اخبار المغرب

حواري الذي لم يكتمل مع الرئيس “أبو محمد الجولاني”

في إطار البحث الميداني الذي قمت به لمدة خمس سنوات لنيل شهادة الدكتوراه في الإعلام من جامعة كومبلوتنسي بمدريد بين سنتي 2019 و2024 حول موضوع “استراتيجيات الدعاية والاستقطاب عند الجماعات الجهادية وتأثيرها على الشباب المسلم”، أجريت ما يفوق من ثلاثين حوارا مع مسؤولين أمنيين وخبراء في الشأن الجهادي ومع جهاديين سابقين، منهم من حبس في المعتقلات الأمريكية دون محاكمة ومنهم قضى عقوبة السجن بتهمة الإرهاب في السجون العربية أو بتهمة السفر إلى سوريا من أجل القتال في صفوف جماعات جهادية ومنهم من لا يزال إلى يومنا هذا عالقا في أرض الشام أو في تركيا.

ومن خلال المعطيات الثمينة التي جمعتها، توصلت إلى استنتاج أو بالأحرى إلى تساؤل غاية في الخطورة والأهمية بالنسبة لمستقبل الآلاف من الشباب العربي الذين يحلمون بإسقاط الأنظمة التي يعتبرونها دكتاتورية مع تفاوت في درجات الاستبداد والتي قد تمتد من البطش والتنكيل والتقتيل الممنهج إلى الفساد ونهب الخيرات بطريقة ناعمة آلاف الشباب الذين يتوقون للتغيير ولكنهم اختاروا المسار الخطأ وفي التوقيت الخطأ… هذا التساؤل كان مركبا ومعقدا في آن واحد: هل يمكن للفكر الجهادي في العالم العربي أخصص هنا العالم العربي لتباينه الشديد مع الحالة الأفغانية والنموذج الطالباني أن يتحول إلى دينامية سياسية/عسكرية قادرة على قلب موازين القوة لصالح الشعوب أم أنه سيبقى سجين المنظومة الفكرية التي أسسها المفكر الثائر المصري سيد قطب ولن يستطيع التأقلم مع التغييرات التي شهدتها الدول العربية بعد نجاح الثورات المضادة للربيع العربي بدعم من الغرب الولايات المتحدة/إسرائيل وحلفاؤهما أو الشرق روسيا وإيران وحلفاؤهما.

وفي خضم هذا البحث وجدت أن هناك شخصية مفصلية تختزل هذه المعادلة على تعقيدها وارتأيت أن الأجوبة على كل هذه التساؤلات المركبة توجد عند قيادي جهادي بارز خبر العمل العسكري والسياسي، العلني منه والسري، وتدرج في صفوف كبريات الجماعات الجهادية بدءا من تنظيم قاعدة الجهاد في بلاد الرافضين وانتهاء عند هيئة تحرير الشام، مرورا بتنظيم داعش وجبهة النصرة… نعم إنه أبو محمد الجولاني أو أحمد الشرع، مهندس الثورة التي أسقطت أبشع نظام دكتاتوري عرفه العالم العربي الحديث.

وبعد أشهر من البحث والاستقصاء، تمكنت من التواصل عبر وسطاء أفاضل مع خلية الإعلام في جبهة تحرير الشام وعبرت لها عن رغبتي في إجراء حوار أكاديمي وصحفي مع أبو مجمد الجولاني. حوار أكاديمي أضمنه في بحث الدكتوراه وحوار صحفي ينشر في إحدى الجرائد الإسبانية.

وبعد جهود مضنية للوسطاء الأفاضل، اقتنعت خلية الإعلام في جبهة تحرير الشام بأهمية إجراء الحوار مع شرطين أساسيين… إجراء الحوار مباشرة مع الجولاني في مدينة إدلب بالشمال السوري الذي كان تحت سيطرة هيئة تحرير الشام مع ضمانات أمنية تركية ونشر الحوار الصحفي في واحدة من كبريات وسائل الإعلام الإسبانية. لم يكن لدي وقت لإضاعته وبدأت مباشرة إجراء الاتصالات هنا في إسبانيا مع زملاء لي في جريدة الكونفيدينسيال El Confidencial الإلكترونية وجريدة إلباييس Elpaís وهي من أكبر وأعرق الجرائد الإسبانية.

وبعد عدة اتصالات أجريتها نهاية شهر سبتمبر من سنة 2021 مع رئيسة التحرير الدولي في جريدة إلباييس، الصحافية لوسيا أبيان هينانديزLucia Abellán Hernández ، ولقاءات في مقر جريدة إلباييس مع الصحفي المكلف بالملفات الأمنية وقضايا الإرهاب أوسكار غوتيريث Óscar Gutiérrez ، عبرت عن رغبتها في إجراء حوار مصور ومكتوب مع أبو محمد الجولاني ونشره على صفحات ومنصات .

