كتبتُ قبل سنة مقالًا بعنوان “محنة خروف في خريف قدرة شرائية”. تكلمتُ فيه عن سوق المضاربين المدعومين سياسيًا ومن طرف بعض محترفي خطاب ديني رجعي وماضوي، فوجدت، بعد سنة، أن الحال هو الحال. فرغم أزمة إعادة تكوين القطيع، ومجهودات الدولة ودافعي الضرائب من أجل مواجهة نار أسعار اللحوم والخرفان، نعيش اليوم رجوع “حليمة إلى عادتها القديمة”. ويجب أن نسجل وندعم عمل السلطات المحلية من أجل مصادرة كل الخرفان التي تم دعمها من أجل أسعار توافق القدرة الشرائية للمواطنين عمومًا، ولذوي الدخل المحدود جدًا على الخصوص. ولهذا، وجب اعتبار كل مخالفة للتوجيه الخاص بالامتناع عن أداء شعيرة الأضحية هذه السنة “ذبيحة سرية” يستفيد منها سماسرة القدرة الشرائية للمواطنين، والمستفيدون من أموال دافعي الضرائب.
كثرت تناقضات مجتمعنا ومسؤولينا وبعض مواطنينا. لا يخفى على أحد أن من بيننا فئات من المغاربة تعيش في وضعية فقر وهشاشة، وقد تحسنت وضعيتهم نسبيًا حسب آخر دراسة للمندوبية السامية للتخطيط حول خريطة الفقر. تراجعت نسبة هذا الأخير حسب قراءة جديدة لنتائج الإحصاء العام لسنة 2024. تم استخلاص النتائج حسب ثلاث ملاحظات أو، لنفترض، منهجية جديدة خلصت إلى ما يلي: “تراجع الفقر متعدد الأبعاد، خاصة في العالم القروي، واستمرار وجود فوارق كبيرة، خصوصًا في المجال الجهوي، والإقليمي والجماعي، وكون سياسات الاستهداف كان لها أثر إيجابي”. وهكذا، تم تحديث خارطة الفقر لكي لا تظل حبيسة “نفقات الأسر”، وتأخذ بعين الاعتبار “الحرمان” من الولوج إلى التعليم والصحة والسكن والخدمات الأساسية.
وهكذا استنتجت المندوبية السامية للتخطيط أن نسبة السكان في وضعية فقر قد تراجعت ما بين 2014 و2024 من 11.9% إلى 6.8%. ويجب التذكير أن هذه القراءة لا تخفي الفروق المجالية واستمرار حجم الهشاشة. وتظل هذه المنهجية الجديدة مجرد اجتهاد، وفرضيات تظهر جزءًا من واقع الفقر. أما التفاصيل، فتحتاج إلى دراسات ميدانية تتجاوز منطق الإحصاء العام للسكان والسكنى.
وسيظل السؤال الكبير والمحير هو قياس نسب الفقر مع مظاهر الإقبال على الإنفاق المناسباتي من طرف كل الطبقات الاجتماعية. ويأتي هذا السؤال بمناسبة النقاش المجتمعي الذي يدور حاليًا حول أضحية العيد وعلاقتها بقضية منح الدولة السخية لفئة قليلة جدًا من المستفيدين من دعم الاستيراد. تم تداول مبلغ 13 مليار درهم، وغابت المعطيات الدقيقة عن المستفيدين. وأدى الأمر إلى توتر العلاقات داخل الأغلبية الحكومية وتكليف وزارة الداخلية بعمليات الدعم بعيدًا عن الصراعات والتجاذبات السياسية الحكومية.
وكانت لحظة الإعلان الملكي عن “رفع الحرج عن المواطنين” عبر عدم القيام بشعيرة نحر أضحية العيد نظرًا لوضعية القطيع والارتفاع المهول للأسعار، متوافقة مع المنطق، ومع روح المسؤولية الكبرى. كان لهذا الفعل الملكي أثر مباشر على أسعار اللحوم في كثير من المدن، وتراجعت أسعار الخرفان لمدة لم تدم طويلًا. وعاد سماسرة الانتفاع، من كل “همزة”، إلى الميدان بقوة التحايل على المواطنين.
