“ضائع في كفن الحياة” رواية تستلهم واقعًا مغربيًّا قاسيًا عبر سيرة أمناي، الطفل القروي الذي أُعلن موته خطأ بعد لدغة أفعى في مستوصف عمومي، بينما يُهرَّب من الباب الخلفي كبضاعة بشرية تتقاذفها أيادي نافذين وسماسرة.

الرواية، المنشورة حلقات على صفحات “العمق”، لا تكتفي بسرد مأساة فردية، بل تفضح هشاشة منظومة حماية الطفولة حين تختزل الأجساد في أوراق والأرواح في ملفات، وتغوص بإيقاع بطيء وعميق في الندوب النفسية التي يخلّفها الإهمال، وفي أسئلة العدالة والمغفرة، وهي ترافق البطل إلى لحظة اختياره لمصيره. هذه الحلقات ليست فقط لتتبّع قصة مثيرة، بل لدعوة القارئ إلى التفكير في أطفالٍ كُثر قد يكونون اليوم “ضائعين في أكفان الحياة” في هوامش هذا البلد.

مع مرور الوقت، لم تعد المدينة غريبة تمامًا. كانت في البداية كضيف ثقيل يفرض وجوده في كل زاوية، ثم صارت شيئًا فشيئًا مثل ثوبٍ واسع، لا يلائم الجسد تمامًا، لكنه لا يخنقه كما في الأيام الأولى. البيت الرمادي الذي بدا كقشرةٍ باردة، بدأ يكتسب في عيني يونس ـ أمناي في سره ـ ملامح مألوفة: صوت مفتاح رضا في الباب عند عودته مساءً، طقطقة أطباق زينب في المطبخ، رنين الهاتف القصير، وحتى صرير النافذة في ليالي الريح.

تعوّد طريق المدرسة: الحانوت الذي يمرّ أمامه كل صباح، رائحة الخبز الصناعي التي تخرج من مخبزة صغيرة قرب الزقاق، الرجل العجوز الجالس على كرسي بلاستيكي عند الزاوية يطعم الحمام ويصافح الأطفال بنظرةٍ صامتة. صار يعرف أوقات ازدحام الشارع، متى تمرّ الحافلة الحمراء، ومتى يُغلق محلّ الكتب. هذه التفاصيل الصغيرة، حين تتكرر، تصنع نوعًا من الأمان يشبه الحبل الرفيع الذي يُمسكه المتسلق وهو يصعد جبلًا لا يعرف قمّته.

في الصف، بدأت العيون تعتاد وجوده. لم يعد “الغريب” كما في الأسابيع الأولى. صار له مكان ثابت في آخر الطاولة الوسطى، ودفتر يحمل ملاحظات المدرّس الحمراء، واسمه “يونس” يُنادى كل صباح في لائحة الحضور، فتستجيب “نعم” قبل أن يتدخل وعيه. لم تختف صعوبة التأقلم تمامًا، لكنها اتخذت شكل همهمات داخلية أكثر من كونها اصطدامات يومية.

وجد صديقًا أو صديقين على استحياء. طفلٌ يجلس قربه أحيانًا في الاستراحة، يتبادلان بعض الكلمات عن المباراة أو الواجب، ثم يفترقان دون أن يسأل أحدهما الآخر عمّا وراء الباب حين يعود إلى بيته. لم يجرؤ يونس أن يحكي لهم عن الجبل والجدول والأفعى والنعش الفارغ. اكتفى بأن يصنع لهم قرية صغيرة من الكلمات المبسطة: “كنت ألعب في الحقول. كنا نملك بغلًا وكلبًا.” يضحكون:

ـ بغل حقيقي؟

يهز رأسه ويبتسم. لا يشرح لهم أن البغل كان جزءًا من حياته أكثر من كثير من البشر، ولا أن الكلب كان حارسًا للياليه الباردة.

في البيت، كان رضا وزينب يقدّمان نموذجًا هادئًا للأسرة المستقرة. لا صراخ، لا ضرب، لا شجارات عالية كما يسمع أحيانًا من شقق الجيران. الرجل يعود من عمله، يضع حقيبته في مكانها المحدد، يسأل عن المدرسة، يوقّع على دفتر الواجب إن احتاج الأمر. المرأة تجهّز الطعام، تنظم البيت، تتابع دروسه، تحرص أن تبدو دائمًا في صورة الأم التي “فعلت ما عليها”.

