في ظل الاحتجاجات التي عرفتها مدن مغربية خلال الأيام الماضية، وبروز مظاهر عنف مرافقة لها في أوساط فئة عمرية شابة، يرى خبراء في علم النفس التربوي والسوسيولوجيا الرقمية، في تصريحات لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن هذا السلوك لا يمكن فصله عن تحولات أعمق تشهدها البنية النفسية والاجتماعية لهؤلاء الشباب، ولا عن أنماط التعبير الجديدة التي تبلورت داخل العالم الرقمي.

ويؤكد هؤلاء الخبراء أن ما يبدو مظهرا من مظاهر التمرّد أو التخريب، هو في العمق تعبير عن فقدان الثقة في الوسائط التقليدية للتعبير واستنفاد قنوات الإصغاء المؤسسية، مما يدفع جزءا من هذه الفئة إلى سلوك غير متوقع، في محاولة لفرض الانتباه وخلق الأثر وسط الضجيج العام.

التربية والانفلات

فاطمة الزهراء شالة، خبيرة في علم النفس التربوي، قالت إن لجوء بعض الشباب إلى العنف أو التخريب لا يعكس بالضرورة طبعا عدوانيا، بل يترجم في كثير من الأحيان شعورا متراكما بالإقصاء والتهميش. وأوضحت أن هذا السلوك قد يكون نتيجة لغياب التأطير النفسي والاجتماعي، مما يضعف قدرة هؤلاء الشباب على ضبط انفعالاتهم، خاصة في غياب قنوات للحوار والتعبير السلمي.

وأوضحت شالة، في تصريح لهسبريس، أن فهم بعض السلوكيات العنيفة لا يعني تبريرها، بل هو مدخل ضروري لمعالجة جذورها النفسية والاجتماعية. واعتبرت أن تعبير فئة من الشباب عن غضبها من خلال التخريب أو الشغب يجب ألّا يُؤخذ فقط كفعل إجرامي معزول، بل كسلوك ناتج عن تراكمات من الحرمان، واللاعدالة، والفراغ القيمي، مبرزة أن هذه الأفعال تظل غير مقبولة، لكن قراءتها علميا تتيح تقديم بدائل في التأطير والاستيعاب عوض الاقتصار على المقاربة الزجرية.

ودعت الخبيرة في علم النفس التربوي إلى مقاربة علمية نفسية لفهم السلوكيات التي واكبت بعض الاحتجاجات، بعيدا عن الأحكام الجاهزة أو التبسيط المُخلّ. وشدّدت على أن تحليل هذه السلوكيات لا ينبغي أن يتم بمعزل عن الخصوصيات النفسية للفئة العمرية المعنية، التي تمرّ بتحولات وجدانية ومعرفية تجعل ردود فعلها أكثر اندفاعا وتوترا.

وأضافت أن فهم هذه الانفعالات يستلزم استحضار العوامل اللاشعورية التي تتراكم داخل الفرد منذ سنوات الطفولة، مشيرة إلى أن التهميش الاجتماعي، وضعف الانتماء، وغياب الاعتراف، كلها مكونات تُسهم في تأزيم التوازن النفسي، ما قد ينعكس في لحظات الانفجار الجماعي بسلوكيات متطرفة وغير محسوبة.

الوعي الرقمي

منير الحلاج، باحث في السوسيولوجيا الرقمية، قال إن فهم السلوك الاحتجاجي الذي يتخذ أحيانا طابعا عنيفا لا يمكن أن ينفصل عن السياق الرقمي الذي تشكّل فيه وعي جيل اليوم. وأوضح أن هذا الجيل، الذي يعيش جزءا كبيرا من تفاعلاته داخل المنصات الاجتماعية، يتلقى المعلومات ويعيد إنتاجها في فضاء مشحون بالمضامين المختلطة بين ما هو واقعي وما هو مضلّل، ما يفضي إلى اختزال القضايا المركبة في مواقف حادة وردود فعل آنية.

وأشار الحلاج إلى أن هذا التفاعل الرقمي المكثف أنتج ما يمكن تسميته “الوعي الفوري”، الذي يغلب عليه الطابع الانفعالي، ويضعف فيه التحليل العميق للوقائع. وهو ما يجعل الاحتجاج، في بعض الأحيان، يتخذ طابعا غير مؤطر، ويتحول إلى تعبير غاضب وسريع الانفلات، خاصة حين تغيب قنوات التأطير المؤسساتي أو الحزبي القادرة على توجيه هذه الطاقات.

وأضاف منير الحلاج، في تصريح لهسبريس، أن ما نعيشه اليوم من تعبيرات احتجاجية في أوساط جيل اليوم، لا يمكن فصله عن تحولات عميقة مست السلوك الجماعي بفعل الرقمنة، معتبرا أن “جيل Z” بات يتلقى تمثلاته للعالم من خلال أنماط تواصل سريعة، اختزلت التفاعل في رموز، وساهمت في تقليص الصبر على الحلول المعقدة أو الآليات التقليدية للمطالبة.

وأوضح الحلاج أن هذا الجيل، المشبع بثقافة رقمية عابرة للحدود، يرفض الوساطة ويشكك في المؤسسات، ويميل أكثر إلى الفعل المباشر، حتى لو اتخذ أحيانا طابعا عنيفا أو فوضويا، لأنه يرى في ذلك وسيلة للضغط أو لفرض الاعتراف به في فضاء يعتبره غير عادل. وأضاف أن التحدي اليوم لا يكمن فقط في فهم هذه التعبيرات، بل في تطوير أدوات جديدة للإنصات الرقمي وإنتاج خطاب بديل قادر على تفكيك هذه المزاجات الرقمية، قبل أن تنفجر في الواقع.

وفي تفاعله مع سؤال هسبريس حول الحلول الممكنة لفهم سلوكيات الجيل الرقمي وإضاءتها بشكل علمي، اعتبر منير الحلاج أن المدخل الأساسي يكمن في بناء خطاب رقمي مؤسساتي موجه لهذه الفئة، يستعمل لغتها وأدواتها من دون وصاية أو تسفيه، مع تعزيز حضور الفاعلين التربويين والنفسيين داخل العوالم الرقمية.

وأكد الباحث في السوسيولوجيا الرقمية أن العالم الرقمي ليس مجرد وسيلة تواصل، بل أصبح مجالا لإنتاج الهوية، مما يستدعي استراتيجيات تواصلية جديدة قادرة على مرافقة هذا الجيل، عبر الإنصات، والمشاركة، وتقاسم المعنى، بدل الإملاء أو الزجر، مشددا على أن الحلول لا تأتي من المقاربة الأمنية وحدها، بل من إعادة بناء الثقة والتفاعل داخل المجال الرقمي ذاته.

المصدر: هسبريس

شاركها.