شكل إعلان المملكة المتحدة حين إعلانها تأييد مخطط الحكم الذاتي حدثًا بالغ الأهمية على المستوى الإقليمي والدولي، حيث اعتبرته بمثابة الأساس الأكثر مصداقية وواقعية واستدامة وبراغماتية لتسوية دائمة للنزاع. كما أعلنت أنها ستواصل العمل على المستوى الثنائي، خاصة في المجال الاقتصادي، وكذلك على المستويين الإقليمي والدولي لدعم تسوية هذا النزاع المستمر منذ عقود.
في هذا الحوار، يطرح محمد بنطلحة الدكالي، أستاذ علم السياسة والسياسات العامة، مدير المركز الوطني للدراسات والأبحاث حول الصحراء، خبير مستشار لدى البنك الدولي، قراءته السياسية لسياقات الحدث، وتقييمه للدبلوماسية المغربية، وردة فعل الجارة الجزائر من القرار البريطاني.
نص الحوار:
ما هي قراءتك لهذا الحدث الدولي الهام؟
حدث كان متوقعًا منذ شهور، سيما بعد تصريح وزير الخارجية البريطاني في أبريل المنصرم في البرلمان البريطاني، حين أكد وجود مشاورات معمقة مع المملكة المغربية بشأن قضية الصحراء، جوابًا على سؤال من النائب المحافظ أندرو ميتشل، وزير الدولة السابق في الخارجية. كما أبدى وزير التجارة البريطاني، دوغلاس ألكسندر، في الفترة ذاتها، انفتاحًا بخصوص تسهيل الاستثمارات البريطانية في الأقاليم الجنوبية، في تعبير صريح عن تغيير جذري في المقاربة البريطانية تجاه هذا الملف.
وانسجامًا مع التحولات الجيوسياسية والدبلوماسية المتسارعة، ومع توجهات أوروبية حديثة، جاء هذا التحول خلال زيارة وزير الخارجية البريطاني ديفيد لامي إلى الرباط.
لقد جاء هذا الاعتراف ليؤكد بوضوح أن العالم بدأ يصحح مواقفه، علمًا أن بريطانيا، العضو الدائم في مجلس الأمن والقوة الاقتصادية والسياسية العالمية، لم تتخذ هذا القرار صدفة، بل جاء بناءً على تقييم استراتيجي لمصالحها، واستنادًا إلى قناعة راسخة بعدالة الموقف المغربي ومصداقية الحكم الذاتي، باعتبارهما حلًّا عمليًا وواقعيًا لهذا النزاع المفتعل.
أكدت أن هذا القرار جاء بناءً على دراسات استراتيجية. كيف تفسر ذلك؟
عملية صنع القرار السياسي الخارجي تخضع لسلسلة من الإجراءات والتفاعلات بين الأنساق السياسية، وهي تتضمن تحديد الأهداف والمصالح القومية، واتخاذ القرارات اللازمة لوضعها موضع التطبيق من خلال أدوات تنفيذ السياسة الخارجية.
إن عملية صنع القرار تستشرف المستقبل، وهي تهدف إلى مساعدة صانعي القرار على اتخاذ قرارات وسياسات رشيدة. نتحدث هنا عن الاستشراف الاستراتيجي، الذي يمثل استباقًا يستعد للفعل Preactive، ويستحدث الفعل Proactive، وينير العمل الحاضر بناءً على ضوء المستقبلات الممكنة وفق الخيارات الاستراتيجية.
وكيف تقيم في هذا الصدد أداء الدبلوماسية المغربية؟
الدبلوماسية المغربية تنهج سياسة متوازنة، مبنية على أسس الدفاع عن المصالح والقضايا الوطنية، عبر الاستناد إلى منهجي التعاون والتضامن في علاقاتها الدولية.
ومن المعلوم أن الدبلوماسية المغربية ترتكز على ثلاثة مبادئ أساسية في عملها، تتراوح بين سيادة القرار المغربي مع مختلف المتغيرات والتطورات الدولية، والسعي الدائم إلى عدم الارتهان للتوجه الأحادي، عبر تنويع شركاء المملكة على المستوى الدولي، بالإضافة إلى صياغة السلوك الخارجي بواقعية وبراغماتية، سعيًا إلى الحصول على مكانة إقليمية ودولية.
هذا التوجه الدبلوماسي أصبح أكثر مبادرة ودينامية في مواجهة مختلف التحديات، وفق الاستراتيجية السديدة التي رسمها الملك محمد السادس. وقد أدت هذه الدينامية الدبلوماسية المغربية إلى انتصار الموقف المغربي بالنسبة للقضية الوطنية المقدسة، وهو موقف مبني على حل سياسي واقعي متوافق عليه في إطار الحكم الذاتي، حيث كسب المغرب مرارًا تأكيدًا من مجلس الأمن الدولي أن ملف الصحراء المغربية ينبغي أن يظل تحت مظلة الأمم المتحدة بشكل حصري.
