يشهد المغرب منذ عقود صراعا مستمرا بين السلطة التقليدية وطموحات الإصلاح السياسي، حيث يتجادب المشهد محاولات الحداثة والإصلاح ومقاومة المخزن للحفاظ على مركزه. في هذا السياق، برزت ظاهرة حداثيي المخزن، وهي نخبة من المثقفين والسياسيين والمسؤولين الذين يروجون للحداثة والديمقراطية، لكن في إطار يخدم مصالح المخزن ويحمي الهيكل السياسي التقليدي.
من هم حداثيو المخزن؟
حداثيو المخزن هم أفراد وأحزاب يحملون مؤهلات علمية وثقافية يمكن أن تكون كبيرة، ويظهرون في الفضاء العام كمدافعين عن الحقوق والحريات، وكقادة للتغيير الاجتماعي والسياسي. لكن دورهم الحقيقي يتجلى في تطويق الانتقال الديمقراطي وتحويل أي إصلاح جذري إلى مشروع شكلي، بحيث يتبنون الخطاب الحداثي المبني على الحريات الفردية والعامة، ومشاركة المجتمع المدني، والإصلاح الاقتصادي، لكنها حداثة خاضعة وتحت مراقبة النظام.
الحداثة الزائفة: إصلاحات شكلية تحمي الهيكل التقليدي للدولة
إن أبرز أساليب حداثيي المخزن هو تقديم إصلاحات سطحية تحت ستار الحداثة، مع الحفاظ على السلطة التقليدية للنظام القائم. بحيث على المستوى التشريعي يتم إصدار قوانين ومراسيم تعطي مظهرا ديمقراطيا، مثل تعزيز حقوق المرأة أو إصلاحات في الحريات الفردية، لكنها غالبا ما تكون رمزية ولا تؤثر على التوازن السياسي الفعلي. و على المستوى الإعلامي والثقافي، يتم دعم البرامج الثقافية والمبادرات المدنية التي تعزز صورة الدولة الحديثة، لكن مع توجيهها لتظل ضمن حدود مرسومة تحمي مصالح السلطة القائمة و هياكلها القديمة. بصيغة أخرى تكون على شكل مساحيق تجميل.
تطويق المعارضة المستقلة
يحاول هؤلاء العمل كـطبقة وسيطة بين السلطة والمجتمع المدني، وتتحكم في النقاش العمومي وتحدد نطاق النقد المقبول الذي يوجه ضد النظام، وذلك من خلال وسائل الإعلام الرسمية والخاصة، حيث يتم توجيه الرأي العام بما يخدم مصالح السلطة القائمة ويحد من تأثير الأصوات المستقلة. و يتم كذلك دمج المشاريع المدنية والثقافية التي يمكن أن تشكل ضغطا على الدولة ضمن برامج رسمية، بحيث تصبح جزءا من النظام بدل أن تكون قوة ضاغطة عليه.
تاريخ الظاهرة وأبعادها الاجتماعية
تعود جذور هذه الظاهرة إلى مرحلة ما بعد الاستقلال، حيث اعتمد المخزن على نخبة حديثة لامتصاص الضغوط الإصلاحية وضمان استقرار الدولة الوليدة. هذه الاستراتيجية استمرت على مر العقود، وتطورت مع تحولات المجتمع المغربي والعولمة.
في الستينيات والسبعينيات، كان دور حداثيي المخزن يتمثل في مناهضة التوجهات اليسارية المستقلة واحتواء حركة المثقفين الإصلاحيين.
في العقود الأخيرة، أصبح التركيز على الترويج للحداثة الاقتصادية والسياسية بشكل شكلي، مع الاحتفاظ بسلطة القرار في أيدي النخبة التقليدية.
نتائج التحالف المزدوج
أصبح الانتقال الديمقراطي المنشود بالمغرب معقدا ومتأخرا بسبب هؤلاء الحداثيين، حيث هناك ضعف الإصلاحات الحقيقية التي يمكن أن تغير التوازن السياسي القائم، ومحاولة تسويق المغرب كدولة ديمقراطية بينما في الواقع يظل محافظا على نفس الهياكل التقليدية. وهذا يؤدي الى إحباط المجتمع المدني بحيث يشعر الشباب والنخب المستقلة بالعجز أمام هذا التحالف بين السلطة والحداثة الزائفة، ما يؤدي إلى تراجع المشاركة السياسية الفعلية.
إن حداثيي المخزن ليسوا مجرد مثقفين أو خبراء إصلاح أو أحزاب (الاصالة والمعاصرة والاحرار خير مثال على ذلك)، بل أداة استراتيجية للحفاظ على الوضع القائم. وتحالفهم مع النظام القائم يجعل أي محاولة للتغيير السياسي مشروعا صعبا وبعيد المنال، يحتاج إلى مواجهة مزدوجة: مواجهة السلطة التقليدية، ومواجهة الحداثة الزائفة نفسها، أو بعبارة أخرى، يبقى الطريق نحو الديمقراطية الحقيقية محفوفا بالعقبات، ويظل حداثيو المخزن الحاجز الخفي الذي يبطئ الانتقال السياسي الحقيقي في المغرب.
المصدر: العمق المغربي