“خمسة أسئلة”.. طبيب نفساني يضع السلوك الانتحاري والوصم المجتمعي على مشرحة علم النفس
تفجر حادثة إقدام التلميذة صفاء على الانتحار من أعلى كورنيش آسفي جراء طردها من مؤسستها التعليمية أثناء اجتياز الامتحان الوطني للباكالوريا، قيل إن الطرد حدث بعد ضبطها في حالة غش، (تفجر) في أذهان الآباء وأولياء الأمور سيلا من الأسئلة والمخاوف.
تتعدد التساؤلات الناجمة عن حالات كهذه، بضعها يترجم مخاوف عميقة، لكن أهمها هو أساليب الوقائية لتجنب وقوع الانتحار باعتباره آخر نتائج الاضطرابات النفسية، وأيضا الكيفية التي بموجبها يستطيع محيط الضحايا تجاوز الوصم المجتمعي وأحكامه الجاهزية على أقربائهم، تجبنا لمفاقمة معاناتهم ومضاعفة آلامهم.
تزداد صعوبة الوصم المجتمعي، في حالة نجاة المُقدم على الانتحار، مما يطرح كذلك السؤال حول تعامل المحيط والأقرباء ومعهم المجتمع ككل. كما يثير التعاطي الإعلامي لمواضيع الانتحار العديد من التجاوزات التي من شأنها أن تفاقم الوضع وتزيد من حالاته.
للإجابة على هذه التساؤلات، تستقبل فقرة “خمسة أسئلة” لهذه الأسبوع، الطبيب النفساني، محمد السعيد الكرعاني، وهو أيضا مكون ومحاضر في موضوع المهارات النفسية والاجتماعية، ومؤسس جمعية المهارات النفسية والاجتماعية بالمغرب.
بداية دكتور، ولأن السياق يحكم هذا الحوار.. من ناحية علم النفس، هل من تفسير لحادثة إقدام التلميذة صفاء على الانتحار؟
إن هذا الحادث يحيلنا بشكل مباشر على موضوع الوضعية النفسية في صفوف الشباب، ومن المفيد في هذا السياق الوقوف عند التقرير الذي أصدره المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، قبل مدة قصيرة، والذي يتحدث عن الصحة النفسية وعن الانتحار في بلادنا.
من ضمن ما أوصى به التقرير، من سبل الوقاية من الانتحار في صفوف الشباب، وهي نفس الخطوات التي توصي به منظمة الصحة العالمية والهيئات المختصة عبر العالم، وعلى رأسها التكفل وعلاج الحالات التي تظهر عندها صعوبات في الصحة النفسية قبل أن تتفاقم وتتحول إلى حالات مأساوية كهذه التي عشناها في الأيام الماضية.
كما أوصى التقرير بالاعتناء بالمهارات النفسية والاجتماعية في صفوف الشباب، لماذا؟ لأن هذه المهارات، بمثابة حزمة القدرات النفسانية التي تسمح للفرد أن يتعامل مع ضغوطات الحياة الاعتيادية وأن يدبرها على أفضل وجه.
إن مع هذه المهارات يجد الفرد حلولا للمشكلات ويجد الطرق الفضلى للتصرف حينما تقع معه أزمة نفسية، وهي مهارات قابلة للتعلم، إلا أنه مع الأسف ما زلنا لم نقطع بعد ما يكفي لتعميمها على شبابنا وأن تصبح جزءا من أسلوب التربية داخل البيت والمدرسة.
ما الذي يعنيه إقدام تلميذ على الانتحار بسبب ضغوطات الامتحان؟
إن إقدام تلميذ ما على الانتحار في أجواء الامتحان والضغط النفسي للامتحانات، معناه أننا أمام نقص كبير في القدرة على تدبير ضغوطات الحياة، وأمام نقص كبير في القدرة تحمل الصعوبات الحياتية المرتبطة بالتمدرس وبغير التمدرس كذلك، أمام مشكلات مرتبطة بالصحة النفسية لم تشخص في الوقت المناسب، ولم تعالج بشكل مبكر، ولم يلتفت لها وإليها أي طرف، سواء كان المحيط القريب أو المحيط الدراسي، وهذا ما يحتاج لكثير من الانتباه.
وبالتالي، فإن عدم الانتباه لهذه المشكلات النفسية والوقوف عليها، يجعل الشاب عرضة لأن يرى نفسه وحيدا وبدون أمل في حل مشكلاته الحياتية، إما مشكلة مرتبطة باجتياز امتحان معين، أو صعوبة إيجاد شغل أو وقوع مشكلة ما في حياته.
فحينما تكون صعوبات على مستوى الصحة النفسية، ويكون الفرد مفتقد للمهارات النفسية والاجتماعية، وحينما يغيب التماسك الأسري، وحينما لا تنتبه المؤسسات التي يرتادها هؤلاء الشباب من مدارس وجمعيات فضاءات شبابية لموضوع الصحة النفسية، كل هذه عوامل تتضافر لتعطينا حالة الشعور باليأس التام وانعدام الأمل وانعدام الحل وانعدام الأفق وانعدام الغد.
كل هذا يوفر فرصة نشوء حالة صحية نفسية مضطربة، يمكن أن يكون من ضمن احتمالاتها وعواقبها؛ الإقدام على محاولة انتحار أو إذاية الذات أو الدخول في عالم الإدمان أو اللجوء إلى ممارسات اجتماعيا مضرة.
