يتوسط مدينة فاس كرئة حيوية تتنفس منها الأسواق المحيطة به، إنه السوق الذي كان في القرن الحادي عشر الميلادي يحمل مقام قبيلة قيس العدنانية المهاجرة من شبه الجزيرة العربية إلى المغرب، فبقيت هذه الرقعة تخلد ذكر بني قيس، مثلما خلدت عدد من الأحياء القديمة أسماء قبائل مهاجرة إلى فاس من الشرق العربي أو من شمال إفريقيا، مثل حي المصمودة نسبة لقبيلة المصامدة، الوربية، نسبة إلى قبائل أوربة، أو قبائل كرواوة، أو درب الهكار، نسبة لقبائل الهكار في جنوب الصحراء الكبرى. كما واصلت قبائل عربية طريقها إلى غرب المغرب وصحرائه الجنوبية، كبني قيس وبني سُليم وبني هلال، وهم في غرب البلاد معروفون كنار على علم.

لسوق رحبة القيس خصوصية تاريخية طافحة بمجريات وأحداث قلما نلاقيها مجتمعة في سوق من أسواق المدينة العتيقة؛ لقد جمع بين أعلام العلم والثقافة والتصوف والنضال الوطني والأدب الشعبي، إنه أشبه بتيار يفيض بالظواهر والوقائع التاريخية والفكرية والسياسة، ومركز من مراكز فاس التجارية الهامة.

سوق تصب فيه وتتفرع عنه منافذ بين درب وممر، تفضي هي الأخرى إلى أسواق ذات حركة تجارية وإقامات سكنية احتضنت دورها ورياضاتها شخصيات علمية وسياسية وثقافية وفنية؛ فمن جهته الشرقية تستهل نهجه الممتد المستقيم نسبيا مدرسة وضع حجر أساس بنائها سنة 1323م وتطلب تشييدها سنين، فلم تكن مدة العامين التي استغرقها بناءها عبثا، بل أنتجت إحدى الروائع الهندسية المعمارية المغربية التي أقامها المرينيون، فتبوأت مكانة متحف عمراني قائم بذاته لما تضمه من طراز باذخ طافح بالمنمقات والزخارف البديعة التي وشحت فضاءاتها، من رسومات على الزليج والنقش على الجبس أو الخشب، متمثلة في روعة خطوطها العربية الفنية الراقية وفي تبجيل الآيات القرآنية؛ لقد حبس عليها مؤسسها السلطان المريني أبو سعيد عثمان بن يعقوب (1276 ـ 1331) العديد من الأوقاف، وأشاد بها ابن البناء المراكشي على أنها تخصصت في دراسة الفقه والنحو، ولا يقطنها إلا الطلبة المتفوقون في هاتين المادتين؛ وحيث إنها تقابل مدخل سوق العطارين مباشرة أصبحت تسمى باسمه “مدرسة العطارين.”

على بعد أمتار معدودات من مدرسة العطارين، وعلى الحائط نفسه، يلاقينا أحد الجوامع القديمة في فاس، وهو “جامع اللبارين”، اسم درج على لسان العامة حتى اليوم. غير أن الاسم الذي عرف به قديما “جامع النبارين”، المشتق من فعل نبر، أي أدلى بصوته فيه، أعطاه بروزا وتوافقا، كما ورد في المعجم؛ وذلك لما كان قديما ينهض به من خدمات اجتماعية وإنسانية. فقد كان هذا الجامع مقر هيئة استشارية تتكون من ذوي الخبرة في المجالات التجارية والمهنية والمالية، كان الناس يقصدونها طلبا للاستشارة والنصح والتدبير، في كل ما يعرض لهم من قضايا ومشاكل اجتماعية، كخلافات الجيران حول توزيع المياه وإشكاليات البناء واستعمال الطرق والممرات وغير ذلك، أو النوازل العائلية من مصاهرات وخلافات أسرية أو ما يقبلون عليه من المشاريع التجارية أو النزاعات حول الشراكة في المعاملات التجارية أو المهنية؛ فكانوا يتلقون التوجيه والنصح من هذه الهيئة، باستثناء المسائل الفقهية أو التي تستوجب الحلول القضائية.

زنقة الأعلام

من الجهة الغربية يلتصق بجامع النبارين درب عرف ومازال حتى الآن يعرف باسم “زنيقة حجامة”، فعلى الرغم من قدم اسم هذا الدرب الذي سكنته عدة أعلام سياسية وعلمية، وتمت الإشارة إليه في عدد من المراجع، لم تحتفظ لنا لا المصادر التاريخية ولا الذاكرة الشعبية بأصل هذه التسمية؛ فقد كانت دوره سكنا لعدد من وجهاه وأثرياء المدينة، نظرا لقربه من جامع القرويين وقربه من ضريح مولاي إدريس، بل وحتى قبل اكتشاف هذا الأخير في عهد الدولة المرينية.

ومن الأعلام العلمية التي سكنت هذا الدرب تذكر التراجم التاريخية العلامة والفقيه الذي قيل فيه: “لولا عياض ما عرف المغرب”. القاضي أبو الفضل عياض بن موسى (1083 ـ 1149م) حين استضافته أثناء إقامته بفاس أسرة آل الغرديس التي عرفت بالعلم والفقه، ورد: “نزل عياض ضيفا على قاضي فاس في داره التي تقع في منتصف الدرب الصغير الأول الذي يوجد عن يسار الداخل للدرب الكبير المجاور لمسجد اللبارين بزنقة حجامة. وكانت للقاضي الغدريس مكتبة وجد فيها عياض بعض سلواه” (دعوة الحق العدد 5495).

ومن الذين سكنوا هذا الدرب أبو عبد الله محمد الثاني عشر، (1460ـ1527) آخر ملوك بني الأحمر في غرناطة، حين خرج منها سنة 1492 قاصدا منفاه بمدينة فاس، وقد اختلفت المصادر في زمان وفاته ومكان دفنه اختلافا كبيرا.

كذلك سكن هذا الدرب، أي “زنقة حجامة”، أبو عبد الله الغساني، الوزير الطبيب، وكان من كبار مثقفي زمانه، وقد أوكل إليه السلطان مولاي إسماعيل رئاسة بعثة تحمل رسالة إلى الملك الإسباني “كارلوس الثاني” (16611700) ليفك الأسرى المسلمين، فكتب كتابه الشهير “رحلة الوزير في افتكاك الأسير (1690 ـ1691)”. وقد نشر الكتاب في المغرب وفي المشرق العربي وفي مدريد بترجمة إسبانية. وترجم للوزير الغساني أكثر من واحد، منهم محمد القادري في “نشر المثاني”، ومحمد بن جعفر الكتاني في “سلوة الأنفاس”، كما ترجم له المستشرق الروسي أغناطيوس كراتشكوفسكي، في كتاب “تاريخ الأدب الجغرافي العربي”. وتوفي الغساني سنة 1707، أما تاريخ ميلاده فلم أعثر عليه. وقد أطلق اسم الغساني على مستشفى ظهر المهراس بفاس.

في مرحلة مقاومة الاستعمار الفرنسي وتأطير وتعبئة الوعي الطلابي والشعبي عامة كانت دار أحد زعماء الحركة الوطنية (شهيد تحناوت) عبد العزيز بن دريس (1907 ـ 1959)، الذي تم اغتياله في قرية تحناوت بمراكش، بمثابة مركز نضالي يزوره فيها طلبة القرويين على دفعات، دفعة كل يوم، حتى لا يثيروا انتباه المستعمر، وفيها كان يتم تأطيرهم للمقاومة الوطنية. كما كانت في هذا الدرب مدرسة حرة (مدرسة النجاح)، وكانت هي الأخرى من المراكز التي تربي النشء لمقاومة الاستعمار، كعدد من المدارس الوطنية الحرة التي كانت تقوم بالدور نفسه.

