سلطت دراسة حديثة، منشورة ضمن العدد الثاني والسبعين من مجلة “كان” التاريخية، الضوء على المسار المعرفي للعالم والفقيه المغربي محمد المختار السوسي، المولود في منطقة “إلغ” جنوب المملكة، مبرزة أن خروجه من الفضاء الأصلي الذي انتمى إليه وتلقى فيه تكوينه مثّل “لحظة مهمة؛ لأنها حملت معها خصوصيات طريفة داخل مساره الفردي، فبالإضافة إلى أنها مثلت فرصة للابتعاد عن فضاء البادية المنغلق، فقد ساهمت هذه الرحلات في تعزيز تكوينه”.
وسجلت الدراسة، التي أنجزتها لمياء عبيدي، باحثة وأستاذة بجامعة “سوسة” التونسية، أن “مدينة فاس لعبت دورا مهما داخل مساره الفردي، فلم تكن فضاء تلقى فيه تكوينه فحسب، بل تغيرت مفاهيمه عن الحياة فيها”، مشيرة إلى أن “عودة محمد المختار السوسي إلى البادية مرة أخرى، ولكن هذه المرة من زوايا مغايرة تماما، حيث تم نفيه في مرحلة أولى إلى باديته، وذلك في علاقة بدوره في الحركة الوطنية”.
وذكرت أن “المختار السوسي باشر رحلاته العلمية والاستكشافية في رحاب سوس، تجميعا للتراث السوسي المبعثر، وتوثيقا لمجريات الماضي، وتنظيما لما تبعثر من أفكار وأوراق وتقاييد وكنانيش، وتسجيل المذكرات والمطارحات، وتوصيفا للمشاهدات والمعاينات”، مضيفة أنه “نظم، بعد خمس سنوات من النفي، أربع رحلات علمية؛ ضمنها كتابه خلال جزولة، حيث عمل على تتبع المخطوطات والاعتناء بتاريخ الوقائع والتعريف بالشخصيات وتقييد المذكرات وجرد محتويات المدارس العتيقة والخزائن”.
وتابعت الدراسة ذاتها بأن “الاشتغال على الشهادات الشفوية كان من أبرز الآليات المعرفية التي اعتمدها محمد المختار السوسي لصياغة جملة الأفكار وتركيب مسار معرفي متشعب، إذ عمد إلى الاستعانة بالذاكرة الشفوية بشكل مكثف؛ فقد مثلت من بين أبرز المصادر التي اعتمدها داخل مدونته المعرفية، فنحن أمام تثبيت للذاكرة الشفوية وتحويلها إلى ذاكرة مكتوبة قصد المحافظة عليها من الاندثار من جهة ومحاولة ترك أثر لهذه المجالات التي تطغى عليها الثقافة الشفوية”.
وأضافت أنه “احتفى داخل مدونته المصدرية بنموذج العالم والفقيه بشكل لافت للنظر، وقدمه كنموذج مرجعي للهوية الوطنية المغربية ضمن سياقات متحولة بدأت فيها هذه النماذج المرجعية تفقد أي تأثير.
كما احتفى محمد المختار السوسي بالمسارات الفردية بشكل لافت، ورغم تشعب المدونة المصدرية الخاصة به اختار الاحتفاء بنموذج الفقيه والعالم من خلال مصنفه ‘المعسول’، في الوقت الذي خصص فيه مصنفات أخرى لتقديم هذه النماذج المرجعية”.
وأكدت الدراسة أن “مساره الفردي التصق بصورة العالم أكثر من السياسي، وهي صورة سعى هو شخصيا إلى تكريسها”، مبرزة أن “المختار السوسي شاهد تدهور مدارس العلم القديم بسوس، فكان هدفه الدعوة إلى إنقاذ هذا العلم قبل النظر في محتواه”.
وأبرزت كاتبة الدراسة أنه “لا يمكن فصل المسار الفردي والمسار المعرفي لمحمد المختار السوسي عن الخصوصيات التي صاحبت سياق تصفية الاستعمار بالمغرب ولحظة حصوله على الاستقلال، إذ اقترنت هذه السياقات بحبك هوية رسمية ساهمت أجهزة الدولة في تجسيدها على أرض الواقع عبر آليات مختلفة ووفق رهانات متعددة”.
وأشارت إلى “مشاركته في الجهاز الإداري الذي مسك بالسلطة لحظة الاستقلال، فقد عيّن وزيرا للأوقاف في حكومة الاستقلال، ثم وزيرا للتاج، وهو ما يأتي في إطار السياسة التي اتبعها السلطان المغربي لحظة الاستقلال والتي تركزت على التعويل على النخب البربرية”، لافتة أيضا إلى حضوره داخل الفضاء العام إثر الاستقلال من خلال الدروس الدينية التي ألقاها في الإذاعة المغربية.
وخلصت إلى أن “المختار السوسي نجح في التعبير عن نفسه من خلال ما نقله عن سوس وإلغ، دائرة انتمائه الأولى، فاحتفى بالتفاصيل التي تعبر عن خصوصية هذا المجال، والذي يجعل منه جزءا من الهوية الوطنية المغربية وضامنا لوحدتها. ولذلك، اتخذ من نموذج العالم والفقيه مطية لتحقيق هذه الرهانات”.
المصدر: هسبريس
