“السلطة الحقيقية تنبع من الفعل، لا من الخطابة؛ وحين تُختزل السياسة إلى كلام، يتحول الحكم إلى مسرحية بلا جمهور” حنّة أرندت (Hannah Arendt) “الشرط الإنساني”، 1958.
تقديم:
ظهر خالد تيكوكين، رئيس جماعة تبّانت، في مقطع فيديو قصير صوّره وسط الطبيعة، في مشهد بدا وكأنه محاولة لتوظيف الخلفية الجغرافية كعنصر رمزي للتقرب من مشاعر ساكنة آيت بوكمّاز، بينما كان الهدف الأساس من الفيديو هو الردّ على التصريح الناري الذي أطلقه رئيس الحكومة، عزيز أخنوش، واتهمه فيه صراحةً بتسييس المسيرة الاحتجاجية الأخيرة وتوظيفها انتخابيًا.
في هذا التسجيل الذي اتّسم بالارتجال والارتباك، سعى تيكوكين جاهدًا إلى نفي أي علاقة له بتأطير المسيرة أو الدعوة إليها، متبنّيًا خطابًا دفاعيًا مضطربًا، حاول من خلاله التنصل من التهمة الموجهة إليه، دون أن يقدّم ما يكفي من الحجج أو المعطيات الدقيقة التي تدعم روايته، أو تفنّد بشكل مقنع ما جاء على لسان رئيس الحكومة.
وبدلًا من أن يغتنم الفرصة لتقديم توضيحات مؤسساتية أو بسط معطيات توثّق جهوده في الترافع من داخل موقعه كمنتخب، انزلق تيكوكين إلى تبريرات عاطفية ومواقف فضفاضة، عكست محدودية خطابه السياسي، وساهمت من حيث لا يدري في تأكيد الصورة التي حاول نفيها.
من واجب التأطير إلى سياسة التبرير: دروس في الفشل الجماعي
كنت أترقّب من خالد تيكوكين، وهو يخرج إلى الرأي العام في ذلك الفيديو، أن يتحلى بالشجاعة السياسية والمسؤولية الأخلاقية، فيُعلن بوضوح أنه شارك في المسيرة بصفته مناضلًا في حزب العدالة والتنمية، لا بصفته رئيسًا لجماعة تبّانت، وأن ذلك يدخل في صميم واجبه الدستوري.
فالحزب الذي ينتمي إليه يتلقى دعمًا سنويًا من المال العام، لا من أجل التواري خلف الصمت أو التملّص من المسؤولية، بل لتأطير المواطنين، والدفاع عن قضاياهم، والانخراط في الدينامية المجتمعية بوجه مكشوف. لا ليخرج ويقول، ببرود محيّر، إنه لا علاقة له بمسيرة آيت بوكمّاز، لا من قريب ولا من بعيد.
كان عليه أن يميز بين صفة المنتخب وصفة المناضل، لا أن يفرغ الاثنتين معًا من معناهما. فالمسؤول الحقيقي لا يتنصّل من الفعل الشعبي، ولا يتبرأ من نبض الشارع، بل يتحمّل مسؤوليته فيه، سياسيًا وقانونيًا وأخلاقيًا.
إلا أن ما فاجأني حقًا هو اختياره لخطاب متهافت، كشف عن هشاشة تكوينه السياسي، وضحالة تصوره لتدبير الشأن المحلي، وهو يتحدث بلغة مرتجلة، محاولًا إقناعنا بأنه دافع عن قضايا آيت بوكمّاز طيلة عشر سنوات، لمجرد أنه تبادل كلمات عابرة في مع بعض الوزراء أو أبدى انشغالًا عابرًا أمام الكاميرات.