وبعد ما يقرب من شهر من الاتصالات والأخذ والرد اقترحت علي أن أسافر بمفردي إلى مدينة إدلب في الشمال السوري وأجري الحوار مع أبو محمد الجولاني كمتعاون مع . صحيح أنني عضو في جمعية الصحافة بمدريد وأحمل بطاقة الصحافة التي لا تعطيها فيديرالية جمعيات الصحفيين بإسبانيا إلا للمهنيين المحترفين ولكنني وجدت نفسي أمام معضلة حقيقية لأنني لا أشتغل ضمن طاقم جريدة إلباييس وهذا أمر قد يضعف موقفي وموقف خلية الإعلام التابعة لهيئة تحرير الشام. فقررت عدم السفر إلى سوريا.

جريدة إلباييس أضاعت على نفسها فرصة إجراء هذا الحوار لتكون أول جريدة أوروبية كبيرة تحاور الجولاني قبل أن يتمكن من إسقاط نظام الأسد بدعم مباشر من تركيا ومباركة مستترة من الولايات المتحدة الأمريكية والغرب. موقف جريدة إلباييس يعكس ضعف التقدير والاستشراف عند غالبية المراقبين والمحللين السياسيين في الإعلام الغربي إما لجهلهم بحقيقة الأمور وعدم قدرتهم على القيام بقراءة مستقبلية للأحداث وإما لالتزامهم وارتباطهم اللصيق بأجندات المؤسسات الإعلامية الغربية التي لا تختلف عن أجندات الحكومات الغربية. للأمانة العلمية قمت بنشر تفاصيل محاولة الحوار الذي لم يكتب له النجاح مع أبو محمد الجولاني ضمن صعوبات بحث الدكتوراه الذي حصلت عليه بميزة مشرف جدا مع التوصية بالنشر.

موقف المنتظم الدولي بين أبو محمد الجولاني وأحمد الشرع..

من خلال اطلاعي المستفيض على أدبيات وفكر كبريات الجماعات الجهادية ومن خلال تتبعي لمسار العديد من المنظرين والشرعيين والقادة الميدانيين لأبرز الفصائل والجماعات، شد انتباهي مسار أبو محمد الجولاني وكان عندي حدس كبير بأن الرجل سيكون له دور مفصلي في تغيير سوريا وربما سيكون له تأثير كبير في العالم العربي، بما يجسده من تحول استثنائي من العمل الجهادي إلى العمل السياسي وإدارة شؤون الدولة ومن هنا جاءت رغبتي في حواره واللقاء به.

فقد وُلد أبو محمد الجولاني الذي عاد لاستعمال اسمه الحقيقي أحمد الشرع عام 1981 في كنف والده حسين الشرع، المفكر والكاتب السوري، الذي كان يشتغل بالمملكة العربية السعودية آنذاك، وهو مناضل تأثر بأفكار القومية العربية وروح النضال والتحرر من الهيمنة الغربية على المنطقة العربية.

نشأ أحمد الشرع في بيئة عائلية مشبعة بالنقاشات السياسية حول الصراعات الفكرية والأيديولوجية بين مختلف التيارات والأحزاب في المنطقة العربية، مما ساهم في ترسيخ عقلية النضال عنده منذ الصغر، كما أثر تنقل أسرته الصغيرة بين سوريا ثم الأردن ثم العراق فالمملكة العربية السعودية في تكوين شخصيته. وفي سن المراهقة تأثر بالفكر السلفي المنتشر في المملكة العربية السعودية آنذاك.

التحق أحمد الشرع بكلية الإعلام في جامعة دمشق، حيث تعزز التزامه الديني والأخلاقي وازداد اهتمامه بقضايا تحرر الأمة العربية والإسلامية. وفي عام 2003 حدث الغزو الأمريكي للعراق، مما أثار حماسة الشاب السوري المتأثر بالفكر الثوري الجهادي، مما دفعه إلى التعاطف مع الجماعات السلفية التي كانت تعمل على تجنيد الشباب للقتال في العراق ضد الغزو الأمريكي.

وبعد الغزو الأمريكي للعراق، التحق أحمد الشرع بمقاتلين أجانب سافروا إلى العراق لقتال القوات الأمريكية المحتلة، واعتقل في عام 2005 داخل معسكر بوكا، حيث تعززت أيديولوجيته الجهادية وتوطدت علاقته مع أبو بكر البغدادي، الرجل الذي سيصبح لاحقًا زعيم داعش.

في هذا السياق، انتقل أحمد الشرع من مرحلة النضال الفكري إلى العمل الجهادي ليتقمص شخصية أبو محمد الجولاني، وانضم إلى صفوف تنظيم “قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين” تحت قيادة أبو مصعب الزرقاوي. وبعد مقتل الزرقاوي، عاد الجولاني ليستقر في لبنان عام 2006، حيث لعب دورًا لوجستيًا محدودا في دعم تنظيم “جند الشام”.

