“خمسة أسئلة”.. ما فعالية علم النفس الجنائي في فهم الجريمة وهل سيظل مغيبا في الجامعة المغربية؟
للجريمة جوانب عديدة قبل وبعد حدوثها، من خلال ارتباطها بما هو اجتماعي ونفسي وقانوني. الأمر الذي يستوجب معه تمكن المحققين الأمنيين والقضائيين من آليات ومهارات ومعارف تساعدهم في إنجاز عملهم إعلاء للحقيقة وكشفا وفضحا لكذب وحيل الجناة.
هذه المهارات والمعارف تجد لها موطئ قدم في علم النفس، وبشكل أدق في علم النفس الجنائي. والتفكير في هذا العلم مرده إلى سببين رئيسيين، الأول هو السعي لفهم أسباب ودواعي الأفعال الإجرامية من أجل تجنبها والتقليل منها، على اعتبار الجريمة واقعة إنسانية واجتماعية، وثانيا، من أجل مساعدة المحققين في اكتشاف دوافع المجرم ونيته وفضح محاولاته الساعية لإخفاء الحقائق، لأجل معاقبته بالمنسوبه له.
إلا أن الملاحظ في الجامعات المغربية، خاصة كليات الحقوق، هو غياب تدريس هذا التخصص، سواء بشكل عام، أو بشكل خاص؛ في وحدات دراسية معينة، مما يفوت فرصا كبيرة على القضاء المغربي في الاستفادة من علم النفس الجنائي لتسهيل عمليات التحقيق والبحث القضائي.
لتعميق النقاش في هذه المواضيع وأخرى ذات صلة، تستضيف جريدة “العمق” الأستاذ الجامعي في القانون الجنائي ورئيس المركز الوطني للمصاحبة القانونية وحقوق الإنسان، أحمد قليش، ضمن فقرة “خمسة أسئلة”.
ما هو علم النفس الجنائي وكيف يمكن الاستفادة منه في عمليات البحث والتحريات القضائية؟
علم النفس الجنائي هو فرع تطبيقي من علم النفس، يهتم بتطبيق مبادئ علم النفس العام في ميدان الجريمة. وهو العلم الذي يهتم بتطبيق أسس ونظريات ومكتشفات علم النفس في مجال الجريمة والمجرم، كما يقوم بالبحث في نواحي متعددة من الفعل الإجرامي والمجرم، ويدرس هذا العلم الجريمة باعتبارها واقعة إنسانية واجتماعية قانونية.
وقبل الحديث عن إمكانية الاستفادة من هذا العلم في عمليات البحث والتحريات القضائية، لابد بداية من الإشارة إلى أن دوافع ارتكاب الجريمة لا يمكن أن تخرج عن اعتبارين اثنين؛ الأول، يرجع إلى عوامل كامنة في ذات المجرم، مرتبطة بوضعه النفسي وما يعانيه من اضطرابات حادة تدفع إليه ارتكاب الجريمة. أما الاعتبار الثاني، يرتبط بما هو اجتماعي، يحدده الوسط الذي يعيش فيه المجرم.
وعلى هذا الأساس، فإن علم النفس الجنائي يفيد وبشكل كبير المحققين أثناء البحث والتحري في تحديد هوية المشتبه فيهم بالنظر إلى الوضعيات المختلفة التي تطرأ على الأشخاص موضوع الشبهة، والتي لا يمكن الوقوف عندها إلا من قبل المحقق ذو التكوين في هذا العلم.
ما هي طبيعة العلاقة بين علم النفس الجنائي والشكل الخارجي للمجرم أو ما يسمى بعلم الفراسة؟
لقد قدم علم النفس الجنائي ومعه العديد من المدارس رزمانة من الإشارات والملاحظات والمتغيرات التي تطرأ على الأشخاص موضوع التحقيق في مرحلة البحث والتحري، وأن الوضعية النفسية للشخص تترجم على مستوى سلوك خارجي يظهر معه الشخص بنوع من التوتر والاضطراب والتردد في الإجابة على أسئلة المحققين الذين يكونون بما لهم من فراسة صورة عن الشخص موضوع التحقيق واحتمالات ارتكابه للفعل موضوع البحث من عدمه.
هل يجد هذا العلم موطئ قدم في كليات الحقوق والقانون المغربية، وهل هناك حاجة ملحة له اليوم؟
للأسف الشديد لا يدرَّس هذا العلم بكليات الحقوق بالمغرب، وفي المقابل نجد كليات الآداب والعلوم الإنسانية تدرس علم النفس وعلم الاجتماع، وفي المؤسسات الجامعية بالمشرق يدرس في كليات الحقوق علم النفس الجنائي وعلم الاجتماع الجنائي.
شخصيا، أجد أنه من الأولى أن يدرس علم النفس الجنائي بكليات الحقوق بالمغرب، على اعتبار أن دوافع وأسباب إرتكاب الجريمة ترتبط باعتبارات تعود إلى الوضع النفسي والاجتماعي للمجرم. وأن الحاجة ملحة اليوم أكثر من قبل إلى ضرورة تضمين مناهج التدريس بكليات الحقوق مادة علم النفس الجنائي.
هل يمكن أن نعتبر الحالة النفسية للمجرم ظرف تخفيف خاصة إذا كانت هي الدافع وراء ارتكاب الجرم؟
لقد كان المشرع واضحا في تحديد ظروف التخفيف القانونية والتي لم يترك معها للقاضي أي مجال في تطبيقها من عدمه، بل وحدد حالات واضحة في القانون الجنائي يستفيد مرتكبي الجرائم من التخفيف على مستوى العقوبة.
وهناك حالات أخرى تسمى بظروف التخفيف القضائية، وهي الظروف التي يبقى للقاضي معها حرية تمتيع المتابعين بالجرائم من التخفيف أو عدمه بحسب اقتناعه الوجداني المؤسسة على الوضع النفسي للمتابع.
ألا ترى بأن التقاضي عن بعد من شأنه أن يكوِّن قناعات وأحكام تشوبها الكثير من النواقض عند القاضي؟
في المقام الأول لابد من الإشارة إلى أن التقاضي عن بعد هو تدبير أوجبته جائحة كورونا التي فرضت على المحاكم أن تعمل بتدبير متابعة الأشخاص المعتقلين من داخل السجون عوض حضوره إلى المحكمة.
ومع أهمية هذا التدبير في تصريف ملفات المعتقلين، إلا أنه يضرب في العمق مجموعة من المبادئ التي أسست عليها المحاكمة الجنائية العادلة، لعل مبدأ الاقتناع الوجداني للقاضي واحد من هذه المبادئ، حيث يصبح تحقيق هذا الاقتناع أمر في غاية الصعوبة بالنظر إلى وجود المتهم في مكان بعيد عن القاضي، وليس أمامه حتى يكوّن قناعته.
المصدر: العمق المغربي