ضمن سياق اللقاءات التشاورية التي أطلقها صاحب الجلالة حفظه الله ضمن رؤية ملكية بعيدة المدى، شرع ممثلو الدولة في شخص السادة العمال والولاة في تنزيل هذه اللقاءات الى المواطن المغربي عبر كل أقاليم المملكة للتشاور والاستماع والتعاقد على صياغة جيل جديد من برامج التنمية المندمجة.

وبناء على هذا الواقع الجديد لحركية المجتمع المغربي اليوم، جاءت تعليمات المجلس الوزاري لصاحب الجلالة حفطه الله 19 أكتوبر في إخراج جيل جديد من برامج التنمية المندمجة تقوم على المحاور الأتية: التأهيل الترابي، الصحة ، التعليم، الشغل، التدبير المستدام للماء.

فجاء هذا اللقاء الملكي مع مكونات الحكومة ليحرك الواقع الراكد في كل برك المملكة المغربية الشريفة.

وبناء على ماجاء من ملك البلاد، أصدرت وزارة الداخلية مذكرة لضرورة خروج العمال والولاة من مكاتبهم وتحمل مسؤولياتهم في الاستماع والإنصات والتشاور والتشارك، بعد أن عجز المنتخب عن تقديم الحلول والعلاجات الأنية.

ومن خلال التراكم والتجارب الميدانية التي عايشتها من جهة ، وماشهدته في مداخلات الفاعل الإداري ، والمدني ، والمنتخب من جهة ثانية ، يمكن المساهمة في هذا النقاش العمومي من زاوية الباحث المطلع والممارس.

وعليه يمكن رصد مجموعة من الملاحظات و والتقديرات التي أراها من الممكن أن تكون مداخل أخرى وبصيغ أخرى مفيدة لهذا النقاش؟

إن من بين الملاحطات الأولى التي يمكن تصفيفها في مستوى الشكل والمنهجية:

في هذا الشأن سعت الدولة إلى التسويق لكون المقاربة الأمنية ليست هي الوحيدة المتاحة في مواجهة مزالق التنمية المحلية ومكوناتها القطاعية، بل هناك مقاربات أخرى ناعمة يمكن توظيفها للإجابة على المشاكل والصعوبات والأزمات.

2 في تقديري ، أعتبر أن هذا الورش التشاوري يندرج في إطار الرد على فشل السياسات العمومية للحكومة والمنتخب الترابي في توفير شروط العيش الكريم والعدالة الاجتماعية . فلقد أظهرت الحركات الاحتجاجية الأخيرة خاصة مع حركة جيل {زيد} فشل المنتخب في معالجة الازمات الاجتماعية ميدانيا.

ولابد إذن من التأكيد على أن عملية تشخيص الواقع لهو أمر معلوم من جل الفاعلين، من خلال دراسات ووثائق مرجعية مؤسسية رسمية. أتحدث هنا عن النموذج التنموي الجديد، المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، تقرير الخمسينية، برامج المجالس الترابية الإقليمية والجهوية.

3 لقد كان هناك تسرع كبير في عقد هذه اللقاءات التشاورية، إن على مستوى السرعة في إخبار المعنيين للقيام بهذه المشاورات. حيث كان المطلوب وفق رؤية استراتيجية حقيقية ان يقدم مساحة زمنية للتحضير والتفكير والاستعداد في غياب تجارب سابقة في هذا الشأن.

ذلك أننا لاحطنا أن قطاعا واسعا من المتدخلين لايترافعون ببعد استراتيجي، بل بأبعاد شكلية للبروز والتسويق الإعلامي. فهم يقتصرون على طرح مشاكل يومية وشخصية ونزاعاتية، وهو ما لايندرج في سياق برنامج تنموي من الجيل الجديد برؤية بعيدة المدى.

4 وفي رصد آخر لنقائص هذه المنهجية المتبعة للعمال تم تسجيل المقاربة الانتقائية في استدعاء النسيج الجمعوي بدعوى ضيق فضاء الاستقبال، وهو عذر غير موفق، فليس هناك أسلوب واحد لجمع المواطنين .

وفي عمالات ومدن ودوائر أخرى لم تعمل الجهات الوصية على تقسيم اللقاءات التشاورية الى لجان موضوعاتية من التعليم والصحة والتأهيل الترابي والتشغيل.. بل تم الاستماع الى الكل الذي يمكن ان يدلي بكل شيء.

أما على مستوى المحتوى والمضمون، فأرى أن الإشكال منهجي مؤسس على التقييم والتقويم.

فقد سبقت هذه اللقاءات نماذج تنموية سابقة من المبادرة الوطنية للتنمية البشرية حتى برامج فرصة واوراش والمقاول الذاتي.. فكان لابد من الوقوف على مواطن القوة والضعف وفرص النجاح والفشل ، والبناء على مخرجات هذه المشاريع، نبني رؤى تصورية جديدة تناسب المرحلة والسياق والواقع الجديد.

ثم في السياق نفسه ، ألا يجدر بنا أن نطرح سؤالا مركزيا عن الأسباب التي جعلت الجماعات الترابية لا تنفذ برامج عملها وبرامج القرب؟ ثم حتى لو طرحنا جيل جديد من برامج التنمية المندمجة ، ففي يد من سنضعها ؟

فالمطلوب عدم اقتراف الأخطاء نفسها ، عبر إعادة تدوير المنتوج القديم وتزويق الواقع المؤلم بمساحيق فاسدة.

سؤال محرقي آخر: من سينفذ ماذا؟ فلا يمكن تنفيذ برامج تنموية دون تفعيل مبدأ أساسي في دستور 2011 يهم ربط المسؤولية بالمحاسبة عبر تحريك النصوص القانونية الجافة في هذا المبدأ. فلابد من معالجة الداء، فداء العطب قديم كما قال السلطان {عبد الحفيظ بن الحسن}.

سؤال أخر يمكن أن يشكل محددا في هذا الصدد: باضطلاع المسؤول الإداري على تدبير الشأن المحلي، الا نضرب في العمق اختصاصات المجالس المنتخبة؟ وأين هي مسؤولية المنتخب؟ هنا يصبح المعين هو من يصبح المنقذ من الضلال والقناة الأمنة نحو الفردوس الموهوم.

أولا :كان من الممكن أولا كفرش نظري مؤطر أن تحدد الدولة او العمالة بصفة محددة تصورها ورؤيتها للمنطقة أولا قبل فتح أي نقاش عمومي لاطلاع المواطن والمدني والسياسي والحقوقي على توجهات الدولة الاستراتيجية واولوياتها الملحة خلال المرحلة الحالية التي شهدت تحولات سوسيواجتماعية واقتصادية وقيمية.

ثانيا: إن أي تحديد أو مقاربة أو تصور للتنمية المندمجة باي إقليم لايمكن أن يستقيم دون الاستدعاء الواعي للخصوصيات المحلية والتمايزات المجالية والهوية الثقافية والدينية لكل منطقة.
ثالثا: إن أي مشروع سيقوم على الانطلاق من الصفر ولن يبنى على ما تراكم من نماذج سابقة وبرامج عمل قديمة سواء كانت ناجحة أو فاشلة، سيعتير مشروعا فاقدا للفعالية والمردودية من جهة، وهادرا للزمن الإنجازي والطاقة البشرية والمالية.

رابعا: يحتاج كل مشروع مؤسس تقنيا ومنهجيا الى رؤية الباحث الاكاديمي، الى إرشادات مراكز التفكير والدراسات والبحث العلمي، لذلك فحضور الاكاديمي الباحث في بناء جيل جديد من التنمية المندمجة أمر ملح وواقعي إن لم أقل إلزامي ومفروض.

خامسا: إن المنهج والمنهجية التي ستشتغل بها وعليها الجهات الوصية على صياغة النموذج الجديد للتنمية المندمجة عبر أقاليم المملكة المغربية هو عماد هذه العملية برمتها.
لذلك فالمقاربة ، والوسيلة والزمن، زمن الإنجاز، وتحديد الرؤية، وضبط البوصلة والأفق عناصر استراتيجية في إنجاج النموذج التنموي الجديد، والانفتاح على افاق جديدة ترسم مستقبل المملكة وتوجهاتها.