وأصبحت شبكات التواصل الاجتماعي، رغم عيوبها، واستغلالها من طرف أشباه الصحافيين، ميدانًا يدعم تدخل السلطات المحلية لمواجهة سماسرة العيد، “شناقة الفقراء”. ويوجد من بين هؤلاء سماسرة الدين الذين يرفعون شعيرة الأضحية، بجهل، إلى مرتبة الفرائض. وهكذا، رجعت منظومة تجار لا يراعون مصلحة البلاد ولا العباد. يظل همهم، من أكبرهم إلى أصغرهم في سوق السيطرة على الانتخابات، ومراكمة أموال السمسرة، هو استغلال كل الفقراء مهما كانت فئاتهم، وهشاشتهم وتقييم وضعيتهم من طرف المندوبية السامية للتخطيط.
تعودنا على التطورات التي تعرفها فئة الشناقة. لم يعد الشناق هو ذلك الذي يتقن فن الوساطة السلبية بين “الكساب” والمشتري. الأمر أصبح يثير اهتمام فئة من أبناء الأغنياء، وحتى خريجي بعض المدارس العليا. تعرفوا، بحكم تكوينهم وشبكاتهم الأسرية، على خارطة استغلال مربي الماشية وعلاقتهم بالسوق. تعرفوا على أنواع الخرفان وطوروا خطابًا تسويقيًا عصريًا لجذب “الكليان”. ويظل مربي الماشية لعبة بين أيديهم.
وظهرت خلال هذا الشهر تجارة “الدوارة”. يتعلق الأمر بأحشاء الخروف وإقبال المغاربة عليها. عرفت أسعار “الدوارة” ارتفاعًا وصل إلى 700 درهم. ولكن بعض المواطنين أعرضوا عن شرائها، وأقبل عليها آخرون. ولا يمكن أن ننسى مواجهة السلطات الترابية للشناقة ومن يخالفون التوجيهات الرسمية بهدف الانقضاض على جيوب المواطنين.
وسيظل السؤال المحرِق هو ذلك الذي يتعلق بالغباء الذي يستحوذ على البعض للتضحية بكل ما يملك من أجل ذبح خروف، والتضحية بالحاجيات الضرورية لأسرته. تقوم كثير من الأسر بالوقوف صفًا متراصًا من أجل ألا يظل أحد أفرادها دون خروف العيد. وتقف نفس هذه الأسرة بسلبية أمام عدم تسجيل الأبناء بالمدرسة، وتتقن التباكي على عدم القدرة على اقتناء الأدوات المدرسية. إنه تناقض منبعه تخلف ينفي على الفرد الانخراط في مسلسل بناء أسرة بعقل يصنف الأولويات، وليس بفكر يكسر سبل الانخراط في بكاء على الأخطاء بعد فوات الأوان.
نعم لدينا فقراء، ولكن لدينا متسولون أغنياء نتعامل معهم بغباء، ونشجعهم على الاستمرار في التسول المربح. ونغطي على أفعالنا المتخلفة بانتظار محو السيئات بالصدقة لفائدة من لا يستحقها. ونفس الأسلوب نستبطئه في تعاملنا مع العمرة والحج. أذهلني قول طفل أراد أن يرافق أسرته إلى مكة ويأخذ عطلة “لأنه يريد، حسب قوله البريء، أن يغسل ذنوبه”.
هذا هو حال مجتمع تخنقه آليات تفكير تغييب العقل. السارق والمغتصب والنصاب وخائن الأمانة، لن تنفعهم صدقة ولا عمرة ولا حج. عليهم رد الحقوق إلى أصحابها، وأداء ما عليهم من دين، وإرجاع الحق إلى أهله قبل دخول المسجد أو ركوب الطائرة في اتجاه المملكة العربية السعودية.
وكيف سيستقيم حال “الشناق” الذي يستغل الفقراء ثم يستمر في السفر المتكرر إلى مكة “ليغتسل من ذنوبه”. وستظل المدرسة والثقافة ومحاربة الجهل وعدم تقديس فعل البشر أضمن السبل للارتباط بالأخلاق الفاضلة، والتسلح بالوعي البنيوي ضد ظلاميي السوق والتعليم والتنمية مهما أطالوا شعيرات اللحية، وتمكنوا من حفظ قديم الكلام الذي لا ينفع، وأمعنوا في نهج سبل السيطرة على البسطاء.
الشناق له ارتباطات مع منظومة تضم كل منتفع من استمرار سيطرتهم على مستنقع الجهل والتخدير.
المصدر: العمق المغربي