عادت المقاربة الأمنية البحتة لملف الهجرة لتطفو على السطح في إسبانيا، حيث طالب اتحاد الشرطة “جوبول” (JUPOL) حكومة بيدرو سانشيز بالتوقيع العاجل على اتفاقيات إعادة قبول المهاجرين مع المغرب والجزائر وموريتانيا والسنغال.
ودعا الاتحاد إلى أن يكون هذا الإجراء مماثلا للنموذج الذي اتبعته إسبانيا مع فرنسا منذ عام 2003، بهدف معلن هو “الحد من عصابات المافيا، وحماية الأرواح، وضمان الأمن على حدودنا”.
وفي بيان له، أشار الاتحاد المهني إلى أن هذه الاتفاقيات من شأنها أن “تُنهي شبكات الهجرة غير الشرعية، وتمنع تأثير الجذب الذي يُشجع على السفر السري في ظروف قاسية، وتُعزز الأمن الوطني من خلال ضبط فعال لتدفقات الهجرة”.
وأوضحت النقابة أن الاتفاقية مع فرنسا تنص على أن أي شخص يدخل إليها بشكل غير قانوني ويُثبت أو يُفترض وصوله إلى الاتحاد الأوروبي عبر إسبانيا يُعاد تلقائيا إلى إسبانيا.
وتحت هذه المظلة، أبرز “جوبول” أنه ينبغي تطبيق هذا المبدأ نفسه على المغرب والجزائر وموريتانيا والسنغال، حيث “يُعاد قبول أي شخص يصل إلى إسبانيا بشكل غير قانوني، سواء كان مواطنا من هذه الدول أم من دولة ثالثة عبرها، في أراضيها دون تأخير أو إجراءات غير ضرورية”. وخلص الاتحاد إلى أن هذا الإجراء “سينقذ الأرواح ويضع حدا للمافيا”.
لكن على مستوى الشكل ومن الناحية النقابية البحتة، فإنه لا يفترض أن تطالب شرطة “جوبول” بالتوقيع على سياسات ترحيل؛ بل تحسين شروط عمل أفراد الشرطة وضمان احترام القوانين. وإذا كان منظورهم الأمني يرى أن هذه الاتفاقيات ستسهل عملهم وتقلل المخاطر، فإن هذا المطلب يتعارض مع التزامات إسبانيا والمغرب بموجب القانون الدولي، وقد يتصادم مع المعايير الحقوقية مثل مبادئ باريس واتفاقية حماية العمال المهاجرين؛ ما يجعل موقفهم محل انتقاد حقوقي وسياسي واسع.
ولفهم أعمق لأبعاد هذا المطلب وتأثيره المحتمل على أرض الواقع، يقدم خبراء متخصصون في قضايا الهجرة رؤيتهم للملف.
الشراكة المتكافئة
أوضح عبد الحميد جمور، الباحث المتخصص في الهجرة والتنمية جنوبجنوب، أن مثل هذه الاتفاقيات تواجه محددات قانونية وسياسية لا يمكن تجاوزها.
وقال جمور، ضمن تصريح لهسبريس، إن توقيع اتفاقيات إعادة القبول بين إسبانيا وكلٍّ من المغرب والجزائر وموريتانيا والسنغال ليس أمرا مستحيلا من الناحية الواقعية؛ غير أنه يظل مرتبطا بإطار التعاون الثنائي ومتعدد الأطراف، وباحترام السيادة الوطنية والالتزامات الدولية.
ووضح الباحث المتخصص في الهجرة والتنمية جنوب ـ جنوب أنه بالنسبة للمغرب، فإن التعاون في قضايا الهجرة يقوم أساسا على مبدأ الشراكة المتكافئة والمسؤولية المشتركة، كما هو منصوص عليه في الاتفاقيات الثنائية ومع الاتحاد الأوروبي، وليس على أساس المقاربة الأمنية البحتة.
وأضاف المتحدث عينه أن أي اتفاق جديد ينبغي أن ينسجم مع الاتفاقية الدولية لحماية حقوق جميع العمال المهاجرين وأفراد أسرهم، التي صادق عليها المغرب والتي تحظر الطرد الجماعي وتضمن المعاملة الإنسانية واحترام المساطر القانونية.
ولفت جمور إلى أن المغرب يؤكد دائما أن معالجة الهجرة غير النظامية يجب أن تتم في إطار رؤية شمولية تشمل الأمن والتنمية وإتاحة مسارات للهجرة النظامية، بدل الاقتصار على منطق الإعادة والترحيل.
تأثير على الهجرة
وعن تأثير مثل هذه الاتفاقيات على موضوع الهجرة، أبرز جمور أنها قد تسهم في الحد من نشاط شبكات الاتجار بالبشر وحماية الأرواح في البحر، شريطة أن يتم ذلك في إطار تعاون يحترم الحقوق في منظورها الشمولي.
