يتبدّى الخريف في حناجر السياسيين.. وتبدأ عقدة اللسان بالانحلال كما تنحلّ الأخلاق في موسم الاصطفاف.. يصبح الصمت ترفًا، ويغدو الكلام سلعة موسمية.. فجأة، يعارض الجميع الحكومة.. لا لأنهم اكتشفوا فجأة خيباتها، بل لأنهم أيقنوا أن موسم الحصاد الانتخابي قد حلّ.. تغير الخطاب.. لأن السياق تغيّر.. لأن الزمن الانتخابي يضغط كما تضغط الذاكرة حين تحاول تبرئة الماضي من أكاذيبه..

آه أيها الكرسي الوثير.. كم أنت جميل حين تبتعد عني، وكم أنا ضعيف حين أراك..
كيف أعود إليك وأنا لا أحتمل فكرة الفقد؟
سأرتدي ثوب المعارضة.. سأهاجم الموازنة، وأفتح دفاتر المال المهرب.. سأطلق الأغلبية طلاقًا سياسياً لا رجعة فيه، لكنه طلاق اتفاقي بلا دموع.. المهم أن أعود.. بأي باب كان..

سأطحن اللغة كما تُطحن الحبوب في رحى البلاغة..
سأجعلها تنحني لإرادتي..
سأستعير من القواميس كل ما يمنحني حق تحويل الفهم إلى سوء فهم..
ففي النهاية، الخطابة هي فنّ الالتفاف لا المواجهة..

اقتربت الانتخابات..
والأغلبية لم تعد سفينة نجاة، بل قاربًا مثقوبًا يطفو بالكلمات..
سنقفز معًا.. بالكلام.. بالاستعارة.. بالتصفيق.. سنرفع الأيدي كما تعوّدنا..
فقط سنغيّر الشعر..
سنستعير من أمل دنقل صرخته: لا تصالح..
حتى لو طردونا من الجنة أو من البرلمان..

مشهد سياسي حزين..
تتحول فيه السياسة إلى سوق نخاسة..
تُباع فيه المواقف، وتُشترى فيه الضمائر..
لا أحد يتصارع من أجل الوطن.. بل من أجل كرسيّ يقيه العدم..

أربع سنوات مرّت..
سقطت فيها الكلمات كما تسقط الأمطار على أرضٍ لا تنبت إلا اللامبالاة..
الحكومة والبرلمان توأمان سياميان، لا يفصل بينهما إلا تصفيقٌ موسمي..
نصفق للوزير لأنه من حزبنا، لا لأنه صادق..
نصفق لرئيس الحكومة وكأننا في عرس لا في مؤسسة دستورية..
كم من مرة شعرت أن البرلمان ملعب كرة لا معبد وطن..

الآن.. البكاء لا يجدي..
ولا الصراخ..
ففي الصيف ضاع اللبن..
ومن يصرخون اليوم، كانوا بالأمس أحبةً على سررٍ متكئين..
بضعة أشهرٍ فقط.. وسيسدل الستار على أسوأ مسرحية في تاريخ السياسة الحديثة..

الخطاب ليس صراخًا.. بل وعي..
والعربية، وإن كانت حمالة أوجه، تعرف تمامًا متى يُقال الكلام وأين يُخفى المعنى..
ننتقد لا لأننا نهوى المعارضة، بل لأننا نحلم بوطنٍ يُشبهنا..
لسنا نطلب مصلحة.. ولا نصفي حسابًا..
لكننا نحلم بسياسةٍ تعيد للوطن طهر المعنى..

رجاءً..
لا تجعلوا قرب الانتخابات ساحة للانتقام..
فالوطن لا يحتاج إلى زبائن سياسيين..
بل إلى مناضلين، يظلون واقفين حتى حين ينكسر الضوء..
الوطن يحتاج إلى من لا يغيّرون مواقفهم كما يغيّرون ربطات العنق..
الوطن يا سادة..
لا يريد منكم خطاباتكم، ولا وعودكم..
يريد فقط أن تحبّوه كما تحبّون مقاعدكم..
أن تقفوا له، لا عليه..
أن تصمتوا قليلاً حين تتكلم الأرض..
فالأوطان لا تموت بالرصاص.. تموت حين يختار أبناؤها الكرسي على حسابها..

 

المصدر: العمق المغربي

شاركها.