في حضرة الذكرى السادسة والعشرين لتربع جلالة الملك محمد السادس نصره الله على عرش أسلافه المنعمين، يتخذ الخطاب الملكي بُعدًا يتجاوز مقتضيات السياسة الظرفية، لينتصب شاهدًا على تلاحم الشرعية التاريخية بالمشروعية القيمية، ويرسم معالم مشروعٍ حضاريٍّ متجدد، تستبطنه الإرادة الملكية الرصينة، وينبني على مرتكزات الكرامة الإنسانية، والوحدة الوطنية، والعدالة المجالية.

ذلك أن الخطاب السامي، في جوهره، ليس مجرّد إعلان لتوجّهات الدولة أو استقراء لمسارات الاقتصاد، بل هو تجلٍّ راقٍ لمفهوم القيادة الرشيدة، التي تجعل من القيم مرجعيةً عليا في ممارسة السلطة، ومن الأخلاق إطارًا ناظمًا للعلاقة بين المواطن والدولة، كما بين الوطن ومحيطه. وقد جاء هذا الخطاب، في ثناياه الهادئة ونبرته السيادية الواثقة، ترجمةً صادقةً لمُثُلٍ رفيعة تتجاوز البراغماتية التقنية، وتؤسّس لعقيدة دولة تؤمن بأن التنمية الحقة لا تستقيم من غير عدالة مجالية، وأن حسن الجوار لا يُبنى إلا على يدٍ ممدودة، وضميرٍ مشترك، وتاريخٍ لا يُنكر ذاكرته.

وإنّ من أبرز ما تميّز به خطاب العرش لهذه السنة، أنه أعاد التأكيد، بلسان سيادي حكيم، على مركزية العدالة المجالية في مشروع التنمية، باعتبارها شرطًا لكرامة المواطن، ومرآةً لعدالة السياسات العمومية، ودعامةً أساسية لتماسك الوطن في امتداداته الجغرافية والبشرية. فقد بيّن جلالة الملك، نصره الله، بوضوح لا غبش فيه، أن بناء مغربٍ متوازن لا يمرّ فقط عبر مؤشرات الاقتصاد، بل يستوجب تمكين الجهات والأقاليم من نصيبها العادل في الاستثمار، والبنية، والخدمات، في إطار تنمية منصفة، لا تترك أحدًا خلف الركب.

كما حمل الخطاب الملكي في طياته إشارة قوية تتعلق بـ”اليد الممدودة”، تلك العبارة التي لم تعد مجرد بلاغة سياسية، بل أصبحت نهجًا قائمًا، وسلوكًا سياديًّا ساميًا، وعنواناً لسموّ الأخلاق الملكية، وثبات المغرب على خياره الاستراتيجي في مدّ الجسور.

وهكذا، فإن خطاب العرش خطاب دولة ذات رسالة، تؤمن بعلوّ القيم على الحسابات الضيّقة، وتؤسس لمستقبلٍ تتآلف فيه الشرعية الملكية مع تطلعات المواطنين، وتُتوَّج فيه السيادة بالحكمة، وتُزكّى فيه القيادة بالمسؤولية الأخلاقية.

إنه خطاب يُعيد رسم صورة المغرب كما يريده ملكه: مغربٌ ينهض بهويته المتجذرة، وينفتح على المستقبل دون تفريط في ثوابته، مغربٌ يجعل من الإنسان محور التنمية لا رقمًا في معادلة إحصائية، مغربٌ يُحارب الفقر والتهميش لا بالشعارات، بل بالرؤية، والحكامة، والاستثمار في الإنسان.

ولئن كان بعض من يقرأ الخطاب قراءة سطحية قد يختزل مضامينه في رسائل دبلوماسية أو سياسات قطاعية، فإن من يتدبر عمقه القيمي يدرك أن جلالة الملك، دام له النصر والتمكين، لا يخاطب شعبه بوصفه جمهورًا متلقّيًا، بل بوصفه شريكًا في البناء، وسندًا في القرار، وحارسًا لمعنى الوطن في زمن التشتت والانقسام.

وإني إذ أتناول هذا المقام السامي بالكتابة، فلا أفعل ذلك من موقع التحليل المجرد، بل من عمق الولاء الصادق، وتمام الانتماء، وشرف الاعتزاز بهوية ملكية ضاربة في الجذور، موصولة بالعهد، ممتدّة في وجدان هذا الشعب، الذي لا يزيده خطاب العرش إلا يقينًا بأن له قائدًا راسخًا في الحكمة، ثابتًا على المبادئ، وفيًّا لقيم الرشد والعدل والمصلحة العليا.

وإنه لوسام شرفٍ لي، كمواطن مغربي، أن أُصغي لهذا الخطاب بوعي المحبة، وأقرأه بعين الانتماء، وأكتبه بقلمٍ مؤمن أن المغرب، في ظل ملكه، وطن لا يُدار إلا بما تُمليه القيم، ولا يُبنى إلا بما ترسمه الأيادي الممدودة من معاني الصفح، والعدل، والارتقاء.

فليكن هذا العيد الوطني، إذن، موعدًا لمراجعة الذات الجمعيّة، وتجديد العهد على أن نكون في مستوى ثقة قائدنا، أوفياء لمسؤولياتنا، منخرطين في دينامية التنمية كما رسم معالمها جلالة الملك محمد السادس، نصره الله، برجاحة عقله، ونبل مقصده، ونفاذ بصيرته.

وكل عام وعرش المملكة شامخٌ بأخلاق ملوكه، عزيزٌ بشعبه، راسخٌ بثوابته، ومتجددٌ برؤية ملكه، حارس القيم، وراعي الأمان

المصدر: العمق المغربي

شاركها.