في المقابل، يتمسك المغرب بالحكمة والتبصر، ويلتزم بصدق التعاون مع الأمين العام للأمم المتحدة، في إطار احترام قرارات مجلس الأمن الدولي، من أجل التوصل إلى حل نهائي على أساس مبادرة الحكم الذاتي، غير متأثر بالاستفزازات العقيمة للخصوم، الذين يراكمون أخطاء تمس جوهر الشرعية الدولية، ويقومون بمناورات يائسة لا تعدو أن تكون مجرد هروب إلى الأمام.
ماذا عن بيان الخارجية الجزائرية بعد التأييد البريطاني لمخطط الحكم الذاتي؟
إن مواقف مسؤولي الجزائر تجاه المغرب لا يمكن تحليلها من داخل نسق علم السياسة، بل من منظور علم النفس المرضي. إن هذا البيان ينم عن نرجسية مفرطة بالذات، وحقد مرضي تجاه المملكة المغربية، ولا يعبر عن بُعد نظر لدلالات مثل هذا الكلام والنتائج التي يمكن أن تترتب عليه بالنسبة لشعوب المنطقة، بل يتمادى في زيادة التوتر والتصعيد، ويظهر نوايا حكام الجزائر لإطالة زمن النزاع خدمة لأجندة دولية معروفة.
إن مستقبل الشعوب متعدد وغير محدد، وهو مفتوح على تنوع كبير من المستقبلات الممكنة. وبالتالي، لا يمكننا الركون إلى حتمية “اللاعودة” في التخطيط لمستقبل الشعوب، مع العلم أن مثل هذه الأخطاء في التحليل والتوقع يجب أن نتعامل معها بحذر، رغم كونها توقعات عشوائية، لأنها تعكس سلوكيات حكام الجزائر التي تغرف من يقينيات وهمية، مستحضرين خلفيات هذا التصريح.
ومع ذلك، ستبقى يد المغرب ممدودة للسلام، وهو في كامل استعداده وجاهزيته لكل الاحتمالات. لقد سُئل يومًا ألبرت آينشتاين: لماذا يبدي اهتمامًا بالمستقبل؟ فقال: “ببساطة لأننا ذاهبون إلى هناك”.
في ظل الإخفاقات الدبلوماسية الجزائرية، أصبح يتردد كثيرًا خطاب المؤامرة. هل من تفسير؟
قدر الشعب الجزائري الشقيق أن يعيش تحت وطأة التوظيف السياسوي لنظرية المؤامرة، حيث أصبحت تلاحقهم في كل مكان. لا تخلو منها وسائل الإعلام، وفي نقاشات وخطابات الساسة، وحتى في أحاديث البسطاء من المواطنين. فكل الأعطاب السياسية والاقتصادية والاجتماعية يجري تطويعها لكي تتسق مع التفسير التآمري، دون الاستناد إلى أدلة ملموسة، بل إنه في بعض الأحيان يتم التناقض تمامًا مع المنطق والعقل السليم، وذلك بغية التهرب من المسؤولية نتيجة ممارسات خاطئة من جانب الحكام الذين عاثوا في الأرض فسادًا. هكذا يُلقون بالتهمة على أطراف خارجية بدعوى التآمر، حيث إن الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي تضرب البلاد “مؤامرة خارجية”، وغلاء السلع وندرة المواد الاستهلاكية مرده إلى “مؤامرة خارجية”، والطوابير “تحريض أجنبي يُحاك ضد القوة الضاربة”.
أما الحراك الشعبي، فيصوره إعلامهم على أنه “مؤامرة تم تدبيرها”، وللتغطية على الفشل في إدارة أزمة الحرائق، تم تحميل أطراف أخرى خارجية مسؤولية اندلاع الحرائق واستمرارها، رغم أن “القوة الضاربة” لا تتوفر ولو على طائرة يتيمة لإخماد الحرائق. ونجد أن عدم صلاحية جودة عشب الملاعب الكروية، الذي أصبح موضوع سخرية في الإعلام العالمي، أرجعوه هو الآخر لنظرية المؤامرة، بينما البلاد تشتعل وتسير بخطى مسرعة نحو الهاوية.
إن نظرية المؤامرة هي عبارة عن مسكنات ومهدئات ذات مفعول لحظي لجسد أتعبه التخدير والوخز، وإذا لم يُتدارك الأمر، فإنه على أعتاب الانهيار التام لا محالة. لقد سبق للكاتب الجزائري نجيب بلحيمر أن تساءل حول هذا الوضع، قائلًا: “إقناع الجزائريين بأن كل ما يرونه من سوء تسيير هو فعل أطراف، سيُكرس الاعتقاد باستحالة القضاء على تلك الأطراف الخفية، بل إن نظرية المؤامرة توحي بقوة خارقة لتلك الأطراف، تصبح معها كل مؤسسات الدولة تبدو عاجزة وفاشلة، وليس في العالم سلطة تريد أن ترسم البلد الذي تحكمه بهذه الصورة المخيفة”.
