حسم المغرب لنزاع الصحراء يحتاج “مجلسا ملكيا” ووزير الخارجية إرتكب أخطاء قاتلة
أكد الخبير في القانون الدولي وقضايا الهجرة ونزاع الصحراء صبري الحو، أن حسم النزاع حول الصحراء المغربية يتطلب إنتاج خبرة نوعية قادرة على التعامل مع الأبعاد السياسية والديبلوماسية المعقدة، منتقدا بشدة أداء وزير الشؤون الخارجية ناصر بوريطة، معتبرا أنه ارتكب “أخطاء قاتلة” في التعاطي مع هذا الملف الحساس.
ودعا الحو ضمن مقال رأي توصلت به جريدة “العمق”، إلى إعادة النظر في الاستراتيجية المعتمدة، مشيرا إلى أن الاعتماد المستمر على الحلول الأمنية والإدارية ليس كافيا، معتبرا أن هذا النهج يعد مبررا خاطئا ويفتقر إلى الفعالية، حيث إن تكاليفه تفوق بكثير تكاليف إنشاء مراكز للخبرة والتفكير.
وأبرز الحو أن ما يتم تداوله اليوم حول محاولات التأثير سلبا في ملف نزاع الصحراء لتجاوز مقترح الحكم الذاتي ليس مجرد مناورة جديدة، بل هو جزء من سيرورة التدافع لتعزيز بعض المراكز وإضعاف أخرى بغية تحقيق اختراق واستصدار تنازلات، مشددا على أن الوصول إلى حل نهائي يتطلب توازنا سياسيا معقدا، حيث يعتمد على قدرة الأطراف في تحقيق نقلة نوعية وذكية.
وأشار الحو إلى أن عدم اهتمام الفاعل الرسمي المغربي، بما في ذلك وزير الخارجية، بالتقارير الأممية التي توصي بتغيير المقاربة الحالية، يثير القلق، معتبرا أن التبريرات المقدمة لا تبرئ المغرب من الاتهامات بالتهرب من تقديم عرض شامل حول الحكم الذاتي، مما يُفسر على أنه نقص في الجدية.
وشدد الحو على أهمية مأسسة “الذكاء المغربي” داخل مجلس ملكي أو وكالة وطنية متخصصة في إنتاج الخبرة وتعزيزها، مؤكدا أن ذلك يُعد ضرورة ملحة لضمان فعالية الاستراتيجيات المستقبلية، معتبرا أن غياب هذه المؤسسات سيزيد من تعقيدات النزاع، مما يهدد مركز المغرب في المفاوضات الجارية.
وفي مايلي نص المقال كاملا*:
عندما كتبنا مقالنا السابق حول “متى الحسم؟” وأن الأمر يحتاج إلى فعل مادي قاسي وذكي! وأن على المغرب أن يحم£ل الأمم المتحدة المسؤولية وينطلق في تنفيذ مشروعه، فقد كنا نعي ونعرف ما نقول، ومطلعين على ما يدور في الكواليس، لكن لا حياة لمن تنادي.
وما يتم تداوله اليوم حول محاولات التأثير سلبًا في ملف نزاع الصحراء لتجاوز مقترح المغرب بالحكم الذاتي ليس مناورة جديدة، بل يدخل في سيرورة التدافع لتعزيز المراكز وإضعاف أخرى بغية تسجيل اختراق واستصدار تنازلات. وهي حركية وديناميكية طبيعية مادام الحل المراد ذو طبيعة سياسية.
والذي يشرف على الوصول إلى الحل هو جهة محكومة بلعبة الحفاظ على التوازنات السياسية في انتظار حصول التوافق، أو تمكن طرف من تحقيق نقلة نوعية وذكية تحسم وتنهي به الأمر. ويستوي في ذلك مصدر قوته وطريقة حسمه؟ ومن أين يستمدها؟ أهي ذاتية أم بفعل فاعل بما فيه تدخل المشرف لصالحه؟
وعلى العموم، فإن الريبة والشك الذي يحوم اليوم حول عمل وخلاصات وتوصيات الأمانة العامة للأمم المتحدة، بكل أجهزتها وأقسامها ومكاتبها، ظهر منذ تقريرها السابق حول الدراسة الدورية للحالة في الصحراء عن المدة ما بين أكتوبر 2022 وأكتوبر 2023، من خلال ما استهل به الفقرة الأولى من باب الملاحظات والتوصيات حول ضرورة تغيير المقاربة بسرعة.
والغريب بل إن الطامة الكبرى أن الفاعل الرسمي المغربي المؤهل للتعليق، والخبير والباحث المغربي الذي يحلل عادة حول الموضوع، لم يعيروا أي اهتمام لذلك التقرير رغم خطورته وخطورة ما كان يؤسس له، والتي بدأت ملامحها وطبيعتها تنجلي الآن.