كان حديثه مثقلاً بالتفاصيل الهامشية، يروي عن لقاءات عابرة جمعته بمسؤولين حكوميين، زاعمًا أنه أثار أمامهم مشاكل المنطقة، وتلقى منهم وعودًا شفوية لم ترَ النور. وبدل أن يقدّم معطيات موثقة، أو يعرض ما أنجزه على أرض الواقع، اكتفى باستحضار لحظات بروتوكولية لا قيمة مؤسساتية لها، وكأنها تُعادل سنوات من الترافع والتخطيط والمساءلة.
لقد أدهشني أن أسمعه يقول، بكل سذاجة أنه التقى بالوزير فلان، وقال له كذا وكذا، بحضور الوالي فلان والعامل قلان.
وكأن السياسة تُدار بالهمس في الآذان لا بالملفات المدروسة. كان من المحرج، بكل صدق، أن يخرج رئيس جماعة ترابية، ونائب برلماني سابق، بهذه اللغة المرتبكة، وذلك الأسلوب السطحي، ليحاول تبرير غياب أي أثر ملموس لترافعه المفترض، أو إنجازاته الغائبة، باجتماع أو جملة قيلت عرضًا في ممر رسمي.
غير أن الفقرة التي أثارت لديّ الصدمة وخيبة الأمل معًا، كانت حين صرّح، بنبرة السياسي الذي يجهل أبجديات العمل المؤسساتي وأدوات الترافع الرصين، قائلاً: “حين جاء شكيب بنموسى إلى آيت بوكمّاز في إطار الإعداد للنموذج التنموي الجديد، التقيت به وأخبرته بمشكل تغطية الشبكة الهاتفية”.
إن كان هذا هو أقصى ما يستطيع أن يقدمه رئيس جماعة قضى ولايتين كاملتين في المسؤولية، وشغل سابقًا منصب نائب برلماني، فبئس هذا النضال، وبئس هذا الوعي الهش بوظيفة التمثيل الانتخابي ومسؤولياته الدستورية والمؤسساتية.
لقد بدا واضحًا أن الرجل يجهل طبيعة موقعه واختصاصاته، ويخلط بين الأداء الرمزي والتأطير الفعلي، وكأنه لا يدرك أنه رئيس جماعة مُنتخب، ومهمته لا تتمثل في إطلاق تصريحات إنشائية أو تسجيل مواقف انطباعية، بل في التمثيل الجاد والمؤسسي للجماعة، والدفاع العملي عن مصالحها، وتنفيذ مقررات مجلسها، وذلك وفق ما تمليه عليه مقتضيات ومضامين القانون التنظيمي 113.14 المتعلق بالجماعات، وكذا النصوص التنظيمية المتفرعة عنه.
فمسؤوليته لا تُختزل في الظهور المناسباتي أو لقاءات المجاملة، بل في العمل وفق منطق مؤسساتي صارم يقوم على إعداد برنامج عمل الجماعة، وبرمجة المشاريع ذات الأولوية، توفير العقارات اللازمة، والتفاوض بشأن اتفاقيات الشراكة، وإنجاز الدراسات التقنية، وتقديم الملفات للجهات المعنية، والترافع الممنهج والدائم لدى القطاعات الوزارية.
أما اختزال كل هذا في لحظة لقاء عابر مع الوزير، يُذكر كأنّه منجز تاريخي، فهو دليل على عمق الخلل في فهم الوظيفة الانتخابية، واختزال العمل الجماعي في سرديات التبرير، لا في ممارسات التغيير.
السيد الرئيس المحترم؛
لقد كنا ننتظر منك، بصفتك رئيس جماعة ترابية، أن تخرج للرأي العام وتجيب بكل مسؤولية ووضوح عن الأسئلة الجوهرية التي ما زالت معلّقة، لا أن تنجرّ إلى سجال بيزنطي عقيم، تسعى من خلاله، ومعك بعض إخوانك في الحزب، إلى تحويل النقاش الجاد إلى مهاترات إعلامية مفضوحة، لا هدف لها سوى التعتيم على حصيلتك الباهتة، وتهريب النقاش بعيدًا عن صلب القضية وعن حقيقة فشلك الذريع والمتواصل على امتداد عشر سنوات من التسيير.
