متواليةٌ قوية من الصفعات يابانية الصنع تلقّاها خدّ الطرح الانفصالي لكل من “جبهة البوليساريو” والنظام العسكري الجزائري الداعم لها، خلال أشغال التحضير وأثناء المؤتمر الدولي لطوكيو حول التنمية بإفريقيا (تيكاد9).

وبعثت طوكيو، من قلب مدينة يوكوهاما المحتضنة للقمة على مدار ثلاثة أيام، رسالة قوية وواضحة إلى إفريقيا والأمم المتحدة، جددت بها رسميا، الأربعاء، للمرة الثالثة في ظرف يومين، موقفها الثابت بعدم اعترافها بالكيان الانفصالي، وكان ذلك خلال افتتاح القمة التي يحضرُها قادة أفارقة وعالميون بارزون، من بينهم رئيس جنوب إفريقيا سيريل رامابوزا، ورئيس كينيا وليام روتو، فضلا عن الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش.

“وجود كيان لا تعترف به اليابان كدولة لا يمكن أن يؤثر على موقفها بشأن وضعه”، التأكيد هنا لوزير الشؤون الخارجية الياباني، تاكيشي إيوايا، في تصريح رسمي باسم حكومته، وهو موقف ياباني ثابت رغم كل محاولات الجزائر لإقحام الجبهة الانفصالية أو إسباغ “صفة الاعتراف” عليها في محفل بيْن قاري ودولي تنموي من حيث الأهداف والأجندة.

“إيجاد حلول مبتكرة بشكل مشترك مع إفريقيا” هو محور تاسعِ دورات “تيكاد” بنقاشات تنبش “ملاءمة أهداف التنمية للاتحاد الأفريقي مع أهداف أجندة 2030 للأمم المتحدة”. كما تهدف إلى “تعزيز التعاون في مجال الابتكار التكنولوجي بين اليابان وإفريقيا، واستكشاف أسواق جديدة في مجالات الانتقال الرقمي والتنمية المستدامة والاندماج الاجتماعي”.

وقدّر باحثون في العلاقات الدولية، ممن استقت هسبريس آراءهم، أن موقف الدبلوماسية اليابانية المعلِنِ عن تحفظها بشأن حضور الكيان الانفصالي يظل “وازنا وحازما جدا”؛ فيما يُمثل المغربَ في قمة “تيكاد9” سفير الملك باليابان محمد رشاد بوهلال.

عزلة قاتلة وخيبة مضاعفة للجزائر

في محاولتها “إدخال الانفصاليين وتسييس قمة مخصصة للتنمية”، بدَتِ الجزائر خلال قمة يوكوهاما منزوية أكثر من أي وقت مضى في “عزلة قاتلة”.

وبينما كان من المفترض أن تكون، كما جرت العادة، “تيكاد” منصة لتعزيز التعاون اليابانيالإفريقي وحشد الاستثمارات الحيوية من أجل القارة، فإن الجزائر سعتمرة أخرىإلى توظيفها عبر محاولة فرض حضور انفصاليي البوليساريو، على حساب المصالح الحقيقية لإفريقيا.

وبتنبيه من المغرب، اتخذت الحكومة اليابانية قرارا واضحا وحاسما: لم تُوجَّه أي دعوة إلى ممثلي ما يسمى ”الجمهورية الصحراوية”، وهي كيان غير معترف به من قِبل الأمم المتحدة ولا من طوكيو. وأكدت السلطات اليابانية أن “تيكاد” إطار للتعاون بين الدول، مخصص حصرا للدول ذات السيادة والمعترف بها داخل الأمم المتحدة.

خيبة الجزائر لم تقتصر، بحسب معطيات توفرت لهسبريس، على “رفض البلد المضيف، بل أثارت مناوراتها أيضا رد فعل غير مسبوق من الجانب الإفريقي: تحرّك ما لا يقل عن 18 بلدا إفريقيا مع المغرب لتوجيه رسالة احتجاج مكتوبة إلى السلطات اليابانية، عبّروا فيها عن رفض قاطع لحضور الانفصاليين. وأكدت هذه الدول في موقفها أن محاولة التسييس “غير مقبولة” في منتدى مكرس حصريا للتنمية، مضيفة أن الكيان المزعوم “لا يملك ما يُقدمه” لأشغال القمة.

نقطة تحول وكلفة باهظة

يمثل هذا التحرك الجماعي “نقطة تحول”؛ إذ هي المرة الأولى التي يعبر فيها عدد بهذا الحجم من الدول الإفريقية علنا وبشكل مكتوب عن رفضهم لتسلل الانفصاليين داخل إطار دولي، ما يعكس وفق مراقبين “سخطا متزايدا تجاه الجزائر، التي تُتَّهم باستغلال الهيئات الإفريقية لخدمة أجنداتها السياسية، على حساب الأولويات الاقتصادية والاجتماعية للقارة”، وهو ما أبرزه لحسن أقرطيط، أستاذ جامعي خبير في العلاقات الدولية والجيوبوليتيك،

ولم يسبق أن كانت كلفة حضور البوليساريو “باهظة ومهينة إلى هذا الحد”؛ في يوكوهاما، برزت الجبهة ”غير مرغوب فيها” بامتياز: تجاهلها البلد المضيف الياباني، ورفضتها جبهة واسعة من الدول الإفريقية، وافتقدت إلى أي شرعية داخل منتدى يُعنى أساسا بإرساء شراكات مصيرية لمستقبل القارة. والرسالة واضحة: “الأولوية اليوم للتكامل الاقتصادي، والتعاون البنّاء، والتنمية المشتركة ـــ لا للمناورات الإيديولوجية البالية”.

