في الدول التي تغيب فيها المحاسبة، يتحول الخطأ من استثناء إلى قاعدة، وتصبح المسؤولية مجرد لقب إداري لا يرتبط بأي تبعات قانونية أو أخلاقية.وهذا الغياب لا يُنتج فقط فسادًا إداريًا، بل يُعيد تشكيل بنية الدولة على أسس غير عادلة، ويُفضي إلى سلسلة من الأزمات المتشابكة التي تمس كل قطاع، وتنعكس على الداخل والخارج، وتُهدد حقوق الإنسان في جوهرها.
1في القطاع السياسي
تبدأ الأزمة من القطاع السياسي، حيث يُفترض أن يكون المسؤول السياسي خاضعًا للمساءلة الشعبية والمؤسساتية. لكن حين تُرفع الحصانة عن الخطأ، يُصبح المنصب السياسي أداة للنفوذ لا وسيلة للخدمة العامة. فتتآكل شرعية النظام، ويشعر المواطن بأن صوته لا قيمة له، وأن الانتخابات مجرد واجهة شكلية. هذا الشعور يُفضي إلى عزوف سياسي، وتنامي اللامبالاة، وصعود تيارات شعبوية أو متطرفة، تُغذيها مشاعر الظلم والغبن.
2 في القطاع الإداري
يُنتج غياب المحاسبة حالة من التسيب، حيث تُدار المؤسسات بمنطق الولاء لا الكفاءة. وتُمنح المناصب لمن يرضى عنه أصحاب القرار، لا لمن يملك المؤهلات. وتُهدر الموارد في مشاريع فاشلة، وتُبرم صفقات مشبوهة، ويُهمّش أصحاب الخبرة. وهذا يُفضي إلى ضعف الأداء العام، وتراجع الخدمات، وتفاقم البيروقراطية، مما يُعمّق الفجوة بين المواطن والدولة.
3 في القطاع الاجتماعي
يؤدي غياب المحاسبة هنا إلى احتقان متزايد. حيث يشعر المواطنون بأن القانون لا يُطبق إلا على الفقراء، وأن المسؤولين محصنون ضد المساءلة. مما يُولّد شعورًا بالغبن، ويُضعف الثقة في المؤسسات، ويُفكك العقد الاجتماعي الذي يُفترض أن يربط المواطن بالدولة. فتنتشر ثقافة الريع، ويُكافأ الانتماء السياسي بدل الإنجاز، وتُهمّش الفئات غير المرتبطة بمراكز النفوذ.
4 وفي المجال الاقتصادي
يُعد غياب المحاسبة كارثة حقيقية. إذ يُهدر المال العام دون رقيب، وتُفقد الثقة في بيئة الأعمال، ويهرب المستثمرون، وتزداد البطالة، ويتراجع النمو.وتمسي الدولة رهينة للديون، وتُفقد قدرتها على التخطيط الاستراتيجي. كما أن الفساد المالي يُصبح جزءًا من المنظومة، ويُكرّس التفاوت الطبقي، ويُضعف العدالة في توزيع الثروة.
5 وفي القطاع الثقافي
يُفضي غياب المحاسبة إلى تسييس المؤسسات الثقافية، وقمع حرية التعبير، وتزييف الوعي.حيث يُهمّش المثقفون المستقلون، ويُستبدل الإبداع بالتطبيل، ويُستخدم الإعلام لتبرير الفشل بدل كشفه. هذا يُضعف الهوية الوطنية، ويُشوّه الذاكرة الجماعية، ويُفقد المجتمع أدوات النقد والتجديد.
6 وفي المجال التعليمي
فإن غياب المحاسبة يُنتج تعليمًا هشًا، تُدار فيه المؤسسات بمنطق المحسوبية، وتُهمّش الكفاءات، وتُفقد المناهج صلتها بالواقع. وينتشر الغش، ويُحبط الطلبة والمعلمون، وتُهاجر الكفاءات العلمية، ويُصبح التعليم عبئًا لا رافعة. وهذا يُضعف قدرة الدولة على إنتاج المعرفة، ويُفقدها أدوات التنمية المستدامة.
7 وفي القطاع الديني
يؤدي غياب المحاسبة إلى تسييس الخطاب الديني، وغياب الرقابة على المؤسسات الدينية، مما يُفضي إلى التطرف أو التواطؤ. فتُستخدم المنابر لخدمة أجندات سياسية، ويُفقد المواطن الثقة في المرجعيات الدينية، ويُصبح الدين أداة للنفوذ لا وسيلة للهداية. هذا يُهدد التماسك الروحي والأخلاقي للمجتمع، ويُضعف مناعته القيمية.
8 أما على المستوى الخارجي
فإن الدولة التي لا تُحاسب مسؤوليها تُفقد مصداقيتها، وتُصنّف في مؤشرات الشفافية والحكم الرشيد في مراتب متدنية. تُضعف علاقاتها الدبلوماسية، ويعزف المستثمرون الدوليون عن التعامل معها، وتُصبح صورتها مشوهة في الإعلام العالمي، مما يُهدد مصالحها الاستراتيجية، ويُضعف قدرتها على التأثير.
9 وفيما يتعلق بحقوق الإنسان
إن غياب المحاسبة يُعد انتهاكًا صارخًا لهذه الحقوق. يُرتكب الخطأ دون مساءلة، ويُصبح التمييز في تطبيق القانون أمرًا مألوفًا، وتُقمع الحريات العامة، ويُغيب الإنصاف في القضاء، ويشعر المواطن بأن كرامته مُهددة، وأن العدالة انتقائية. بحيث تُصبح الدولة أداة للهيمنة لا للحماية، ويُفقد المواطن شعوره بالأمان القانوني.
إن الدول التي لا تُحاسب مسؤوليها تُحوّل الخطأ إلى نمط مؤسسي، والفساد إلى ثقافة، والظلم إلى نظام. وهي بذلك تُهدد وجودها، وتُضعف مناعتها، وتُعرّض نفسها للتفكك والانهيار. فالمحاسبة ليست انتقامًا، بل ضمانة للعدالة، وأداة للإصلاح، وشرط للتنمية. ولا يمكن بناء دولة قوية دون مؤسسات تُحاسب، وقضاء مستقل، ومجتمع مدني فاعل، وإعلام حر، وتعليم يُرسّخ ثقافة المواطنة والمساءلة.
إن الإصلاح الحقيقي يبدأ من تفعيل المحاسبة، وربط المسؤولية بالجزاء، وتعزيز الشفافية، وحماية المبلغين عن الفساد، وتمكين المواطن من الرقابة. فالديمقراطية لا تُبنى بالشعارات، بل بالمحاسبة. والتنمية لا تتحقق بالخطط، بل بالمساءلة. والاستقرار لا يُصان بالقمع، بل بالعدالة.
وعليه ؛فإن الدولة التي تُحاسب مسؤوليها تُرسّخ الثقة، وتُعزز الشرعية، وتُحقق التنمية، وتُصون الحقوق، وتُحسّن صورتها، وتُبني مستقبلًا أفضل. أما الدولة التي تُفلت من المحاسبة، فإنها تُغامر بكل شيء، وتُراكم الأزمات، وتُهدد وجودها. فالمحاسبة ليست خيارًا، بل ضرورة وجودية.
المصدر: هسبريس