“ضائع في كفن الحياة” رواية تستلهم واقعًا مغربيًّا قاسيًا عبر سيرة أمناي، الطفل القروي الذي أُعلن موته خطأ بعد لدغة أفعى في مستوصف عمومي، بينما يُهرَّب من الباب الخلفي كبضاعة بشرية تتقاذفها أيادي نافذين وسماسرة.
الرواية، المنشورة حلقات على صفحات “العمق”، لا تكتفي بسرد مأساة فردية، بل تفضح هشاشة منظومة حماية الطفولة حين تختزل الأجساد في أوراق والأرواح في ملفات، وتغوص بإيقاع بطيء وعميق في الندوب النفسية التي يخلّفها الإهمال، وفي أسئلة العدالة والمغفرة، وهي ترافق البطل إلى لحظة اختياره لمصيره. هذه الحلقات ليست فقط لتتبّع قصة مثيرة، بل لدعوة القارئ إلى التفكير في أطفالٍ كُثر قد يكونون اليوم “ضائعين في أكفان الحياة” في هوامش هذا البلد.
لم يكن الشرخ الذي أصاب البيت فجائيًّا، بل بدأ كخطٍّ رفيع لا يُرى، ثم راح يتّسع بصمتٍ بين كلمةٍ وأخرى، بين نظرةٍ وأخرى. يونس كان يلتقط هذا الاتساع دون أن يفهم أسبابه كاملة، كما يلتقط الطفل تغيّر طعم الماء قبل أن يعرف أن النبع قد اختلط به شيء.
في البدء، كان رضا يعود متعبًا أكثر من المعتاد، لكنّه يحاول أن يخبّئ تعبه خلف جملة واحدة يكررها:
ـ الأمور في العمل… ليست كما كانت.
تسمع زينب الجملة، تضع كوب الشاي أمامه، وتكتفي بسؤالٍ موجز:
ـ أزمة وستمرّ؟
يهز رأسه:
ـ نرجو ذلك.
لكن “نرجو” هذه المرة لم تكن مثل “إن شاء الله” التي يقولها الناس عادةً ليغلقوا باب القلق. كانت تشبه أكثر اعترافًا بأن اليد خرجت من مقود السفينة قليلًا.
بدأت الأرقام تتكلم من حيث لا يراها يونس: راتبٌ تأخّر، حوافز انقطعت، أقساطٌ لم تُدفع في وقتها. فواتير الكهرباء والماء تراكمت في درجٍ أُغلق على عجل، وباب الثلاجة بدأ يفتح على فراغٍ أكبر.
في السوق، صارت المرأة تقيس الأسعار بعينٍ مضطربة، تتردد بين هذا النوع من الخضار وذاك، تحسب في رأسها ما يبقى للغد وبعد الغد. لم تقل شيئًا في البداية؛ اعتادت أن تضبط البيت بصمت، وأن تُسدّد العجز من مهارتها في التدبير. لكنّ التدبير، مهما كان بارعًا، لا يعوّض غياب ما لا يأتي أصلًا.
في ليالٍ متفرقة، سمع يونس أصواتًا منخفضة تتسرّب من غرفة الجلوس حين يظنّان أنه نائم. جُمَل متقطعة، كأن الكلمات تخشى أن تُسمع كاملة:
ـ لا يمكنني أن أستمر وحدي…
ـ لم أطلب منك أن تتحمل كل شيء وحدك…
ـ بيت، مصاريف، طفل، مدرسة… هناك حدود.
تأتي لحظة صمتٍ طويلة، ثم صوت زينب:
ـ الطفل له اسم، اسمه يونس. وهو ليس رقمًا في قائمة مصاريفك.
يُجيب الرجل بنبرةٍ يحاول فيها أن يوازن بين الغضب والإنصاف:
ـ أعلم. لكن الواقع لا يرحم العواطف يا زينب أنتِ تعرفين ذلك.