لقد تابعنا، باندهاش، كيف حاولت إلقاء المسؤولية على العامل حينًا، وعلى الوالي حينًا آخر، ثم على الحكومتين السابقة والحالية، وكأنك مجرد متفرج على مسلسل لا علاقة لك به، لا رئيسًا لجماعة منتخبة، ولا نائبًا برلمانيًا سابقًا، ولا طرفًا في صناعة القرار المحلي الذي فشلت في تفعيله وتنزيله على أرض الواقع.
كان الأولى بك أن تواجه الحقيقة، لا أن تهرب منها، وأن تتحمل مسؤوليتك كاملة، بدل البحث عن مشاجب تُعلق عليها خيبات التسيير، وهشاشة التخطيط، وغياب الرؤية.
فالمواطن البوكمازي اليوم لا ينتظر الخطب العنترية والقصائد الشعرية والجمل والعبارات الإنشائية التبريرية، بل ينتظر أجوبة دقيقةً بالأرقام والمعطيات عن: ماذا فعلت؟ وماذا أنجزت؟ ولماذا لم تحقق ما وعدتهم به؟.
الاختصاصات، البرامج، والبرلمان: ماذا قدّم تيكوكين غير الشفوي؟
كان الأجدر بالسيد خالد تيكوكين، بدل الانخراط في خطاب إنشائي دفاعي، أن يقدّم للرأي العام أجوبة واضحة عن جملة من الأسئلة البديهية التي يُفترض أن تندرج ضمن صميم مهامه واختصاصاته، باعتباره رئيس جماعة ترابية ونائبًا برلمانيًا سابقًا:
هل يعلم تيكوكين الرئيس ما معنى الاختصاصات الذاتية، والاختصاصات المشتركة، والاختصاصات المنقولة للجماعة الترابية، كما ينص عليها القانون التنظيمي رقم 113.14؟ أم أنه ما يزال يتعامل مع مفهوم “الرئاسة” بمنطق رمزي لا مؤسساتي؟
هل قام بإعداد برنامج عمل الجماعة لولاية 20152021، وبرنامج عمل الجماعة لولاية 20212027، وفق ما تقتضيه المقتضيات القانونية التنظيمية؟ أم أن الأمر اقتصر على نوايا وخطابات وأحلام طوباوية دون دراسات أو شراكات أو آجال أو مؤشرات واضحة؟
وفي حال قام فعلاً بإعداد برنامج عمل الجماعة، هل ضمنَه مشاريع دقيقة تتعلق بتغطية الشبكة الهاتفية، وتوفير طبيب قارٍ للمنطقة، وإنشاء ملعب لكرة القدم؟ وهل تم اقتناء العقارات اللازمة لتنفيذ هذه المشاريع، أم بقيت حبرًا على ورق؟
وفي حال تمت برمجتها، هل سعى إلى توقيع اتفاقيات شراكة فعلية مع الوزارات والمؤسسات المعنية من أجل المساهمة في تمويل هذه المشاريع، أم إنه اكتفى بلقاءات مجاملة ووعود شفوية عابرة؟
هل أنجز الدراسات التقنية اللازمة؟ وهل تم إيداع الملفات مكتملة لدى القطاعات الحكومية المختصة، مع المتابعة والترافع الجاد والمستمر لإقناع الشركاء المفترضين والمتدخلين المحتملين بأولوية هذه المشاريع وجدواها التنموية؟
وأخيرًا، ما هي الحصيلة البرلمانية التي قدمها السيد تيكوكين للساكنة؟ هل أوصل صوت آيت بوكماز إلى قبة البرلمان؟ هل تقدّم بمقترحات قوانين؟ هل مارس دوره الرقابي بجدية؟ أم اكتفى بصفة “النائب” دون أداءٍ يُذكر؟
إن هذه الأسئلة، التي لا تُطرح من باب المزايدة، تُعبّر عن الحد الأدنى مما يُنتظر من منتخب تحمّل المسؤولية لولايتين، ويفترض أن يتقن اللغة القانونية، ويفهم أدوات الترافع المؤسساتي، ويقدّم كشفًا دقيقًا للمواطنين عن أفعاله، لا عن أقواله.
