جدد جلالة الملك محمد السادس نصره الله بمناسبة خطاب عيد العرش ليوم 30 يوليوز 2025 تاكيده على مركزية العدالة الاجتماعية والترابية في المشروع التنموي الوطني الرؤية . و دعا جلالته، بكل وضوح، إلى تجاوز نموذج “مغرب بسرعتين”، حيث شدد على ضرورة تمكين كل الموطنات و المواطنين في جميع ربوع الوطن من الولوج المتكافئ إلى الخدمات الأساسية والفرص الاقتصادية ووسائل الارتقاء الاجتماعي.
كما أبرز أهمية إرساء تنمية ترابية مندمجة ترتكز على خصوصيات كل جهة معتبراً أن الرأسمال البشري والاستثمار المنتج هما ركيزتا التماسك الوطني.

وقبل بضعة أشهر وفي خطاب موجه إلى المغاربة المقيمين بالخارج، شدد جلالة الملك على الدور الاستراتيجي الذي ينبغي أن تضطلع به الجالية في عملية تنمية الوطن .و ثمّن جلالته ليس فقط التحويلات المالية للجالية بل
ايضا اسهام الكفاءات والخبرات الوطنية بدول المهجر في مسلسل التنمية. وكان الخطاب الملكي واضحا: يتعيّن إدماج الجالية المغربية على قدم المساواة مع باقي المؤسسات والفاعلين الوطنيين وينبغي إرساء آليات مؤسساتية جديدة لمواكبة هذا الانخراط الفعلي.

ويعبر هذين الخطابين على الإرادة الملكية القوية و الصادقة
لجعل الجالية المغربية فاعلا اساسيا في مسار التنمية الاجتماعية والترابية بالمغرب.

فلم يعد الرهان مرتبط فقط بتقوية الانتماء و تعزيز الارتباط بالوطن الام و انما بترجمة هذا الارتباط إلى مشاريع و مبادرات ملموسة ومهيكلة.
وفي هذا السياق، يُطرح السؤال: ما هو الدور الذي يمكن أن يضطلع به المغاربة المقيمون في الخارج اليوم لتفعيل مضامين الخطاب الملكي ؟

بداية، لا بد من التذكير بأن الجالية المغربية تضم اليوم ما بين 5.4 و5.5 ملايين شخص موزعين على أكثر من عشرين دولة، خاصة في أوروبا (فرنسا، إسبانيا، إيطاليا، بلجيكا، هولندا و المانيا)، وأمريكا الشمالية، ومنطقة الشرق الأوسط. وقد بلغت تحويلاتهم نحو المغرب سنة 2024 مستوى قياسيا بلغ 117.7 مليار درهم، أي ما يعادل حوالي 7.7% من الناتج الداخلي الخام الوطني . وتشير توقعات بنك المغرب إلى أن هذا الرقم قد يصل إلى 123.7 مليار درهم في سنة 2025. ومع ذلك، فإن أقل من 10% من هذه التحويلات تُستثمر في القطاعات الإنتاجية، ولا تتجاوز نسبة 2% منها تلك التي تُوجَّه إلى مشاريع مهيكلة. وتُسهم الجالية المغربية بنحو 15% من مجموع الاستثمارات الخاصة في المغرب.

ولمواجهة هذا التفاوت بين الإمكانيات الهائلة المتوفرة وبين حجم الانخراط الفعلي في الاستثمار، اتخذ المغرب عدة تدابير هامة. فقد تم تعديل ميثاق الاستثمار ليشمل الجالية بشكل كامل من خلال منحهم منحا وتحفيزات وضمانات ضريبية ومالية. كما تم إطلاق برنامج MDM Invest في غشت 2025، وهو يتيح للمغاربة المقيمين بالخارج الحصول على منحة تصل إلى 10% من قيمة المشروع (بحد أقصى 5 ملايين درهم)، بشرط أن يساهم المستثمر بما لا يقل عن 25% من رأسمال المشروع بالعملة الصعبة، وأن يتجاوز الغلاف المالي الإجمالي للمشروع مليون درهم .
وبالإضافة إلى ذلك، تم اعتماد إجراءات ضريبية تحفيزية، من بينها تخفيض رسوم التسجيل العقاري إلى 4%، سواء تعلق الأمر بعقارات مخصصة للسكن أو للاستعمال المهني، شريطة تسجيل العقد خلال 30 يوما. كما يستفيد المستثمرون من الجالية من إعفاءات ضريبية متعددة على القيمة المضافة أو على الأرباح، وذلك بحسب طبيعة القطاع أو البرنامج الاستثماري.

ومن الناحية المؤسساتية، تم إحداث لجنة خاصة بالجالية تتولى الإشراف على استراتيجية شاملة للمواكبة، تشمل تنظيم جولات ترويجية دولية، وتعزيز التواصل حول الفرص المتاحة، وتعبئة مراكز الاستثمار الجهوية، ودعم وكالة المغرب لتنمية الاستثمارات والصادرات (AMDIE)، إضافة إلى إحداث منصة رقمية متعددة اللغات لتوجيه المستثمرين من الجالية نحو الجهات والقطاعات المناسبة.
وبالموازاة مع ذلك، يُتيح برنامج تعبئة الكفاءات للمغاربة المقيمين بالخارج من ذوي الخبرة التدخل بشكل مؤقت أو دائم للمساهمة بمعارفهم وخبراتهم، خصوصا في القطاعات التكنولوحية..

وقد أسفرت هذه الإجراءات عن بعض النتائج الملموسة. فقد تم إطلاق العديد من المشاريع المقاولاتية من طرف أفراد الجالية، لاسيما في مجالات السياحة القروية، والصناعات الغذائية، والتكوين، والاقتصاد الرقمي. كما أن حوالي 25% من المستفيدين من برنامج دعم السكن هم من المغاربة المقيمين بالخارج. من جهة أخرى، قامت الأبناك المغربية بتكييف منتجاتها ومساطرها لتلبية احتياجات المستثمرين من الجالية، من خلال تقديم أسعار تفضيلية وحلول تمويل مناسبة ومواكبة خاصة.

ومع ذلك، يظل الأثر الإجمالي لهذه المجهودات دون المستوى المنشود. فجزء كبير من مدخرات وكفاءات الجالية لا يزال غير مُفعَّل بالشكل الكافي، كما أن المشاريع الاستثمارية تبقى متمركزة في مناطق حضرية محدودة. وحتى تُصبح هذه التعبئة رافعة فعلية للتحول الترابي والعدالة الاجتماعية، ينبغي تعزيز الآليات الحالية، وضمان شفافيتها، وتقييم فعاليتها، مع إشراك الجهات الأصلية في استراتيجية استقطاب استثمارات الجالية.
إن إدماج الجالية المغربية في ورش العدالة الاجتماعية والترابية لم يعد خيارا ثانويا، بل أصبح رهانا سياديا وشرطا لنجاعة السياسات العمومية ولمتانة اللحمة الوطنية. إنه ليس مجرد طموح نظري، بل اختيار استراتيجي ينبغي ترسيخه على المدى البعيد، من خلال أدوات مؤسساتية قوية، ومؤشرات واضحة لتتبع الأثر، وعلاقة ثقة متجددة بين الدولة، والمجال الترابي، وهذه الفئة المجتمعية النشيطة، المتنوعة، والمرتبطة بعمق بوطنها الأم.

المصدر: العمق المغربي

شاركها.