فقد راح الأول (الفاعل الرسمي وبالتحديد وزير الخارجية) يحتفي وينوه بالتقرير والتقارير، رغم أنها تتضمن تسجيل رفضه الاستجابة لطلب المبعوث الشخصي لثلاث سنوات بتقديم عرض مفصل حول الحكم الذاتي بمبررات غير مقبولة تفيد التعنت وحسب.
وقد فُسِّرَ من طرف المبعوث الشخصي أن المغرب يتهرب ولا يملك مذكرة دفاعية معدة ومفصلة، وقد فُسِّرَ أيضًا أن المغرب عبر فقط عن مجرد النوايا، أو أن المغرب ليس جادًا! ولا تشفع لوزير الخارجية ما يتذرع به من أن الحكومة حديثة العهد (2022) وأن المغرب لا يمانع في بداية النقاش من مقترحات باقي الأطراف (2023) وأن المغرب منهمك على حشد التأييد الدولي للحكم الذاتي (2024) وأن العرض سيكون أثناء المناقشات المبرر الإعلامي الداخلي الحالي. ما دام جواب السيد الوزير واضح ولا يفيد سوى التهرب.
أما الباحثون والمحللون فقد دأبوا على التفسير والتأويل والتحليل للتقارير اعتمادًا على فقرات وضعت في سياق خاص تفقد معناها إذا قارناها بسابق التقارير وسابق القرارات. ومن ثم فإن مشكلتنا نحن المغاربة أننا نبدي أحكامًا خاصة وجاهزة على هوانا دون مرجعية معرفية، ونحلل دون تحمل عناء البحث عن المصدر وإجراء القراءة الموضوعية.
والسبب أننا نخاطب فقط ذواتنا ونحتقر القارئ والمتلقي. وفي أحسن الأحوال، إذا اطلعنا وقرأنا فإننا لا نقوم بمغازلة النصوص ومراودتها وقراءة ما بين السطور “الأليغوريا” أي العلاقة بين الدال والمدلول لاستجلاء ما يخفيه النص، لا شيء خارج النص كما قال جاك دريدا، والكشف عليه في ظرف قياسي، كي لا ينطلي علينا الأمر، ولغاية البناء والتأسيس عليه حماية للمصالح واستقرار المراكز وتطويرها.
وقد يكون ذلك ناتجًا عن ضعف في امتلاكنا ناصية مناهج التحليل أو لعدم تمكننا أصلًا من فهم واستيعاب جوهر موضوع التحليل وعدم ضبطه والإحاطة بكل جوانبه، ونتصرف فقط بحماس وردات فعل عاطفية، وهي الطامة الكبرى. وفي هذا يستوي الرسمي مع الباحث. ونسيء من حيث لا ندري للقضية، ويبقى دفاعنا وتواصلنا مع الغير غير منتج لأنه لا يحقق نتيجة.
وقد يكون هذا هو الخلفية من التدخل الملكي في خطابه الأخير بوضع وتحديد ضابطي الكفاءة والاختصاص للمرافعة في ملف الصحراء المغربية أثناء التواصل مع الآخرين بتلك الصفة وتلك المؤهلات. وهي دعوة صريحة لتنحي من لا يملك الأهلية للتواصل الفكري العلمي والمعرفي في الموضوع. فالمصلحة الفضلى للوطن تقتضي ذلك ولا يقوم أمامها أي شيء واعتبار شخصي آخر.
وبالرجوع إلى موضوع النصوص ذات علاقة بالنزاع في لوائح وقرارات الأمم المتحدة وغيرها، فإن الملاحظ أنها عادة تحتفظ بمعناها في عمقها وباطنها ولا تشير إليه مباشرة وبوضوح، بل تبديه عبر مراحل ومحطات حتى يتحول مكسبًا راسخًا ومحصنًا ومن قبيل تحصيل الحاصل، وتعنوَن بالتقدم المحرز.
ولأننا نحن كمغاربة، أو على الأقل جزء كبير منا، يكتفي بالقراءة اللفظية السطحية والمتسرعة دون تمعن ولا تأمل، فإننا لا نصل، وقد لا نفهم ما يتم التأسيس له بهدوء وتأنٍ مدروس ومضبوط ومرتب في اللغة ومحدد في عتباته المستقبلية، وفي كيفية عرضه وطرحه بالاعتماد على سوابق متتالية تشكل في النهاية تراكمًا لا يستطيع الأطراف فيما بعد نفيها أو تجاوزها. وكم من سابقة وتقدم تم تكوينه لصالحنا دون أن ننجح في الحفاظ عليه واستثماره للتغيير والحسم، لأننا لم نتفطن لصيرورة ووتيرة النكوص والتراجع عليه بدهاء ومكر اللغة كنا عليه غافلين. ويتضمن التقرير الحالي بوادر تؤسس لتراجع مستقبلي على المغرب أن يدركه سريعًا لمنعه ودرئه.
