في الخطاب السياسي الغربي، تُقدَّم إسرائيل باستمرار بوصفها “الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط”، كأنها استثناء مضيء في محيط مُعتم.
غير أن هذا الادعاء، الذي تحوّل إلى شعار جاهز أكثر منه توصيفًا قابلًا للفحص، لا يصمد أمام قراءة متأنية لبنية النظام السياسي والقانوني الإسرائيلي.
فإسرائيل، في جوهرها، ليست ديمقراطية ناقصة أو مأزومة كما يُروَّج لها، بل كيان سياسي يقوم منذ تأسيسه على معيار إثني يجعل الانتماء القومي والديني أساسًا للحقوق، ويحوّل مبدأ المواطنة إلى مرتبة ثانية من الاعتراف المشروط.
هذا ما تشير إليه الباحثة الإسرائيلية الفرنسية نيتسان بيرلمان بيكر في تحليل نشرته “لوموند ديبلوماتيك”، حين تبيّن أن الصراع الداخلي في إسرائيل لا يجري بين معسكر ديمقراطي وآخر سلطوي، بل بين اتجاهين يتوافقان في الهدف ويختلفان في الوسيلة:
أحدهما يريد صيانة الهيمنة اليهودية عبر مؤسسات الدولة وقوانينها، والآخر يطالب بتكريسها بصيغة دينية وقومية أكثر وضوحًا.
أما الديمقراطية، فهي مجرّد لغة لتجميل الهيكل القائم، وضمان استمرار الامتياز داخل الجماعة اليهودية بمسميات ليبرالية لا تغيّر شيئًا من المضمون.
في ظل هذه البنية، لا يظهر الفلسطيني بوصفه مواطنًا، بل يُختزل إلى “معطى ديموغرافي” يجب السيطرة عليه، أو “خطر أمني” يجب احتواؤه.
القانون لا يعترف له بحقوق متساوية، والرواية التأسيسية لا تمنحه مكانًا في تعريف الدولة.
وحتى داخل الخط الأخضر، حيث يُفترض أن المواطنة مكتملة، يبقى الفلسطيني في موقع صاحب الحق المنقوص، المحكوم بمنظومة توازن بين الإقرار الشكلي بالمساواة وبين قيود بنيوية تحول دون تحققها.
أما في الضفة الغربية وغزة، فحديث الديمقراطية يبدو أشبه بالمفارقة.
كيف يمكن لكيان يُدير احتلالاً طويل الأمد، ويفرض حصارًا شاملًا، ويُمارس عقابًا جماعيًا، أن يُقدَّم كنموذج للحريات؟ وكيف يمكن لنظام سياسي يحكم ملايين البشر بلا حقوق سياسية أو مدنية أن يستمر في ادعاء الاستثناء؟
الأدهى أن القوى التي تحتج داخل إسرائيل ضد مشاريع الحكومة اليمينية لا تطرح هذا السؤال. فهي تعترض على تقويض استقلال المحكمة العليا، لكنها لا تراجع دور هذه المحكمة في شرعنة الاستيطان وتوفير الغطاء القانوني للتمييز.
تدعو إلى وقف إطلاق النار في غزة من أجل استعادة الأسرى، لا من أجل حماية المدنيين. وتدافع عن “الديمقراطية الإسرائيلية” من أجل صورتها في الخارج، لا من أجل قيم العدالة في الداخل.
إسرائيل، كما تتبدّى اليوم، ليست “الديمقراطية الوحيدة في المنطقة”، بل المشروع السياسي الوحيد الذي يعرّف نفسه على أساس تفوّق جماعة إثنية على أخرى.
مشروع يُقصي ملايين البشر من أي إطار سياسي، ثم يطلب من العالم أن يتعامل معه بوصفه نموذجًا ليبراليًا.
وما يُسمّى “المعارك الداخلية” لا يعيد النظر في بنية النظام، بل يعيد تنظيم أدوات السيطرة كي تبدو أكثر انضباطًا وأقل فجاجة.
المصدر: هسبريس