كانت الصدمة بالغة حين قمت بتتبع مسار العمل البرلماني للسيد خالد تيكوكين عبر الموقع الرسمي لمجلس النواب، لأكتشف أن النائب الذي مثّل ساكنة آيت بوكمّاز تحت قبة البرلمان لم يُكلّف نفسه، طيلة خمس سنوات كاملة، سوى بطرح أربعة أسئلة فقط، بين شفوية وكتابية.
أما الأسئلة الشفهية الثلاث، فبعيدة كل البعد عن انشغالات دائرته الانتخابية، حيث تمحورت حول:
التصور المستقبلي للصناعة المغربية؛
التنسيق بين صندوق التنمية الفلاحية وصندوق التنمية القروية؛
تطوير منظومة التكوين وتأهيل العنصر البشري في قطاع السياحة؛
بينما اقتصر نشاطه الكتابي على سؤال يتيم واحد حول “أسباب تأخر افتتاح المستشفى المحلي بدمنات”.
وبعملية حسابية بسيطة، نجد أن مجموع ما تقاضاه النائب المحترم خلال ولايته البرلمانية يُقدّر بـ 180 مليون سنتيم، مقابل أربعة أسئلة فقط، أي ما يعادل 45 مليون سنتيم للسؤال الواحد، إذا جاز التعبير. إنها مفارقة مُخجلة، تكشف بوضوح حجم الهوة بين منصب التمثيل وواقع الأداء.
ففي الوقت الذي كان يُفترض فيه أن يمارس مهامه الرقابية والتشريعية بكل حيوية، وينقل صوت ساكنة بوكمّاز ومعاناتها إلى المؤسسة التشريعية، اختار النائب البرلماني الاكتفاء بحضور باهت وأثر شبه منعدم، يؤكد أن الوجاهة الانتخابية لم تكن مقرونة بأي التزام فعلي تجاه من انتخبوه، ولا بأي تصوّر جاد لمفهوم التمثيلية.
خلاصة:
يكشف مسار خالد تيكوكين، سواء كرئيس لجماعة تبّانت أو كنائب برلماني سابق، عن نموذج متكرر من المنتخبين الذين يمارسون العمل السياسي بوعي هشّ وبخطاب دفاعي يفتقر إلى العمق والنجاعة. فقد فضّل، في خضم جدل المسيرة الاحتجاجية بآيت بوكمّاز، الانزلاق إلى تبريرات سطحية وتصريحات مرتجلة، بدل تقديم أجوبة دقيقة عن أسئلة جوهرية تتعلق ببرامج العمل، والترافع المؤسساتي، وتفعيل الاختصاصات المنصوص عليها في القانون التنظيمي 113.14.
ورغم مسؤوليته التمثيلية، اختار تيكوكين أسلوب التملص من المسؤولية، وتحميل الإخفاق للآخرين: العامل، الوالي، الحكومة السابقة والحالية. لكن مراجعة بسيطة لحصيلته البرلمانية تُظهر بؤس الأداء: أربعة أسئلة فقط طيلة خمس سنوات، بكلفة رمزية تُهين قيمة التمثيل الديمقراطي.
إنَّ هذه الرسالة لا تندرج ضمن منطق الاستهداف الشخصي، بل هي مساءلة ضرورية لنموذج سياسي اختزل العمل التمثيلي في استعراض مناسباتي وتبرير دائم، دون التزامات واضحة أو أثر ملموس. إنها دعوة لمحاسبة من يدّعون تمثيل المواطنين، وهم في واقع الأمر غائبون عن همومهم، حاضرون فقط حين تشتدّ الزوابع.
المصدر: هسبريس