وأكد الخبير المتخصص سالف الذكر أن التعاون الأمني يمكن أن يكون فعّالا إذا رافقته برامج للتنمية ودعم المجتمعات المحلية في بلدان المصدر والعبور.
أما على المستوى الإنساني والحقوقي، فشدد المتحدث عينه على أن أي إجراء يفتقر للضمانات القانونية ويتجاهل حالات اللجوء والحماية الدولية سيكون مرفوضا من منظور القانون الدولي، وكذلك من الموقف المغربي؛ إذ يولي المغرب أهمية قصوى لاحترام حقوق المهاجرين، سواء كانوا نظاميين أم في وضعية غير نظامية، انسجاما مع التزاماته الدولية ومبادئه الوطنية في هذا المجال.
وعلى المستوى السياسي والدبلوماسي، وضّح جمور أن المغرب منفتح على تعزيز التعاون مع إسبانيا في قضايا الهجرة؛ لكن ينبغي ألا يتم ذلك في إطار مقاربة أحادية أو تحت ضغط سياسي؛ فنجاح أي اتفاق يتطلب أن يقوم على المصالح المتبادلة، وأن يأخذ بعين الاعتبار التنمية المشتركة، والحوار المستمر، واحترام التزامات الطرفين.
وعلى المدى البعيد، أشار إلى أن التجارب الدولية تظهر أن المعالجة المستدامة للهجرة لا تتحقق بالمقاربة الأمنية وحدها؛ بل بتبني حلول متكاملة تجمع بين الأمن والتنمية وتوفير بدائل قانونية للهجرة ومكافحة الأسباب الجذرية التي تدفع إليها.
التجربة السابقة
قدم حسن بنطالب، الباحث المتخصص في قضايا الهجرة واللجوء، قراءة معمّقة للواقع العملي للاتفاقيات المبرمة بين المغرب وإسبانيا، مبرزا أن الأمر أكثر تعقيدا مما طرحته النقابة الإسبانية.
وقال بنطالب، في تصريح لهسبريس، إنه “توجد، بالفعل، اتفاقية لإعادة قبول المهاجرين بين المغرب وإسبانيا تعود إلى سنة 1991. وتنص هذه الاتفاقية، في معظم الأحيان، على إعادة قبول المهاجرين الحاملين للجنسية المغربية؛ غير أن السنوات الأخيرة شهدت تطورا في التطبيق، إذ ظهر ما يُعرف بـ”الإعادة الفورية”، والتي تعني ترحيل أي شخص يتم ضبطه مباشرة بعد دخوله الأراضي الإسبانية إلى المغرب، حتى وإن لم يكن مغربيا”.
وأضاف الباحث المتخصص في قضايا الهجرة واللجوء: “هذا الإجراء أثار جدلا قانونيا واجتماعيا واسعا. وأستحضر هنا حالة تعود إلى سنة 2016، حين تم ترحيل مواطن مالي في هذا الإطار، فرفع دعوى قضائية ضد السلطات الإسبانية وجاء الحكم لصالحه، معتبرا أن الترحيل الفوري انتهاك لحقوق الإنسان؛ لأنه حُرم من فرصة تقديم طلب اللجوء، وهو حق يفرض على الدول الاستماع إلى طالب اللجوء قبل اتخاذ أي إجراء”.
وتابع المتحدث عينه: “بعد الأزمة الدبلوماسية بين المغرب وإسبانيا، تعزز التعاون بين الجانبين بشكل ملحوظ؛ وهو ما انعكس في انخفاض كبير لعدد المهاجرين غير النظاميين المتجهين نحو إسبانيا بفضل الجهود التي يبذلها المغرب. كما أن المغرب لم يسبق أن رفض إعادة قبول مهاجرين قادمين من إسبانيا، بخلاف ما حدث مع فرنسا التي يربطه بها اتفاق مماثل؛ لكن المغرب فرض شروطا لقبول المرحلين منها”.
وشدّد بنطالب على أن “فكرة أن المغرب يقوم بدور ‘دركي أوروبا’ هي قراءة مغلوطة لسياساته في مجال الهجرة، فالمغرب يفرض رؤيته ولا ينفذ كل ما يُطلب منه. كما أنه يرفض الضغوط الأوروبية لعقد اتفاقية إطارية مباشرة مع الاتحاد الأوروبي بشأن إعادة القبول، رغم الإغراءات المالية ومحاولات الضغط”.
وختم الباحث المتخصص في قضايا الهجرة واللجوء بالقول: “جميع هذه الاتفاقيات تندرج ضمن منطق التشديد والمراقبة المكثفة، لكنها لن توقف الهجرة غير النظامية. فطالما استمرت أسبابها الجذرية، والمتمثلة في الفجوة التنموية بين دول الجنوب والشمال، ستظل هذه الظاهرة قائمة. إغلاق طريق لا يعني نهاية الهجرة؛ بل سيبحث المهاجرون عن مسارات بديلة، وكل إجراء أمني سيجدون له منفذا آخر”.
المصدر: هسبريس