إذن، نحن أمام لحظة من الواجب أن نتوقف عندها طويلا وأن نتساءل عن عناصر الهشاشة التي أحاطت بهاته التلميذة وغيرها من تلاميذ آخرين، والمرتبطة بصحتهم النفسية الشخصية أو ترتبط بيئتهم الاجتماعية الأسرية أو بيئتهم المدرسية التي لم تصبح بعد الصحة النفسية جزءا أساسيا ضمن مكوناتها.
كيف يمكن أن يتعاطى المجتمع ووسائل الإعلام مع حوادث الانتحار؟
حينما تقع حادثة انتحار لابد أن نعطي الكلمة للمتخصصين، لأن الخطر كل الخطر في أن يتصدى للحديث في هذا الموضوع من ليست له الدراية الكافية بالعوامل المسببة للانتحار، أو الوقوع في فخ إصدار الأحكام الجاهزة التي تضر ولا تنفع وتعقد المشكل ولا تحله.
كما يجب على وسائل الإعلام أن تحتاط بشكل كبير في تعاطيها مع مثل هذه الحوادث، لأن في دول أخرى، وبعد حدوث وقائع شبيهة، وبسبب التعاطي الإعلامي بطريقة خاطئة، نتج عن ذلك محاولات انتحار متكررة جديدة في صفوف الشباب بعد الحدث الأول.
لذلك، يجب التنبيه إلى أن ما بعد مثل هذه الحوادث، نحتاج إلى إعطاء الكلمة للمختصين، ونحتاج إلى التركيز إعلاميا على عوامل الوقاية، وعدم تقديم صورة إعلامية عن الواقعة، يمكن أن تعزز هذه الصورة تكرار السلوك في صفوف فئات عمرية متصفة بالهشاشة النفسية، خاصة حينما يكون المُقدم على الانتحار رمزا من الرموز المعروفة في صفوف الناشئين.
في هذه النقطة بالضبط، أريد أن أشير إلى أن التعاطي الإعلامي مع هذه الوقائع قد يفاقم الوضع ولا يعالجه، ولكي تكون الرسالة الإعلامية وأن يؤدي المجتمع دوره على أحسن منوال في مثل هذه الوقائع، فلابد من الاحتياط وإعطاء الكلمة للمختصين والتركيز على عناصر الوقاية.
هل من سُبل للوقاية من حدوث الانتحار وما مدى فعالياتها؟
صلة بعوامل الوقاية التي قلتها سابقا، هناك توصيات صادرة عن هيئات بحثية متخصصة، أولها ضرورة وجود تتبع طبي للحالات التي تعاني من اضطرابات نفسية، وأن لا تظل بدون تتبع طبي منتظم.
النقطة الثانية ضمن عوامل الوقاية، هي وجود التماسك الأسري، باعتباره يحقق الإحساس بالانتماء والإحساس بالأمان، وبإمكانية إيجاد السند عند الأزمات.
أما النقطة الثالثة، فتتعلق بتملك الفرد المهارات النفسية والاجتماعية، باعتبارها أدوات لتدبير الضغوطات وإيجاد الحلول للمشكلات والقدرة على ممارسة طرائق تفكير سليمة وطرائق تدبير المشاعر بشكل سليم وصحي.
ثم أيضا من عوامل الوقاية، وجود حياة روحية عند الفرد، لأن البعد الروحي أصبح مكون من مكونات الصحة النفسية، وأصبحت الإشادة من عناصر الوقاية النفسية. وهو ما يحيلنا على قضية الإيمان والمعتقد الديني والظفر بمعنى لهذه الحياة التي نحياها، والقدرة على تقبل الألم وتقبل الفقد، وتقبل الأزمات باعتبارها جزءا من رحلتنا في الحياة.
إن المكون الروحي له وظيفة إضفاء معنى على ما نعيش، ويمنحنا القدرة على تقبل هاته الصعوبات مع وجود باب الأمل المستمر.
يلحق محيط المنتحرين وصما مجتمعيا وأحكاما جاهزة.. هل من سبيل لتجاوز هذه النظرة؟
بعد ما تقع مثل هاد الحوادث يصبح الفرد ويصبح محيطه العائلي محطة وصم وأحكام جاهزة، في حين أن الذي ينبغي فهمه والوقوف عنده، أن هناك اضطرابات عقلية شديدة الخطورة، لأن الانتحار من بين أسوأ الاحتمالات الممكنة حينما لا تعالج هذه الاضطرابات.
حاليا، يكون السلوك الانتحاري تحت تأثير اضطرابات عقلية مفهوم في الإطار الطبي النفسي، ويعتبر كل حكم جاهز وكل وصم لهؤلاء الناس بمثابة الألم الإضافي الذي يُعقّد المشكل ولا يحله نهائيا.
لذلك، فالحذر كل الحذر من التعاطي مع هاد المواضيع بصيغة الوصم والأحكام الجاهزة الظالمة في حق هؤلاء الناس، بل الأصل أن ننتبه لعلاقة هذا السلوك بالمرض العقلي وأن ننتبه لوجود علاجات تثبت الأيام والعلم فعاليتها وقيمتها الوقائية عند الأشخاص ذوي الاضطرابات النفسية.
إن الاضطراب العقلي له جذور بيولوجية كذلك على غرار أمراض أخرى، وهاته الجذور البيولوجية وما يرافقها من اختلالات هرمونية كبيرة، تجعل أحيانا سلوك الفرد غير خاضع للسيطرة الذاتية، ويصبح العلاج الطبي النفسي أفضل تدخل يمكن للمجتمع أن يعززه ويتعاطى بشكل ايجابي، بدل الوصم وبدل الأحكام الجاهزة.
وفي الأخير لابد من الإشارة إلى أن المصالحة مع الصحة النفسية من أهم المداخل التي يمكن أن تساعد في المستقبل.
المصدر: العمق المغربي