وقال أقرطيط، محاولا إبراز دلالات الموقف الياباني بقمة “تيكاد 9″، ضمن تصريح لهسبريس، إن “النظام الجزائري لم يستخلص العبر من القرارات السابقة التي اتخذت على مستوى الاتحاد الإفريقي؛ حيث العاصمة الغانية أكرا كانت قد اتخذت في السنة الماضية قرارا واضحا يقضي بمنع جبهة البوليساريو من حضور القمم التي يكون فيها الاتحاد الإفريقي طرفا، في إشارة صريحة إلى ما تسببه بعض القمم من توتر نتيجة إصرار النظام الجزائري على إقحام هذه الجبهة وتسويق مشروعها الانفصالي”.

ومن ثمَّة، فـ”إصرار الجزائر على المضي في هذا النهج يضعها في تناقض صارخ مع أهداف الاتحاد الإفريقي، ويؤكد تزايد عزلتها إقليميا ودوليا”، بحسب الخبير ذاته، الذي قال إن “التطورات الأخيرة في يوكوهاما تُثبت أن النظام الجزائري ما زال يعيش حالة إنكار، غير مستوعب للتحولات الواضحة داخل منظمة الاتحاد الإفريقي والمجتمع الدولي”.

وتابع مستدلا بأن الرباط تَعزز موقفها بـ”بيان صريح وقوي وقّعته 18 دولة، أدانت فيه محاولات الجزائر تمرير الطرح الانفصالي داخل أشغال القمة، معتبرة ذلك سلوكا يتعارض مع أسس القانون الدولي ومع الميثاق التأسيسي للاتحاد الإفريقي.

“ما حدث في يوكوهاما ليس مجرد حدث عابر؛ إنه يشكل فضيحة سياسية للنظام الجزائري، ويجسد في الوقت ذاته التوجه العام، قاريا ودوليا، نحو دعم الوحدة الترابية للمغرب ورفض المشاريع الانفصالية”، يُجمل أقرطيط، مبرزا أن “البيان الجماعي بهذا الحجم، ولأول مرة، يُعد رسالة مدوية تؤكد عزلة النظام الجزائري وتضع حدا لمحاولاته المتكررة لتسويق أطروحة مرفوضة (…) وهذا في مقابل إسهام مغربي مقدَّر في جهود الحلول التنموية لصالح قارة مازالت تعاني الكثير تنمويا”.

التنمية القارية تهزم إيديولوجيا الانفصال

الدكتور إدريس لكريني، أستاذ العلاقات الدولية مدير مختبر تحليل الأزمات والسياسات بجامعة القاضي عياض مراكش، قرأ في تجديد اليابان، من خلال أشغال قمة “تيكاد”، موقفها الثابت الرافض لكل الطروحات الانفصالية المرتبطة بجبهة البوليساريو ومن يدعمها، مؤشرا على “حرص طوكيو على أن يظل هذا المنتدى منصة موجهة حصريا للتنمية والتعاون، بعيدا عن محاولات التسييس التي تضر بمصالح القارة”.

وقال لكريني، في تصريح لهسبريس، إن “هذا الموقف يعكس إدراك اليابان خطورة الانفصال على استقرار إفريقيا وأمنها، كما ينسجم مع دعمها لمبادرة الحكم الذاتي التي تقدمها المملكة المغربية كحل واقعي وذي مصداقية، يحظى بتأييد متزايد من المجتمع الدولي، خصوصا من قوى كبرى وازنة في الساحة الدولية”.

وفي العمق، يرى المحلل ذاته أن “اليابان تتحرك في إفريقيا وفق رؤية استراتيجية متعددة الأبعاد: فمن جهة، تسعى إلى تعزيز علاقاتها الاقتصادية مع الدول الإفريقية عبر استثمارات كبرى ومشاريع تنموية، بما يمكنها من ترسيخ حضورها في النظام الدولي، خصوصا في ظل طموحها للإصلاح الأممي ونيل مقعد دائم في مجلس الأمن. ومن جهة أخرى، فإن غياب أي إرث استعماري لها في القارة يمنحها موقعا متميزا، ويعزز منسوب الثقة في شراكاتها مقارنة بقوى أخرى”.

كما أن التنافس الدولي المتنامي حول إفريقيا “يوفر فرصة لإرساء علاقات أكثر توازنا وعدالة، قائمة على المنفعة المشتركة”؛ ما يُفسروفق لكريني“انفتاحَ النقاشات في تيكاد على قضايا محورية، مثل التنمية المستدامة، والتحولات الرقمية والبيئية، والاندماج الاقتصادي الإقليمي”.

وفي هذا السياق، يبرُز الدور المغربي كفاعل محوري داخل القارة، بامتلاكه مشاريع استراتيجية كبرى ذات بعد إفريقي، أبرزها المشروع الأطلسي وأنبوب الغاز مع نيجيريا، التي تعكس رؤية واضحة لربط التنمية بالاندماج القاري. وأضاف معلقا: “هذه المشاريع تمنح المغرب موقعا متقدما كشريك موثوق، وتؤهله للإسهام بشكل فعّال في إنجاح القمة بما يخدم مصالح إفريقيا الجماعية ويكرس التعاون جنوبجنوب”.

وخلص لكريني إلى أن “الموقف الياباني المتقاطع مع الرؤية المغربية إشارة قوية إلى أن مستقبل الشراكات الإفريقيةالآسيوية يجب أن يبنى على الاستقرار، والالتزام بالقانون الدولي، وتغليب منطق التنمية على حساب النزاعات المفتعلة”.

المصدر: هسبريس

شاركها.