ومع اندلاع الأزمة السورية في 2011، أرسل أبو بكر البغدادي رفيق الجهاد الجولاني إلى سوريا لتأسيس جبهة النصرة، الفصيل الذي عمل في البداية بسرية وكان على صلة بتنظيم الدولة. وبحلول عام 2012، برزت جبهة النصرة كقوة قتالية مؤثرة في المشهد السوري، مع إبقاء علاقاتها مع تنظيم الدولة وتنظيم القاعدة طي الكتمان.

وفي عام 2013، أعلنت جبهة النصرة انتماءها العلني لتنظيم القاعدة، ما أدى إلى خلافات عميقة مع تنظيم الدولة الإسلامية. كانت خطوة الجولاني تهدف جزئيًا للحفاظ على قاعدة الدعم المحلي وتجنب نفور السوريين والفصائل المعارضة من وحشية تنظيم الدولة التي كانت السبب الرئيسي في ابتعاده عن تنظيم البغدادي.

وتفاقمت مسؤوليات الجولاني عام 2015، بعد أن سيطرت جبهة النصرة وفصائل أخرى على محافظة إدلب، مما دفعها إلى الدخول في تحالفات لإدارة المنطقة.

لكن أبو محمد الجولاني أدرك قبل عقد من الزمن أن بقاءه واستمرار مشروعه التحرري بسوريا رهين بانفصاله العضوي عن داعش والقاعدة وابتعاده عن الفكر الجهادي العالمي. وفي عام 2016، قطع الجولاني صلاته بتنظيم القاعدة، معلنًا تغيير اسم الجماعة إلى جبهة فتح الشام، التي تحولت لاحقًا إلى هيئة تحرير الشام في 2017.

في البداية، بدا هذا الانفصال سطحيًا، لكنه كشف عن خلافات استراتيجية أعمق بين التيارات الجهادية التي كانت تحارب نظام الأسد والاحتلال الإيراني/الروسي لسوريا. اتهم تنظيم القاعدة الجولاني بالخيانة والانتهازية، مما أدى إلى انشقاقات وظهور تنظيم “حراس الدين” الذي مثل فرعًا جديدًا للقاعدة في سوريا. لكن هيئة تحرير الشام تمكنت من القضاء على تنظيم “حراس الدين” بحلول عام 2020، على الرغم من بقاء بعض أعضائه في المنطقة بحذر.

علاوة على ذلك، شنت هيئة تحرير الشام حملات ضد خلايا داعش والمقاتلين الأجانب في إدلب، حيث فككت شبكاتهم وأدخلت بعضهم في برامج لإعادة التأهيل. وفضحت هذه التحركات استراتيجية الجولاني وسعيه الحثيث لإظهار هيئة تحرير الشام كقوة عسكرية/سياسية موحدة ومستقرة، تسعى لإسقاط نظام مستبد في سوريا وليس لديها أيه نية لعولمة الجهاد.

أبو محمد الجولاني، بدعم عسكري ولوجيستي وغطاء سياسي تركي ومباركة غربية غير معلنة، تمكن من تفكيك جل الجماعات والفصائل الجهادية “الخارجة عن القانون” أو ضمها إلى هيئة تحرير الشام قبل الزحف نحو العاصمة السورية دمشق وإسقاط أبشع نظام دكتاتوري عرفته المنطقة العربية، وذلك تفاديا لإعادة إنتاج التجربة الأفغانية وتناحر المجاهدين الأفغان لمدة سنوات مباشرة بعد تمكنهم من إنهاء الغزو السوفياتي لأفغانستان سنة 1989.

مسيرة أحمد الشرع وتحوله التدريجي من الفكر الجهادي العالمي إلى الفكر الجهادي الثوري ذي الصبغة الوطنية يشكل سابقة في تاريخ الجماعات الجهادية وتحولا استراتيجيا يضع المنتظم الدولي أمام تحديات كبيرة على المستوى القانوني والأمني والأخلاقي… ما هي شروط ومحددات تصنيف الجماعات الجهادية كمنظمات إرهابية؟ هل سيشكل اعتراف الغرب بأحمد الشرع كرئيس فعلي لسوريا قبولا ضمنيا بشرعية الحركات الثورية الجهادية ضد الأنظمة الدكتاتورية في العالم الإسلامي؟ وماذا سيكون مصير آلاف الشباب العربي الذين التحقوا بسوريا لقتال نظام بشار الأسد والذين يقبعون حاليا في السجون بعد الحكم عليهم بأحكام ثقيلة بتهمة الانتماء إلى جماعات إرهابية؟ هذه فقط بعض التساؤلات والتحديات التي نتجت عن تجربة أحمد الشرع الجهادية والسياسية وهي التجربة التي لا زالت قيد التمحيص والامتحان.

* محلل سياسي وباحث أكاديمي بجامعة كومبلوتنسي بمدريد

المصدر: العمق المغربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *