في زمن يتسارع فيه إيقاع الحياة، وتضيق فيه فسحات التعبير الفني، يبدو لافتًا أن تنجح مدينة تارودانت، في تخوم سوس، في أن ترسخ لنفسها موقعًا متفردًا على خارطة المسرح الوطني، من خلال الدورة الثالثة لتظاهرة “ربيع المسرح”، التي تحوّلت، بفضل رؤيتها المتبصرة، إلى ملتقى سنوي يتجاوز منطق العروض إلى فلسفة التلاقي والحوار والإحياء.

ما ميز هذه الدورة ، وليس ذلك غريبًا عن مدينة عرفت تاريخيًا بحمولتها الحضارية وثقلها الرمزي، هو حرصها على إرساء فسيفساء فنية مغربية جامعة، تذوب فيها الهويات الجهوية واللغوية والمذهبية في هوية مسرحية واحدة، تنبض بالحياة وتعيد الاعتبار لفعل المسرح كرافعة تربوية وثقافية وتنموية.

لم يكن الشعار المعلن “تارودانت… بوابة للإبداع ومنارة للثقافات” مجرد عنوانٍ استهلاكي، بل بدا طيلة أيام التظاهرة كفكرة متجسدة، يمكن لمسها في تنوع العروض وثراء الورشات وعمق الندوات وروح التكريم، بل وحتى في تفاصيل التنظيم التي احترمت إيقاع المدينة ومزاج جمهورها.

تلاقح الأجيال: من رواد المسرح إلى الحلم الجديد

كان حضور كلاسيكيات المسرح المغربي، من خلال إعادة تقديم مسرحية “الحراز” بصيغة شابة، إشارة ذكية إلى قدرة المهرجان على تصالح الذاكرة مع الحاضر. إذ وجدنا طلبة المعهد العالي للفن المسرحي يتناولون إرثًا بحجم الحراز الذي صال وجال فوق الخشبات المغربية منذ ستينيات القرن الماضي بروح معاصرة وبأدوات تعبير جديدة، دون أن يفقد النص أصالته أو نَفَسه المغربي الصميم.

في مقابل ذلك، كان جميلًا أن يُحتفى بأسماء من جيل الرواد، كما حدث في اللقاء الاستثنائي مع فرقة “مسرح الناس” واستحضار مسار الفنان الطيب الصديقي، ذلك المعلم الذي صنع للخشبة المغربية اسمًا دوليًا. في هذا اللقاء، لم يكن بكر الصديقي ومصطفى خليلي ومالك أخميس مجرد ضيوف، بل وسطاء ذاكرة ينقلون الحكاية والخبرة إلى الجيل الجديد.

فسيفساء الإبداع المغربي: تعدد لغوي وثقافي

في عروض هذا العام، بدت الأمازيغية والحسانية والدارجة في حوار متناغم. لم يكن الأمر مجرد إدراج صوري لعروض أمازيغية أو حسانية من باب رفع العتب، بل قُدّمت نصوص تحمل رؤية مسرحية متكاملة، كـمسرحية “تكات ن واكثير” و*”جدران الرمل”*. وهو ما يؤشر على وعي المهرجان بضرورة التعدد اللغوي كرافد إغناء للثقافة الوطنية، وكسلاح ضد النمطية المركزية التي هيمنت طويلًا على المشهد المسرحي المغربي.

المسرح والمدرسة: الرهان على الطفل والمتعلم

أحد أذكى رهانات المهرجان، ما حققه عبر مسابقة المسرح المدرسي، التي تحولت إلى مختبر مصغر لاكتشاف المواهب وخلق علاقة حقيقية بين المتعلم والمسرح. عروض الأطفال لم تكن مجاملات موسمية، بل نصوص ذات موضوعات جادة وأداءً ملفتًا، وقراءات إخراجية تعكس أن ثمة جيلًا صاعدًا قادرًا على المساهمة مستقبلاً في مشهد مسرحي مغربي واعد.

من الفكاهة إلى الدمى: ورشات بتكوين تقني وفني رصين

في مقابل العروض والندوات، وفّر المهرجان فضاءً حيويًا لورشات تقنية في مجالات دقيقة (تشخيص، ارتجال، دمى، ماكياج مسرحي…) أشرف عليها فنانون مجربون، فكان المهرجان بذلك حاضنةً لتكوين موازٍ ونقل خبرات حقيقية في جو عملي مفتوح.

الثقافة والاعتراف: تكريم من يستحق

ما يُحسب لهذه التظاهرة، وأكاد أجزم أنه أحد أسرار نجاحها، هو ثقافة الاعتراف، التي جسدتها في تكريم اسمين بحجم سعاد صابر والحسين بنياز، في رسالة ضمنية للأجيال القادمة: أن المسرح المغربي لا ينسى رواده، وأن الفعل المسرحي في المغرب يبنى بالتراكم والتقدير المتبادل.

خلاصة:

يمكن القول إن ربيع المسرح بتارودانت لم يعد مجرد مهرجان، بل تحول إلى مختبر سنوي لإعادة تشكيل صورة المسرح المغربي، بتلاقح أجياله وتعدد لغاته وتنوع أساليبه. كما رسخ المهرجان فكرة أن الثقافة لا تصنعها العروض وحدها، بل يصنعها الحوار، والذاكرة، والتكوين، والتقدير، والإيمان بأن الفن أداة تغيير حضارية حقيقية.

وهو ما عبّر عنه مدير المهرجان محمد حمزة حين قال:

“نجاح ربيع المسرح هو نجاح لتارودانت بكل مكوناتها، ورسالة حية أن الثقافة لا تزال قادرة على أن تكون جسرًا بين الماضي والمستقبل”.

ربما لهذا السبب بالذات، لن نبالغ إن قلنا إن تارودانت، هذه المدينة العريقة، استعادت عبر ربيعها المسرحي جزءًا من مجدها الثقافي القديم، وبدأت ترسم لنفسها ملامح مستقبل مسرحي واعد، في فسيفساء الإبداع المغربي المعاصر.

 

 

 

المصدر: العمق المغربي

شاركها.