رحبة القيس والحداثة

فلربما عرف هذا السوق، الذي تخصص في بيع الأثواب من النوع المتوسط بكل أصنافها وأشكالها، عكس القيسارية ذات الأثواب الفاخرة، من المعالم التاريخية أكثر من غير من الأسواق، فقبالة “زنقة حجامة” مع شيء من الانحراف جهة الشمال هناك ممر ضيق يسمى “ظهرPosta البريد”، يربط سوق رحبة قيس بسوق الديوان والأسواق التجارية الأخرى، مثل سوق الحائك وسوق السلهام والعطارين. كما يحتضن سوق رحبة القيس ثاني بريد أسس في فاس بعد البريد الدولي بسوق رأس الشراطين، و”أول بريد وطني” حسب رواية المؤرخ الدكتور محمد التازي سعود، بعد أن كان مجمعا لبيع الزيت والسمن وكل مواد الطبخ الدهنية (قاعة السمن)؛ فمن خلال هندسته الحديثة جدا، التي لا تعكس الهندسة المغربية الأصيلة إطلاقا، يبدو أنه بني في نهاية الخمسينات أو بداية الستينات من القرن الماضي.

أيضا تقابل مكتب البريد هذا مع قليل من الانحراف بناية عرفت عدة تقلبات، منها افتتاح فرع للبنك الإنجليزي سنة1931، ثم مقر كتلة العمل الوطني، التي أسسها سنة 1934 كل من علال الفاسي، بالحسن الوزاني، وأحمد بلافريج . وفي مرحلة الاستقلال تراوحت البناية التي هي من ملك آل بوعياد بين بنك ودار لبيع الأثواب.

المنفذ الرابع في سوق رحبة القيس هو “درب الطويل”. ويشتمل هذا الدرب، الذي هو فعلا طويل ويصل وسط السوق بجنوب المدينة، ويمتد إلى حي دار الدباغة شوارة، على عدد محدود من دور السلع، التي تحولت لاحقا إلى دور لتجارة السياحة، غير أن سواده الأعظم دور للسكن، سكنها عدد من العلماء ووجهاء فاس، من بينهم قطب الآلة الأندلسية في فاس محمد بن عبد السلام البريهي (18501945) . كما يوجد في نهاية هذا الدرب ضريح أحد أشهر فقهاء المالكية المتأخرين في الغرب الإسلامي: العلامة الفقيه محمد ميارة الفاسي (1590 ـ 1661 م)، المعروف بشرحيه الكبير والصغير لمنظومة شيخه عبد الواحد ابن عاشر(1582 ـ 1631 م) “المرشد المعين على الضروري من علوم الدين”؛ كما سكن هذا الأخير أيضا درب الطويل.

تستهل هذا الدرب (درب الطويل) من جهة سوق رحبة القيس دار عتيقة حولها أحد أعمدة الحركة الوطنية وأحد الموقعين على وثيقة المطالبة بالاستقلال، وهو الهاشمي الفيلالي (1912 ـ 2008)، إلى مدرسة وطنية حرة. وكانت هذه المدرسة ككل المدارس الوطنية يتم فيها تلقين التلاميذ مبادئ التشبث بتعليم القرآن واللغة العربية والتاريخ والدراسات الإسلامية وجغرافية المغرب، كممارسة فكرية للحفاظ على الهوية المغربية التي كان الاستعمار الفرنسي يعمل جاهدا على طمسها وإتلافها، حتى إنه “سنة 1937” يقول الدكتور محمد التازي سعود: “أصدر الجنرالCharles Hippolyte Noguès(1876 ـ1971)، الذي استمر مقيما عاما للمغرب من سنة 1936 إلى 1943، وكان يسمي هذه المدارس ‘المسائد المجددة’lesécolerénovée وليس مدارس حرة أو تعليم خاص، أمرا يمنع تدريس الحساب وجغرافية وتاريخ المغرب. ومع كل ذلك المنع تحدى أدباء مغاربة مثل حسن الرامي ومحمد التازي الاستعمار الفرنسي فألفوا كتابا في جغرافية المغرب. وحيث إن الكتاب كان تداوله ممنوعا كان الأساتذة الوطنيون يدرسون هذه المادة للتلاميذ في البيوت الخاصة خفية”.