سادسا: سيكون من الدقة والنجاعة والسرعة تحقيق الأهداف المتوخاة استلهام التجارب والنماذح الناجحة لامم أخرى قصد الاطلاع والمعرفة وتجنب الأخطاء المكلفة والمسارب المؤدية نحو التيه والضياع، على أن يتم التعاطي مع هذه التجارب بمنطق الحذر والحيطة ، وبمبدأ الأولوية للخصوصية الثقافية والهوياتية والمجالية تحت السيادة المغربية.

من خلال ما سلف، وبناء عليه، يمكن تقديم خريطة عمل في شأن المحاور الكبرى للجيل الجديد من التنمية المندمجة:

على مستوى التشاور:

إعادة بناء الثقة بين المواطن والمؤسسة الرسمية، الإدارية والمنتخبة من اجل جذب المواطن نحو المساهمة والمشاركة والفعل والإنجاز.
تفعيل تقارير مؤسسات الرقابة والمحاسبة، أقصد المجلس الأعلى للحسابات وترسيخ فكرة القطع مع الفساد والمفسدين ولو على قدر بطئ. هذا ما سيدفع الفاعل المدني والمواطن العادي يفكر في الفضاء العمومي ويدافع عن انتمائه ووطنه.

على مستوى التأهيل الترابي:

التراب ملك من؟ ملك المواطن، ولا يمكن للمسؤول الإداري ان يطرح إجابات للتأهيل . المسؤول الإداري سينتقل الى منطقة أخرى بعيدا عن الاستقرار.
إذن فالمواطن منه التغيير وإليه التغيير بمختلف تعبيراته السياسية والثقافية. فالتشاور الفعلي لمن يسكن التراب ويملك المكان.
تأهيل المنتخب ليكون في المستوى المطلوب الذي يساهم في إنتاج المعرفة والثروة داخل منطقة انتخابه.
تأهيل الإدارة الترابية، والموارد البشرية المؤهلة من خلال إعادة التوزيع السليم للكفاءات والأطر داخل المصالح والمواقع .
العمل على تأهيل المجتمع المدني بشكل منتج يجعله متجاوزا للقوة الاقتراحية الى القوة التقريرية في مسارات مؤهلة للتنمية داخل المجال.

5استحضار لوبيات العقار داخل المدينة التي تلعب دورا حاسما في صياغة تصاميم التهيئة .
على مستوى التشغيل:

1تأهيل الجانب المالي للجماعات بشكل منتج، فميزانية التسيير تبتلع نسبة ساحقة من ميزانية الجماعة، وميزانية الاستثمار تبقى ضعيفة.
لذلك ينبغي إعادة النظر في القيمة المضافة، بالرفع من نسب تحصيلها لصالح الجماعة مقابل تخفيض تحصيلها للإدارة المركزية.

2مخططات تنموية بشكل تشاركي عبر صياغة البرامج مع المصالح الخارجية التي يتم تهميشها وهي التي تملك المعلومة الدقيقة.
على مستوى تدبير الموارد المائية:

1إعادة النطر في السياسة الفلاحية، فالحل ليس في حفر الآبار بل في الحكامة والترشيد.

2إعلام بيئي يتحمل مسؤوليته في الاخبار والتوعية والتحسيس. كما لا يمكن أن نؤسس لتنمية مندمجة بعيدا عن فاعل إعلامي مؤهل وملتزم بأخلاقيات مهنته ومضطلع بأدواره في الرقابة والكشف والاخبار ونقل المعلومة بشكل مهني.

والجدير بالذكر ، تركيز العمل على صياغة قانون للتشاور العمومي وإخراجه الى الوجود. دون أن ننسى إعادة تفعيل المؤسسة النائمة او الميتة، الوكالة الوطنية لتقييم السياسات العمومية، اين هي ؟ وهي التي تستنزف أموال دافعي الضرائب.

المصدر: العمق المغربي

شاركها.