أعتقد أن المواقف السياسية للدول تعتمد على حس استشرافي ينبني على معطيات ودراسات تمتح من الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي، يراعي الظروف الجيوسياسية، سواء على الصعيد الإقليمي أو الدولي، وينتهج سياسة التعاون وحسن الجوار واحترام سيادة الدول، انطلاقًا من مبدأ “الفعل” الاستباقي. أما سياسة “رد الفعل”، فهي تكون دومًا متسرعة، لأنها تأتي دون تفكير أو تخطيط، لذلك يُنصح القادة السياسيون بالابتعاد عنها، لأنها تكون نوعًا من الدفاع في لحظة ضعف، لذا تخضع للمزاجية والانفعال والتسرع، وغالبًا ما تكون عواقبها وخيمة، كما يعلمنا تاريخ الأنظمة السياسية.
ونجد سياسة “رد الفعل” تبرز بشكل جلي في أسلوب الممارسة الدبلوماسية للنظام الجزائري، خاصة تجاه المغرب، حيث أصبح هذا النظام يتبنى سياسة خارجية عشوائية، فاقدة للبوصلة السياسية، خاصة بعد الهزائم الدبلوماسية المتتالية، مما بدأ يُظهر بشكل جلي ضعف هذه الدولة، وعزلتها، وفشل تحركاتها على المستويين الإقليمي والدولي. فثمة رعب كبير ينتاب حكام الجزائر تجاه كل مبادرة مغربية، سواء على المستوى الإقليمي أو الدولي، وباتت تشكل لهم الانتصارات الدبلوماسية للرباط كابوسًا مزعجًا.
لقد قضّت مضجعهم مبادرة عاهل البلاد، الملك محمد السادس، بتمكين دول مجموعة الساحل الإفريقي من الاستفادة من المحيط الأطلسي، وفق مشروع استراتيجي من شأنه تمكين دول الساحل (مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد) من الدخول مباشرة إلى المحيط الأطلسي لتسويق منتجاتها وتحقيق تنمية شاملة لمواطنيها، وهو ما يتماشى مع سياسة مغربية تبحث عن تمكين هذه الدول من التحكم في ثرواتها ومستقبلها، من خلال التعاون جنوبجنوب، الذي يقوم على أساس شراكة رابحرابح، والتي ستوفر فرصًا كبيرة للتحول الاقتصادي بالمنطقة، مما سيساهم في التنمية الشاملة للمنطقة وتسريع التواصل الإقليمي والتدفقات التجارية.
إنها رؤية استراتيجية خلاقة، تنهل من الأفكار السديدة لملك البلاد، ومن قواعد الفعل الدبلوماسي المغربي المتسم بالتعاون الإيجابي وعدم التدخل في شؤون الدول، وهو أمر في غاية الأهمية بالنسبة لدول الساحل، التي تربطها مع المملكة المغربية علاقات وطيدة على مر التاريخ.
عطفًا على ما سبق، نؤكد أن الاندماج الاقتصادي يعني عدم التدخل في شؤون دول الجوار، والاحترام الكامل لسيادتها، وعدم استغلال ثرواتها، وأن التكامل هو نقيض للهيمنة، وتسريع عملية النمو الإقليمي لا يتم عبر بلاغات إنشائية وقصص حالمة تدّعي أنها ستجعل من الجزائر “وديانا من الحليب”…! فسياسة “رد الفعل” غالبًا تحكمها انفعالات عمياء… وتلك حال دول أصبحت تعيش مهازل سيحكيها التاريخ.
وهل من إرهاصات حول الوضع الداخلي بالجزائر؟
لقد تفاعلت الأحزاب السياسية في الجزائر نتيجة الإخفاقات المتتالية للنظام الجزائري.
لقد أكد يوسف أوشيش، وهو مرشح رئاسي سابق، في خطاب له بمناسبة انعقاد المجلس الوطني لحزبه، أن الجزائر تمر بمرحلة دقيقة من تاريخها، في ظل عالم مضطرب يُعاد فيه رسم الخرائط الجيوسياسية، مطالبًا السلطة بتغيير المقاربات السياسية، وإعادة جسور الثقة بين الشعب والدولة عبر مسار ديمقراطي منفتح، حيث أشار: “حماية البلاد تبدأ من مشروع سياسي جامع، لا بشعارات جوفاء أو انغلاق أمني”.
وقد دعت حركة مجتمع السلم إلى تجاوز حالة الجمود السياسي التي تشهدها البلاد، مشيرة إلى غياب الحوار الوطني.
إن التاريخ فرص تُستغل أو تُهدر، ومن فاته الركب أضحى من حكايا التاريخ.
المصدر: هسبريس