مع الوقت، لم تعد النقاشات تُؤجل لوقتٍ متأخر من الليل. بدأت تطلّ على النهار أيضًا، تلوّن الصباحات والظهيرات، ولو بنبرةٍ مكتومة. يونس لم يكن يسمع كل شيء، لكنه صار يقرأ آثار الكلام في الوجوه: تجاعيد جديدة في جبين الرجل، نظرة شاردة في عيني المرأة وهي تقشر البطاطس، وشهقة قصيرة تكتمها حين تفتح رسالةً بنكية على هاتفها.
كان يدرك، بطريقته، أنه جزء من معادلةٍ تُعاد كتابتها. لم يقل له أحد: “سبب المشكلة هو وجودك”، لكنّ بعض الجُمل كانت تقترب من هذه الحافة دون أن تسقط:
ـ لو كنّا وحدنا، لكان الأمر أسهل…
ـ لم يكن يجب أن نُقحم أنفسنا في…
ثم يتوقف الكلام فجأة، كأنّهما يخافان من استكمال الجملة أمام نفسيهما قبل أن يخافا من آذان الطفل.
في أحد الأيام، عاد رضا متأخرًا على غير عادته. لم يكن في مشيته التعب المعتاد فقط، بل انكسارٌ خفيف في الكتفين. جلس في الصالون دون أن يغيّر ثيابه، حدّق في الفراغ طويلاً، ثم قال بصوتٍ بدا كأنّه موجه إلى نفسه أكثر من أي أحد:
ـ انتهى عقدي مع الشركة.
توقفت يد زينب التي كانت ترتّب الأطباق.
ـ ماذا تقصد بـ”انتهى”؟
ـ أقصد… لن أعود غدًا إلى المكتب.
سألته بعينين نصف مصدقتين:
ـ مؤقتًا؟
ـ لا أعتقد.
الفراغ الذي خلّفته تلك الجملة كان أوسع من مساحة الصالون. لم يكن فراغ عملٍ فقط، بل فراغ الدور الذي بنى عليه الرجل شعوره بأنه “الممسك بالأمور”. في الأيام التالية، صار يقضي وقتًا أطول في البيت، يخرج أحيانًا للبحث عن فرصة، يعود بحقيبةٍ أخف ونظرةٍ أثقل. يُكثر من الجلوس قرب النافذة، يتابع المارة في الشارع، كأنه يفتّش في وجوههم عن إجابة لسؤالٍ لم يصغه بعد.
زينب، بدورها، بدأت تبحث عن سبلٍ لسدّ بعض الثقوب: تقليص النفقات، إلغاء أشياء كانت تُعتبر ضرورية، التفكير في عملٍ جزئيّ يمكن أن تضيف به شيئًا إلى الدخل. لكنها كانت، في كل ذلك، تضع في ذهنها خطًا أحمر واضحًا:
ـ يونس لن نُعيده إلى مكانٍ آخر. ما دخل بيتنا صار منّا.
قالتها ذات مساء، حين طرح رضا، بحذر، سؤالًا معلّقًا:
ـ هل فكّرتِ… في أن هذا الحمل قد يكون أكبر من طاقتنا الآن؟
ردّت ببساطة حازمة:
ـ الحمل ليس هو الطفل. الحمل هو أن نحافظ على أنفسنا من أن نصير مثل الذين باعوه أول مرة.
تلك الجملة فتحت فجوة قديمة في ذاكرته هو: لم يكن يحب أن يتذكر تفاصيل البداية، لكنه لم يكن غافلًا عنها. يعرف جيدًا أن الطريق الذي جاء بالطفل إلى بيته لم يكن مستقيمًا كله، وأن باب المستشفى الخلفي ليس مجرّد صورة في قصة. وربما، في لحظات الأمان الأولى، أقنع نفسه بأنه يُصلح خطأً ارتكبه غيره، بأنه يعطي حياةً كريمة لمن خُذل. لكن تحت ضغط الأرقام والفواتير، بدأت هذه المبرّرات تهتز.
ـ النية الطيبة وحدها لا تدفع الإيجار، ولا تملأ الثلاجة.
قالها، مرة، في جدالٍ لم يكن يونس حاضرًا فيه، لكنه شعر بارتداداتها في صحنه الفارغ حين تأخّر العشاء عن موعده.
يتبع..
المصدر: العمق المغربي
