميكة.

ينام يونس على سريره، يحاول أن يُحصي في ذهنه نجومًا لا يراها من نافذته. تتسلل إلى ذاكرته فجأة صورة الغرفة التي وُضع فيها النعش الفارغ، بكاء حادة، يد باسو المعلقة في الهواء، عيون عسو التي كانت تشك ولا تجد دليلاً. لا يعرف من أخبره بكل تلك التفاصيل؛ هو لم يكن هناك، لكن ذاكرته تصنع صورًا لما يمكن أن يكون قد حدث، كأنها تكمل القصة نيابةً عنه.

في أحد الأيام، عاد من المدرسة مهمومًا أكثر من العادة. في الساحة، ضحك بعض التلاميذ حين سمعوا لكنته وهو يقرأ جملة في الدرس. حاول المعلم أن يخفف الأمر، قال لهم:

ـ لكل واحد منا لغته ولهجته… المهم أن نفهم بعضنا.

لكن الضحكة ظلت عالقة في أذنيه، تعود في رأسه مثل صدى حجر سقط في بئر عميق. في البيت، سألته زينب:

ـ كيف كان يومك؟

ـ عادي.

لم يقل لها عن الضحكة. في القرية، حين كان الأطفال يضحكون على طريقة نطقه لكلمةٍ ما، كانت حادة تسمعهم، وتخرج إلى الباب، وتردّ لهم بمزحة تفكك الموقف. هنا، لا بابَ فناءٍ مفتوحًا، ولا أمّ تتقن لغة الردّ على الأطفال الغرباء.

مرّت الشهور الأولى ثقيلة. تَعلّم “يونس” أن يكتب بسرعة، أن يجيب في الصف دون أن يُظهر ارتباكه، أن يحفظ عناوين الشوارع القريبة من البيت، أن يفتح الماء الساخن قبل البارد في الحمّام، أن يصفّ حذاءه عند الباب مباشرةً لا عند العتبة. لكن كل هذا كان أشبه بتعلّم العيش في جلدٍ جديد لا يلائم جسده تمامًا. أحيانًا، حين يكون وحده في الغرفة، يُغمض عينيه ويتخيّل أنه يشق هذا الجلد بسكّين خفي، فيخرج منه طفلٌ صغير اسمه “أمناي”، يركض حافيًا نحو الحقل، لا يحمل معه حقيبة ولا دفتر حضور.

في إحدى الليالي، استيقظ فزعًا من حلمٍ ثقيل: رأى نفسه في المستشفى، جسده على السرير، قلبه يرفض أن يتوقف رغم إعلان الطبيب، ووجه الرجل ذي المعطف الأبيض يقترب منه وهو يضع إصبعه على شفتيه علامة الصمت. خلف الزجاج، كانت حادة تضرب بيديها وتصرخ، لكن الصوت لا يصل. عند الباب، رأى عسو يحاول أن يفتح، ومينة تمسك بيده. وبينهما، باسو يوقّع ورقةً لا يقرأها.

استيقظ وهو يلهث، عرق بارد يغطي عنقه. جلس في الظلام، سمع تنفس البيت المتساوي، لم يجرؤ أن يخرج من الغرفة. ذهب إلى النافذة، فتحها قليلاً، ترك وجهه يلتقط شيئًا من هواء الليل. تخيّل أن رائحة بعيدة من قريته وصلت إليه، مزيج من ترابٍ رطب وحطبٍ يحترق. همس باسم نفسه الأول:

ـ أمناي…

هذه المرة، لم يخَف أن يسمعه أحد. اكتشف أن أقسى أنواع الوحدة هي تلك التي لا يسمع فيها أحد حتى أسماءنا القديمة.

في المدرسة، بدأ المعلم يلاحظ أنه يسرح كثيرًا. سأله يومًا وهو يمر بين الطاولات:

ـ أين ذهبت الآن يا يونس؟

ابتسم بخجل:

ـ كنت… أفكر في شيء.

ـ في ماذا؟

تردد قليلاً، ثم قال:

ـ في جبل.

ضحك بعض التلاميذ. المعلم ابتسم وقال:

ـ الجبال جميلة… لكن حاول أن تكون في الصف حين أشرح، واترك الجبل للاستراحة.

هز يونس رأسه، لكنه في داخله فكّر: “كيف أترك الجبل وقد تركني كل شيءٍ سواه؟”

يتبع..

المصدر: العمق المغربي

شاركها.