سلسلة رحلة العمر.. انطباعات حاج مغربي

الحج ليس مجرد سفر أو تنقل بين شعائر وأمكنة، بل هو عبور روحي عميق يعيد صياغة علاقة المسلم بربه ونفسه والعالم من حوله، فمنذ أن نادى الخليل إبراهيم عليه السلام في الناس بالحج، ظل هذا الركن العظيم يجمع المسلمين من كل فج عميق، في مشهد مهيب تتجلى فيه وحدة الأمة ومساواتها أمام الله.

في هذه السلسلة التي تنشرها جريدة “العمق”، يوثق الحاج المغربي أحمد الطلحي، المنحدر من مدينة طنجة والخبير البيئة والتنمية والعمارة الإسلامية، تفاصيل رحلته إلى الديار المقدسة خلال موسم 1446 هـ، بعد سنوات طويلة من الانتظار والدعاء.

بين الشوق قبل السفر، والسكينة في المشاعر، والمواقف المؤثرة في عرفات والطواف، يقدم الطلحي شهادة صادقة وتأملات روحية وإنسانية وتنظيمية، يشارك من خلالها القارئ مواقف لا تُنسى، ونصائح قد تعين المقبلين على هذه الفريضة العظيمة.

ـــــــــــــ

الحلقة الرابعة: المسجد الحرام.. الصلاة بـ100 ألف ضعف في أطهر بقاع الأرض

 

1 فضل المسجد الحرام:

قال تعالى: “إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ” (آل عمران: 96).

وهناك خلاف كبير من قبل أهل العلم حول أول من بنى الكعبة، لضعف الأحاديث النبوية التي تتحدث عن ذلك ولعدم ذكر ذلك في القرآن الكريم. فهناك روايات تقول إن الملائكة هي أول من بناها، وأخرى تذهب إلى أن آدم عليه السلام هو أول من بناها، ورواية ترجع بناءها إلى شيث بن آدم. لكن ما هو مؤكد أنها اندثرت وأعاد بناءها إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام، قال تعالى:وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ” (البقرة: 127). 

وجاء في الحديث: “لا تشدُّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا (المسجد النبوي)، والمسجد الأقصى”.

 وسمي بالمسجد الحرام لحرمة القتال فيه منذ دخول النبي محمد ﷺ إلى مكة المكرمة منتصراً.

فيه تؤدى مناسك العمرة والحج، من طواف حول الكعبة المشرفة والصلاة خلف مقام إبراهيم وسعي بين الصفا والمروة.

والصلاة فيه تعادل مئة ألف صلاة، قال رسول الله: “صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ”. 

ومن الآداب التي ينبغي الحرص عليها عند دخول المسجد الحرام والخروج منه الدعاء الخاص بارتياد المساجد. فعند دخول المسجد يقدم رجله اليمنى ويقول: “بسم الله، اللهم صلِّ وسلِّم على رسول الله، أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم، من الشيطان الرجيم، اللهم افتح لي أبوابَ رحمتك”، وعند الخروج يُقدِّم رجله اليسرى ويقول: “بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله، اللهم إني أسألك من فضلك، اللهم أَجِرْنِي من الشيطان”.

 

2 توسعات المسجد الحرام:

أعادت قريش بناء الكعبة بعد أن حطم السيل أجزاء منها، ولما اختلفوا فيمن يضع الحجر الأسود في موضعه، اتفقوا على أن يقوم بذلك أول من يخرج إليهم، فكان رسول الله ﷺ وكان في ال35 من عمره، حيث طلب منهم أن يجعلوا الحجر الأسود في كساء ثم يرفعه زعماء القبائل ثم وضعه الرسول ﷺ بيده الشريفة في مكانه.

والحجر الأسود نزل من الجنة، وجاء في الحديث الذي رواه أحمد والنسائي والترمذي: “نزل الحجر الأسود من الجنة وهو أشد بياضاً من اللبن فسودته خطايا بنى آدم”.

وفي عهد رسول الله ﷺ وخليفته أبي بكر الصديق كان المسجد بدون جدار ومساحته 1490 مترا مربعا. وبعد ذلك توالت التوسعات وأعمال الترميم، منها:

التوسعة الأولى في عهد الخليفة عمر بن الخطاب في عام 17 هـ

توسعة الخليفة عثمان بن عفان في عام 26 هـ، ولحد الآن لا يزال الرواق العثماني موجودا

توسعة عبد الله بن الزبير في عام 65 هـ

توسعة الوليد بن عبد الملك في عام 91 هـ، وأصبحت مساحة المسجد 2805 مترا مربعا

توسعات في العهد العباسي

توسعات في عهد العثمانيين، حيث لقب سلاطينهم بخادمي الحرمين الشريفين 

التوسعة السعودية الأولى، وبدأت في عهد الملك سعود عام 1375هـ، ورفعت الطاقة الاستيعابية للمسجد إلى أكثر من 300 ألف مصلٍّ 

التوسعة السعودية الثانية، وكانت في عهد الملك فهد بن عبد العزيز 

التوسعة السعودية الثالثة، وهي بدأت في عهد الملك عبد الله بن عبد العزيز، وهي مستمرة إلى الآن، ورفعت الطاقة الاستيعابية للمسجد إلى مليون و850 ألف مصلٍّ 

وأقترح، أن يتم تثبيت المظلات الضخمة في الساحات المحيطة بالمسجد الحرام وفي أسطحه، مثل المظلات الموجودة في المسجد النبوي، وأن يتم الاحتفاظ بالمنطقة الشمالية للمسجد فارغة حتى تحتضن التوسعة القادمة إن شاء الله.

