خنيفرة.. طريق السلاطين وقاعدة جهاد موحى أوحمو الزياني ضد الاستعمار
شكلت قرية خنيفرة على مر سنين معبرا للقوافل التجارية وطريقا للسلاطين عبر تادلة من جهة، وبين تافيلالت والسهول الداخلية والأطلسية من جهة أخرى، قبل أن يستغل موحى أوحمو الزياني إقامتة بفاس بعد سنة 1886، في عهد المولى الحسن، ليحولها إلى حاضرة عامرة.
في أواخر القرن السابع عشر الميلادي أسس المولى إسماعيل جسرا على نهر أم الربيع، تسهيلا للمواصلات بين القصبات العسكرية في الأطلس المتوسط، وبين منطقة تادلة، لتتأس بعد ذلك خنيفرة، في حين تقول رواية أخرى إن المدشر كان موجودا على الضفة الأطلسية للنهر، قبل بناء القنطرة، بحسب ما أشار له الباحث محمد بن لحسن في مقال بـ”معلمة المغرب”.
وأسس مدشر خنيفرة، بحسب ما أورد بن الحسن، في موقع استراتيجي هام، حيث يقع على ممر “طريق السلاطين” الرابطة بين عاصمتي فاس ومراكش، عبر تادلا من جهة، وبين تافيلالت والسهول الداخلية والأطلسية من جهة أخرى. كما يتوسط المدشر مجموعة من القبائل المنتمية إلى اتحاد زيان، وكلها قبائل رحل تتخذه ممرا في حركاتها الانتجاعية بين الجبل و”الأزغار”.
كل هذه المميزات الاستراتيجية جعلت هذا المدشر، يقول بن الحسن، محط أنظار أسرة موحا وحمو الزياني، وهكذا انقض عليه سنة 1860 وطرد منه أيت عفي، وفرض الرسوم على التجار المنتجعين. فحقق موارد مالية مهمة مكنته من بناء قصبته الشهيرة على الضفة اليسرى لنهر أم الربيع، كما بوأته “أمغاراً” على قبائل زيان.
وفي 1886 استقدم السلطان المولى الحسن موحى وحمو الزياني إلى فاس، وعينه قائدا للمخزن بالأطلس المتوسط، وزوده بثلاثة مدافع من صنع إسباني، فانتهز الزياني، فرصة إقامته بفاس للإعداد لمشروع تنمية مدينته، فاتصل بالتجار والحرفيين لتعميرها وتزويدها بما يلزم، وبسرعة تحولت من قرية تعبرها القوافل التجارية إلى حاضرة عامرة، بحسب ما أورد عبد القادر بوراس في مقال بـ”معلمة المغرب”.
ونقل بوراس عن فرنسوا بيرجي، عند حديثه عن أصول سكان المدينة، قوله: “التجار القادمون من فاس 200، وأهل سوس (بقالة) وعددهم 80، وأهل الصحراء (دباغون وحرفيون) وعددهم 300، وأهل أبي الجعد: صناع 100، والسماعلة وأهل تادلة والسراغنة وابني حسن 260، والبواخير والشراردة (قدماء العساكر) 80”.
وجاء تخطيط الزياني لبناء المدينة على الضفة اليمنى للنهر، بعد أن عمل على استتباب الأمن في المنطقة، وأخضع القبائل لسلطة المخزن. فأعد سوقا تجارية في مكان مرتفع، ينعقد مرتين في الأسبوع، وبنى عشرات الدكاكين، خصص ثلاثين منها لقيصارية تباع فيها السلع النفيسة، كالذهب والحرير، كما أنشأ ثكنة عسكرية لإسكان الجيش الذي زوده به السلطان.
وانطلاقا من هذا المركز عرفت المدينة، بسبب تزايد السكان وتوافد التجار، نمواً مطرداً حيث ظهرت أحياء تحمل أسماء الأقاليم والمدن التي جاء منها هؤلاء التجار، كما يقول بن الحسن.
وهكذا وُجد حي الصحراويين الذين تخصصوا في الدباغة وبيع التمور، فيما استقر الفاسيون في القيصارية، وتخصص السوسيون في البقالة، وغيرهم. ناهيك عن بناء فروع لمعظم الزوايا الموجودة في المغرب.
ولمدينة خنيفرة ماض مجيد في مقاومة الاستعمار، حيث قادت قبائل زيان معارك باسلة ضد جيوش فرنسا، أبرزها معركة “الهري” التي كبد فيها المقاومون بقيادة موحى وحمو الزياني خسائر فادحة.
فبمجرد أن وطئت أقدام الغزاة أرض الشاوية عام 1907، استنفرت القبائل وحولت خنيفرة إلى قاعدة للجهاد، حيث استمرت مناوشات المجاهدين للقوات الفرنسية في تضاريس المنطقة لسنوات، معرقلين بذلك استثمار هذه الأراضي من قبل المعمرين الأجانب.
وهكذا أدرك الاستعمار الفرنسي استحالة استثمار السهول والهضاب القريبة من خنيفرة دون السيطرة على المدينة، ففكر ليوطي مبكراً في الاستيلاء عليها، لكسر شوكة المقاومة الزيانية التي كانت تحول دون إتمام “تهدئة ما كان يسمى “بالمغرب النافع”، وقد أنيطت مهمة الغزو للجنرال هنريس، بحسب ما أورد محمد بن الحسن.
القوات الفرنسية التي غزت المدينة بعتاد عسكري كبير وبآلاف الجنود، تصدى لها الزيانيون ببسالة. وفي يوم 21 يونيو 1914 تمكنت قوات فرنسا من دخول خنيفرة بعد أن غادرها سكانها الذين توجهوا نحو الجبال المجاورة لإعادة تنظيم المقاومة، حيث أقام موحى وحمو معسكرا في منخفض بين الجبال القريبة للمدينة يسمى الهري.
عندما دخلت قوات فرنسا للمدينة وجدتها فارغة من سكانها، وما كادت تستقر حتى فاجأتها هجمات المقاومين المباغتة، التي أربكتها وكبدتها خسائر كبيرة وجعلتها في موقف صعب.
في ظل هذا الوضع قررت القوات الفرنسية الهجوم على معسكر موحى وحمو الزياني بجيش قوامه 1300 جندي وأكثر من 40 ضابطا، فأحاطت بالمعسكر ولم تميز في هجومها بين المقاومين والأطفال والنساء، مرتكبة مذبحة مروعة.
لكن عند انسحابها، وجدت قوات المستعمر نفسها محاصرة بين قوات عدد من قبائل أيت شراط وأيت خويا وأيت بوهو وإيشقرن وغيرها، التي تناست تناقضاتها الداخلية، يتثدمها أيناء موحى وحمو الذين كانو يعسكرون في مكان قرب الهري، بعد أن استنجد بها عدد من المقاومين الناجين من مذبحة فرنسا، ليدرك الكولونيل لافردور أنه ذهب بقواته إلى حتفها، فهزم شر هزيمة، إذ قدرت خسائر قواته بمئات القتلى ناهيك عن الجرحى وغنائم السلاح التي ظفرت بها المقاومة.
المصدر: العمق المغربي