أحيانًا، عند المساء، يشاهدان معه برنامجًا تلفزيونيًا تعليميًا، يتظاهرون جميعًا بالاهتمام، رغم أن نظر يونس يزوغ أحيانًا نحو زوايا الشاشة بحثًا عن لقطة حقل، أو جبلٍ في خلفية مشهد وثائقي.

ومع ذلك، شيئًا فشيئًا، بدأت حياته القديمة تخفّ في ذاكرته كصوت بعيد. لم يعد يتذكر تفاصيل وجه الممرضة في المستوصف، ولا شكل الباب الجانبي كما رآه في نصف وعيه، ولا حتى صوت أقدام الرجل ذي العباءة على أرض الساحة الخلفية. الحقل نفسه بدأ يفقد ألوانه: أخضر الشعير صار أبهت قليلًا في خياله، وصوت الجدول لم يعد واضح النبرة كما كان. يتذكره، نعم، لكن كمن يتذكر حلمًا رأى مثله عشرات المرات.

حتى القرية، ببيوتها الطينية، بدأت تتحول في ذهنه إلى لوحة ثابتة أكثر منها مكانًا عاش فيه. حين يُغمض عينيه، يراها من أعلى، كأنّه صار طائرًا لا طفلًا. يدرك، دون أن يعرف كيف يصف، أن المسافة بينه وبين تلك الأزقة قد صارت أكبر من أن تُقطع في ساعة مشي أو ركوب. هناك شيء داخليّ بدأ يتشكل: قابلية لأن يتصالح مع اسمه الجديد، مع مدرسته، مع مدينته، لا حبًّا فيها بقدر ما هو عجزٌ عن البقاء معلّقًا في هواء لا أرض له.

ذات مساء، جلس رضا معه في الصالون، بعيدًا عن دفاتر الدراسة. أغلق التلفاز، شرب رشفة من الشاي، ثم قال بنبرة حاول أن يجعلها أقرب:

ـ يونس، أنت تعلم أننا… اخترناك.

رفع الطفل عينيه، لم يفهم الجملة تمامًا. تابع الرجل:

ـ كان يمكن أن يكون غيرك هنا، في هذا البيت. لكنك أنت الذي صرت ابننا. هذا يعني أن لك نصيبًا خاصًا في قلوبنا، وفيما نملكه.

هزّ رأسه بحركة آلية. في داخله شيء يتحفظ، لكنه لم يعد يملك اللغة التي يقول بها: “هناك من اختارني قبل أن تولد هذه الفكرة في رأسك.”

تدخلت زينب بابتسامة ممتنة:

ـ نريدك أن تشعر بالاطمئنان. هذا بيتك، ومستقبلك سيكون هنا.

تلك الليلة، وهو في فراشه، فكّر لأول مرة في المستقبل كما يرسمه الكبار: مراحل، سنوات دراسة، مهنة ربما تلوّح بها أحاديث الرجل عن “الجد والاجتهاد”. الفكرة لم تكن مريحة تمامًا، لكنها لم تعد مرعبة كما كانت سابقًا. المدينة، على قسوتها، بدأت تعرض عليه نوعًا من الأمان: سقف يحميه، سرير دافئ، طعام منتظم، مدرسة تفتح له أبوابًا لم يكن يعرف بوجودها. مقابل ذلك، أخذت شيئًا آخر: حرية الركض بلا حدود، دفء فوضى الحقول، وحق الاسم الأول أن يُنادى به دون حياء.

مرّت سنوات قصيرة بسرعة مدهشة. انتقل من صفٍّ إلى آخر، صار يكتب “يونس” بخطٍ واثق، يحصل على درجات جيدة في بعض المواد، متوسطة في أخرى. لم يعد المعلمون الجدد يعرفون أنه جاء من قرية بعيدة بعد لدغة أفعى وموت معلنٍ لم يكتمل. بالنسبة لهم، هو تلميذ مجتهد، قليل الكلام، يحفظ النصوص جيدًا، ويتلعثم قليلًا فقط حين يُطلب منه أن يحكي عن نفسه.

في البيت، صارت زينب تناديه أحيانًا بـ”ابني” دون أن تشعر بثقل الكلمة. ربما صدقتْها هي أولاً قبل أن يصدّقها هو. بدأت تشتري له ثيابًا وهي تفكر كيف سيبدو حين يكبر، ماذا سيقول الناس عنه، كيف سيقف إلى جانبها في المناسبات. رضا من جهته صار يرافقه أحيانًا إلى المكتبة، يشتري له كتابًا أو اثنين، يشير إلى مجلة فيها صور جامعاتٍ بعيدة.

ـ إذا واصلت هكذا، ربما تدرس هنا يومًا ما.