ويقابل درب الطويل مباشرة المنفذ الخامس “زنقة رياض حجا”. لا يعرف إلى حد الآن سبب تسمية هذا الممر بهذا الاسم؛ وحيث إنه ممر التجاري بامتياز فلربما تعود التسمية إلى أحد التجار الأذكياء. وكانت هذه الزنقة منزل الدبلوماسيات الأجنبية في فترة ما قبل الحماية. وقد كتب روجي لوطرنو في كتابه “فاس ما قبل الحماية”:

“وقد وصل النائب الأول للقنصل الفرنسي م. دو مارسلي سنة 1894 ثم استقرت دار ريشتر الألمانية بدورها سنة 1895، مع عاملين ألمانيين في رقم 20 من زنقة رياض جحا وسط الحي التجاري.”

الأدب والتصوف

على بعد عشرات الأمتار من درب الطويل ورياض جحا فقط تلاقينا دار عريقة بسيطة البناء على جهة درب الطويل نفسه كانت هي الأخرى إحدى المدارس الوطنية الحرة التي أنشأها الشهيد عبد العزيز بن دريس، كما كانت في الوقت نفسه تتميز بخاصية احتضان لقاءات كتلة العمل الوطني حين يجتمع قادتها مع تجار السوق للمشاورة أو لطلب المساهمة في تكوين الكفاح الوطني. لقد قامت هذه المدارس بواجبات فكرية وأدبية وتعليمية رغم المضايقات التي كان يمارسها عليها الاستعمار الفرنسي. وفي هذه الفترة اهتم كل من علال الفاسي وعبد العزيز بن دريس بمقدمة بن خلدون، فطبعوا جزءا منها مع تعليقات وحواش. كما نشر الهاشمي الفيلالي كتاب بن ابي زرع “الأنيس المطرب في تاريخ ملوك المغرب ومدينة فاس”.

وكان الهدف من ذلك تدريس مراحل تطور الفكر المغربي عبر التاريخ وتذكير الناشئة بتاريخها المضيء. ففي هذه المرحلة الحرجة صدر سنة 1938 كتاب الأديب والعلامة عبد الله كنون “النبوغ المغربي” في مدينة تطوان في جزأين، فأصدرت الإقامة العامة قرارا بمنع دخوله إلى المنطقة الخاضعة للحكم الفرنسي. غير أن الكتاب لقي شهرة لا في المغرب وحده بل حتى في المشرق، وكتب مقدمته الكاتب والأديب والمفكر اللبناني شكيب أرسلان (1869 ـ 1946).

ورغم التجارة والفكر والنضال التي طبعت قاعدة هذا السوق لم يغادره الحضور الأدبي الشعبي؛ فغير بعيد من مدرسة عبد العزيز بن دريس الوطنية كان على الجهة المقابلة دكان لسمسار اسمه عبد الحق بن جلون، وكان إلى مرحلة الثمانينات من القرن الماضي منتدى لرجال فن الملحون، وخاصة يوم الجمعة بعد الظهر، حيث يجتمع عنده شيوخ الملحون من منشدين كعبد الكريم كنون والحاج علال بن دريس، أو الشعراء كعبد المالك اليوبي والحاج محمد بنونة وغيرهم. فقد كانت لصاحب الدكان عبد الحق بن جلون، زيادة على أنه شاعر فحل، معرفة واسعة بفن الملحون نظما وتاريخا وقياسات وأنواعا، فكان إذا تحدث سكت كل من حظر حتى الشيوخ الكبار المشهود لهم بالباع الطويل في محافل أدب الملحون المغربي؛ لقد كان موسوعة حية متحركة في بساطتها وتواضعها.

ثم ينتهي سوق رحبة القيس من جهته الشرقية بعد احتضانه أنواعا من الفكر والسياسة والتجارة والعلم والفكر والفن بالتصوف الذي تمثله الزاوية التيجانية، كمحج للزوار الذين لا ينقطعون عنها على طول السنة من غرب إفريقيا، وخاصة من دولة السنغال. هذه الزاوية التي تمثل حضور التصوف المغربي القوي في غرب إفريقيا وتعزز العلاقات المغربية بتلك الدول التي للزاوية فيها أتباع يعدون بالملايين.

المصدر: هسبريس

شاركها.