 

3 أهم الأعمال التي يقوم بها الحاج والمعتمر في المسجد الحرام: 

أهم عمل يقوم به الحاج أو المعتمر في مكة المكرمة، هو لزوم المسجد الحرام، لفضله الكبير، فالصلاة فيه ب100 ألف ضعف، فمن صلى الصلوات الخمس ليوم واحد كمن صلى 282 عاما ونصف العام (بحسب السنة القمرية وعدد أيامها 354، بينما السنة الشمسية 365 يوما)، ومن صلى أياما عديدة فالأجر لا حدود له.

وهناك جدال مستمر حول، هل الأجر نفسه في غيره من مساجد مكة أم فقط في المسجد الحرام. فالقول الأول يذهب إلى أن المقصود هو كل الحرم المكي، ففي أي مسجد أو مصلى بما في ذلك مصليات الفنادق، فالصلاة فيها لها نفس أجر الصلاة في المسجد الحرام. أما القول الثاني فيرى أن الحديث النبوي تحدث عن المسجد الحرام ولم يقل في الحرم المكي، وحدود الحرم المكي تبعد بكيلومترات عن المسجد الحرام، وللحرم أحكام تخصه تختلف عن أحكام المسجد.

ومضاعفة أجر الصلاة في المسجد الحرام لا تقتصر فقط على الصلاة المفروضة، بل حتى على صلاة النافلة، لأن الحديث تحدث عن الصلاة فيه بالإطلاق. وأنصح الحجاج والمعتمرين بعدم تفويت صلاة الجنازة لما لها من أجر كبير يفوق باقي الأعمال التي ينشغل بها عنها بعض الناس، وتقام صلاة الجنازة تقريبا في جميع الأوقات، ولقد رأيت نسبة لا بأس بها من الحجاج تنصرف وتغادر المسجد الحرام مباشرة بعد الانتهاء من الصلاة المفروضة، والبعض يقوم لصلاة النافلة أو ينشغل بالذكر.

ولقد ذهب العلماء إلى أن مضاعفة الأجر تشمل جميع الأعمال الصالحة في مكة، ولكن التحديد لعدد معين لمضاعفة الأجر كان للصلاة فقط. وعليه، فعلى الزائر لمكة أن يكثر من الطاعات والقربات والأعمال الصالحة، من ذلك:

طواف النافلة: وهو كبقية أنواع الطواف بالكعبة يكون بسبعة أشواط، وللأسف نجد البعض يكتفي بعدد أقل من الأشواط. ولا يشترط فيه لا لباس الإحرام ولا الصلاة خلف مقام إبراهيم

الإكثار من قراءة القرآن: ولو استطاع أن يختمه عدة مرات فليفعل، لأن الأجر مضاعف، وعن أجر قراءة القرآن يقول نبينا ﷺ: “من قرأ حرفًا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول (الم) حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف”

الإكثار من الصدقة

الذكر بمختلف صيغه

النظر إلى الكعبة: فالنظر إليها عبادة، وعند رؤية الكعبة، من السنة ترديد الدعاء التالي: “اللهم زدها تعظيما وتشريفا وتكريمًا ومَهابةً يا رب العالمين”. وبالفعل إن لها مهابة، وتستريح النفس وتسعد عند النظر إليها. لكن، للأسف، بسبب التوسعات الجديدة، أصبحت إمكانية رؤية الكعبة من أماكن محدودة جدا

النظر إلى عبادة الناس: مشاهدة الحجاج والمعتمرين وهم صلون ويطوفون ويقرؤون القرآن ويذكرون الله ويتضرعون إلى الله بالدعاء، تدخل الفرحة والسرور على النفس وتدفعها للقيام بالمزيد من الأعمال الصالحات. وكنت في الكثير من الأوقات، داخل وخارج المسجد الحرام، أتأمل مشاهد الحجاج والمعتمرين وأرتاح وأسعد بذلك، أنظر إلى تنوع ألوانهم وأجناسهم وقومياتهم ولغاتهم وملابسهم التقليدية، بل وإلى اختلافاتهم في بعض الأمور الفرعية في الصلاة، وأذكر قوله تعالى وهو يوجه سبحانه الأمر إلى سيدنا إبراهيم عليه السلام: “وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ” (الحج: 27). 

ـــــــــــ

* أحمد الطلحي: إطار مغربي وخبير في البيئة والتنمية والعمارة الإسلامية

المصدر: العمق المغربي

شاركها.