ما إن تندلع حرب أو معركة هنا أو هناك، حتى يشتعل الفضاء الرقمي بمنشورات ومقاطع تعبّر عن الغضب، أو السخرية، أو التضامن. ضجيج إنساني كثيف، لكنه لا يلبث أن يخفت سريعًا مع انحسار الحدث أو ظهور آخر جديد في مكان آخر، ليتحوّل النزاع من حدث إنساني إلى “ترند رقمي”.

فكيف نفهم هذا الانتقال الجماعي السريع من نزاع إلى آخر؟ ولماذا تبدو ذاكرة المنصات، ومن خلفها الجمهور، قصيرة إلى هذا الحد؟

يرى الخبير النفسي عادل الحسني، في حديثه لجريدة “”، أن “الانتقال الجماعي السريع من مأساة إلى أخرى عبر الفضاء الرقمي لا يعني خيانة للذاكرة، بل هو نتاج طبيعي لما يُعرف بـ’اقتصاد الانتباه’. ففي زمن الانفجار المعلوماتي، تصبح النفس البشرية غير قادرة على الاحتمال الطويل لشدة الألم، فتتفاعل بشدة، ثم تنسحب، وكأنها تطلب لحظة تنفّس”.

ومن زاوية علم النفس الاجتماعي، يصف الحسني هذا النمط بما يسميه “التحول العاطفي اللحظي”، وهو، حسب الخبير: “دفع سرعة الزمن الرقمي الجماعات نحو مأساة تلو أخرى. فالناس لا ينسون، لكنهم لا يملكون رفاهية البقاء طويلًا في ساحة الألم، بينما تفرض المنصات الرقمية وتيرتها التي لا ترحم، فتدفعنا بلا توقف نحو مأساة جديدة”.

ويوضح الحسني أن ما يُعرف بـ “الترند الإنساني” على مواقع التواصل، هو مزيج معقّد من التعاطف الحقيقي والحاجات النفسية الذاتية. فالتعاطف الرقمي، وإن كان صادقًا في جوهره، إلا أنه غالبًا ما يتشابك مع رغبة في الانتماء، والإفصاح عن الذات، بل وأحيانًا لتهدئة شعور بالعجز أمام قضايا كبرى.

ويضيف: “ما نراه يمكن تسميته بـ ‘تعاطف الواجهة’، حيث يظهر الناس بمظهر التعاطف النبيل، وفي الوقت ذاته، يسعون ولو بدون وعي إلى الظهور بصورة أخلاقية أمام الآخرين، وأمام أنفسهم. وهذه الازدواجية لا يمكن اعتبارها نفاقًا أخلاقيًا، بل تعبّر عن تركيبة معقّدة للذات الحديثة، التي تعيش في فضاء ‘ترندي متقلّب’.”

كما يشير الحسني إلى أن: “التراجع السريع في تفاعل الناس مع الكوارث المستمرة لا يعود إلى انعدام الشعور، بل إلى ما يُعرف نفسيًا بـ ‘متلازمة الإرهاق العاطفي الجماعي’. ففي ظل التعرّض اليومي المتكرّر لمشاهد العنف، والدمار، والتهجير، ومع غياب الأدوات الحقيقية للتأثير، يبدأ الجهاز النفسي بالدفاع عن نفسه من خلال آلية تُعرف بـ ‘التنميل الشعوري Emotional Numbing’، وهي نوع من إطفاء الحواس تدريجيًا، للحيلولة دون الانهيار النفسي الكامل. فالناس لا يتوقّفون عن الاهتمام، بل عن الإحساس بنفس الشدة، في محاولة لا واعية للنجاة الوجدانية”.

ويرى الخبير أن “وسائل التواصل الاجتماعي لا تراكم الذاكرة بقدر ما تعيد تشكيلها يوميًا، فآليات هذه المنصات تعتمد على الترندات والمحتويات الرائجة، لا على التوثيق والاستيعاب”، مضيفًا أن: “الفضاء الرقمي يدرب مستخدميه على ‘ذاكرة فورية’ تشبه ذاكرة الاستهلاك، حيث تمر بالمأساة، تتفاعل معها، ثم تنتقل إلى ما يليها. وهي، بالتالي، ذاكرة لا تحفظ التاريخ، بل تستهلكه وتستبدله، كما تفعل مع أي منتج رقمي”.

ويختم الحسني بالإشارة إلى أن “التفاعل مع الحروب بات شكلًا من أشكال ‘الانتماء الرقمي’. فالمأساة تحوّلت إلى بوابة للدخول إلى الفضاء العام، حيث يصبح التعاطف بمثابة إعلان عن موقف، وتموضع قيمي داخل جماعة معنوية تؤمن بقضية ما، وتعيد إنتاج سرديتها حول الأحداث”، مشيرًا إلى أن هذا الانتماء، رغم رمزيته، لا ينبغي الاستهانة به، فقد يكون أحيانًا الخطوة الأولى نحو التغيير الواقعي.

المصدر: العمق المغربي

شاركها.