وكم من باحث متمكن وجريء استبق فهم هذه الأمور واستوعب السر وكشف عنه في وقته وحينه اعتمادًا على ملكاته وقدراته المنهجية في اعتماد المقاربة النسقية، وباستخدام آليات التفكيك والتأويل وإعادة البناء العلمية، واعتمادًا على خبرته وتمكنه من الملف؛ في تاريخه وتطوراته ومواقف الأطراف، واعتمادًا على تخصصه في علم السياسة والدراسات الاستراتيجية والقانونية. فوجد نفسه في عاصفة من النقد من بني جلدته ومن يفترض فيهم الفهم أكثر من غيرهم، هكذا يبدون! فقط لأن القراءة التي قام بها مخالفة لما ذهبوا إليه واستنبطوه، وبدت لهم غريبة وغير مطابقة.
أو فقط لأنهم لا يتحلون بالأمانة العلمية، ويتحفظون ويخافون على قول الحقيقة خشية غضب الفاعل الرسمي. أو لأن فهمهم لا يسعفهم لإدراك كنه الحقيقة المستترة. مع العلم أن الخبرة المغربية يتم جمعها من طرف الأمني والإداري من هذه القصاصات المتناثرة في الإعلام، وهي في مجملها شذرات لا تستجمع أركان قيام الخبرة العلمية. بيد أن هذا ولا ذاك لا يبرر ما جنحوا إليه، فالوطن ومصالحه أمانة والدفاع عنه رسالة، والوطن فوق كل اعتبار ولا يتأثر بأي حسابات.
وبعد حين قريب أو بعيد، يفاجؤون بنفس الأفكار ينطق بها الأجنبي، على غرار ما سربته وكالة رويترز حول قناعة دي ميستورا، المبعوث الشخصي للأمين العام، فاضطروا لتقبل السر دون أن يعمدوا إلى إجراء نقد ذاتي، بل ينطلقون في كيل السب والشتم وكأنه مرافعة علمية. والحال أن الحقيقة عندما تظهر للعيان وللعامة ومتاحة للجميع، فهي تعني أن السحر الخاص الذي صاغها صاحبها بادئ الأمر بطريقة مستترة انكشف. فيختفي دور الباحث لينتقل إلى البحث في طريقة لتجاوز الأزمة، وهو ما لا نقوم به، بل نقبع حبيسي المناكفات التي لا تحدي نفعًا.
أقول بكل أبجديات الوضوح والشفافية إن من أهداف وفوائد مناهج التحليل وقواعد الفهم والمعرفة العلمية هو اتقاء الأزمات وتجنبها “بالعربية تاعرابت” تجنب الاصطدام بالحائط، أما إذا تركنا لحالنا حتى نصطدم به، فلا فرق بين الباحث الاستراتيجي وعامة الناس في تحليلاتهم في المقاهي والأسواق. بين الأمس واليوم مسافة من الوقت، لو تم استغلاله من طرف الدبلوماسي لكنا أحسن وأفضل. نحن على بعد خطوات معدودة للحسم، إذا تأخرنا برهة من الوقت سنتيه مرة أخرى، ينقصنا تحول نوعي وذكي لكسب المعركة، ومن أجل هذا يحتاج المغرب ذكاء كفاءاته وخبرائه ومفكريه.
إن استمرار المغرب في الاعتماد فقط على الأمني والإداري، لأنه لا يكلفه، هو مبرر خاطئ وغير صحيح، وهو رعونة؛ لأن تكاليف الأول والثاني أضعاف بمرات ومرات من تكاليف مراكز الخبرة والتفكير. وإن استمرار المغرب في ذلك النهج يبطئ مسيرته أكثر، ويعطي الفرصة للخصوم للعودة في الملف. الأمني همه وشغله الشاغل، والمرتبط بطبيعة وظيفته هو بقاء الأمر على ما هو عليه، ويصعب عليه المبادرة. والإداري محكوم بالتعقيد والبطء الناتج عن البيروقراطية. ولا يمكنهما إنتاج الخبرة مهما راكَموا من تجربة ومهما اجتهدوا في جمعها عبر وسائل الإعلام؛ فلكل ميدان أبطاله.
ومن ثم، يبقى مأسسة الذكاء المغربي داخل مجلس ملكي أو وكالة وطنية لإنتاج الخبرة وتأطيرها ضرورة مستعجلة وملحة. هو وحده القادر على تحقيق النقلة النوعية القاسية والذكية من أجل نجاعة وفعالية لإنهاء الأمر لصالح المغرب. وفي غياب ذلك، فإن النزاع سينتقل من مربع لآخر، ويتيه تفوق مركزنا وفق ما يتم التأسيس له حاليا.
وقد أعذر من أنذر
* صبري الحو
خبير في القانون الدولي وقضايا الهجرة ونزاع الصحراء
محامي بمكناس
الرئيس العام لأكاديمية التفكير الاستراتيجي
المصدر: العمق المغربي