يبتسم يونس، يحرّك رأسه، يترك الجملة معلّقة بين احتمالين: أن تكون وعدًا، أو أن تكون مجرد طريقة لبناء طموحٍ يشغل قلب الطفل عن الأسئلة التي لا يحب الكبار أن تُطرح.

ومع كل هذا الهدوء النسبي، لم يكن يعرف أن شيئًا ما يتحرك في الهامش، ينتظر لحظةً مواتية لينقض على هذا الاستقرار المرتّب. القدر، الذي بدأ قصته بلدغة أفعى وبابٍ خلفي، لم يكن ينوي أن يترك الحكاية تنزلق بهدوء إلى حياةٍ مستقيمة.

لاحظت زينب في يومٍ ما تعبًا غريبًا في ملامح زوجها، صمتًا أكثر من المعتاد، نظرةً طويلة إلى الفراغ وهو يجلس أمام النافذة. لم تهتم في البداية، قالت لنفسها: “ضغط العمل.” لكن الأيام اللاحقة حملت إشارات أخرى: رسائل على الهاتف يخفيها، مكالمات قصيرة تنتهي بوجه متوتر، تأخّرٌ في العودة إلى البيت، وحديثٌ عابر عن “مشاكل” لم يحدّد طبيعتها.

يونس كان يلتقط هذه التغييرات دون أن يربط بينها خيطًا واضحًا. الطفل الذي تعلّم منذ زمنٍ أن يقرأ وجوه الكبار في قريته، صار الآن يقرأ وجهيْ الرجل والمرأة في المدينة. يرى تعبًا في العين، توتّرًا في زاوية الشفاه، انفلاتًا صغيرًا في نبرة الصوت حين يتجادلان خلف بابٍ نصف مغلق.

أكثر ما أقلقه لم يكن الخلافات نفسها، بل العودة المفاجئة لذلك الشعور القديم: أن الأرض التي يقف عليها ليست صلبة كما أوهم نفسه. أن البيت الذي طمأن نفسه إليه قد يكون بدوره محطة، لا نهاية. أن الأسماء يمكن أن تتغيّر، وأن البيوت يمكن أن تُستبدل، وأن الأبواب، حتى لو كانت أمامية هذه المرة، قد تفتح يومًا على واقعٍ آخر لم يختره.

في ليلةٍ هادئة ظاهريًا، جلس وحده في غرفته، كتاب المدرسة مفتوح أمامه، لكن عينيه معلقتان على ظلّين يتحركان خلف باب الصالون المغلق. لم يسمع الكلمات كاملة، التقط فقط جُملاً متقطعة: “لا أستطيع الاستمرار… المسؤولية… لسنا مجبرين… الطفل…”

توقفت أنفاسه للحظة. عاد فجأة ذلك الإحساس القديم الذي عاشه في المستشفى دون أن يفهمه: أصوات بعيدة تُتخذ فيها قرارات كبيرة لا يُستشار فيها، أوراق تُوقّع، أبواب تُفتح وتُغلق، وحياته هو في الميزان دون أن يكون حاضرًا على الطاولة.

أغلق الكتاب ببطء، نهض واقترب من النافذة. خارج الزجاج، كانت أضواء المدينة تلمع بهدوء، لا شيء فيها يوحي بأن عالمًا صغيرًا قد يتصدع في تلك الشقة في الطابق الثاني. أغمض عينيه، استدعى في ذاكرته ظِل الجبل القديم. حاول أن يتخيل نفسه واقفًا على قمّته، ينظر من هناك إلى هذا البيت، إلى هذه المدينة، إلى ما ينتظره غدًا. شعر، لأول مرة منذ زمن، بأن شيئًا يشبه الخوف القديم يعود، لكن بثوب جديد: خوفٌ لا من أفعى تختبئ في العشب، بل من قرارات تُحاك في غرفٍ مغلقة.

لم يكن يعرف بعد ما الذي يُطبخ له في الغرفة المجاورة، ولا أي باب سيفتح هذه المرة، ولا إلى أين سيُدفع جسده الصغير وهو يحمل اسمين وذاكرتين. كل ما كان يعرفه، وهو يضع جبينه على زجاج النافذة البارد، أن القدر، الذي بدا وكأنه هدأ قليلاً، لم يقل بعد كلمته الأخيرة. وأن حياته، مهما بدت مستقرة الآن بين البيت والمدرسة واسمٍ بدأ يعتاد عليه، تقف على عتبة فصلٍ جديد لم يكن مستعدًا لقراءته.

يتبع..

المصدر: العمق المغربي

شاركها.