على مدى عقود من الزمن حملت الحركة الأمازيغية في المغرب، من خلال الأجيال المؤسسة، شعلة الدفاع عن هوية وثقافة ولغة “إيمازيغن”، وخاضت معارك نضالية تأسيسية انصبت على مطالب لغوية ودستورية لتثبيت الأمازيغية كعنصر جوهري في الهوية الوطنية، وهو ما تحقق بالفعل بعد إنشاء “إيركام” واعتماد حرف “تيفيناغ” رسميًا لكتابة الأمازيغية في 10 فبراير 2003، مرورًا بإقرارها لغة رسمية للبلاد في دستور 2011، ووصولًا إلى القرار الملكي إقرار رأس السنة الأمازيغية عطلة رسمية مؤدى عنها.
أما اليوم فالحركة تتشكل على إيقاع واقع جديد برز فيه جيل من الشباب الأمازيغي الذي ورث هذه المكتسبات، ويواجه تحديات الحياة اليومية من تشغيل وصحة وتعليم وخدمات، دون أن يتخلى عن هويته الثقافية التي يسعى إلى تحويلها إلى أداة للتمكين الاقتصادي والاجتماعي، ما يكشف عن إعادة تعريف للقضية الأمازيغية نفسها، التي تحولت من “قضية وجودية” إلى وسيلة للمطالبة بالحقوق الاقتصادية والتنموية، أي تفعيل المكاسب المُحققة في الحياة اليومية عبر مطالب أكثر براغماتية.
تصور بديل
عبد الله بوشطارت، عضو مجموعة الوفاء للبديل الأمازيغي، قال إن “الخطاب الأمازيغي اليوم استوعب جميع القضايا والمطالب التي تهم الشعب المغربي، الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والبيئية”، مضيفًا أن “الفاعل الأمازيغي اليوم لم يعد يطالب فقط بما هو لغوي أو ثقافي كما كان الأمر عند الجيل المؤسس الذي بدأ بالترافع عن التراث والفنون والتعدد الثقافي واللغوي، بقدر ما يقدم اليوم تصورًا سياسيًا بديلاً في إطار مشروع مجتمعي متكامل يستوعب المطالب الاجتماعية، كالتشغيل والحق في الصحة والحق في التعليم والتنمية والعدالة المجالية”.
وأوضح بوشطارت أنه “من الطبيعي جدًا أن يتطور الخطاب الأمازيغي، لأنه يتطور مع التحولات السياسية الكبرى التي يشهدها العالم حاليًا، ومع التحولات التي يعرفها المجتمع المغربي، فالحركة الأمازيغية اليوم تضم عددًا كبيرًا من الشباب والكوادر والطلبة والنخب القادمين من مختلف الأوساط الاجتماعية، الذين يعبرون عن هموم الشعب بمرجعية ثقافية وفكرية وسياسية تختلف عن المرجعيات الإيديولوجية الرائجة في المجتمع”.
وشدد الفاعل الأمازيغي ذاته، في تصريح لجريدة هسبريس الإلكترونية، على أن “متابعة ما يجري في العالم حاليًا من تحولات سياسية يؤكد صعود خطاب الهوية كرافعة سياسية وإيديولوجية بديلة، بعد موت وتراجع اليقينيات الإيديولوجية التي هيمنت على الخطاب السياسي العالمي بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، وكذلك بعد سقوط جدار برلين”.
وتابع المتحدث بأن “استيعاب الخطاب الأمازيغي المطالب السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وترافعه من أجل المزيد من الحريات والديمقراطية، ومواجهته اليقينيات الإيديولوجية التي تهدد التعدد الثقافي واللغوي والديني وحرية المعتقد وغيرها من الحقوق، وأيضًا مواجهة السلطوية وحكم رأس المال الذي يهيمن على الثروات ويحتكر الموارد، كل ذلك يعطي إجابات سياسية واقتصادية لضرورة المرحلة التي نعيشها على المستوى الوطني والخارجي”.
وخلص عضو مجموعة الوفاء للبديل الأمازيغي إلى أن “الخطاب الأمازيغي لابد أن يواكب هذا التحول حتى لا يبقى على الهامش، فمستقبل السياسة والديمقراطية بالمغرب رهين باستحضار الخطاب الأمازيغي والمرجعية الأمازيغية كقوة إيديولوجية وسياسية تساهم في التغيير”.
تطور صحي
اعتبر خميس بوتكمنت، ناشط حقوقي أمازيغي، أنه “من العادي جدًا، بل من الصحي، أن تطرأ تحولات في منظور ورؤية الأجيال الحالية الأمازيغية في ما يخص النضال وآلياته وإمكاناته مقارنة بالأجيال الأولى للحركة، وذلك راجع بالأساس إلى دينامية الفعل الأمازيغي وحركيته ومواكبته للسياقات الزمنية والسياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية، وهذا يندرج في إطار التراكم”.
وأضاف بوتكمنت: “الأجيال الأولى التي وضعت خارطة الطريق للنضال، انطلاقًا من الهوية ومحاولة كشف مجموعة من المغالطات التي كانت مرسخة في العقل الجمعي المغربي، وتربط الهوية بإيديولوجية القومية العربية، كانت توجه خطابها بالأساس إلى السلطة والنخب الحاكمة، وقد نجحت في تصحيح الكثير من المغالطات وتحطيم العديد من الطابوهات التي كانت مسيجة التداول والنقاش، وفرضت النظر إلى الأمازيغية كشرط وجودي أساسي، بعدما كان يُنظر إليها بشكل احتقاري ودوني، وخلصت الأمازيغية من حصرها في التراث والفلكلور لترتقي إلى ميكانيزم الذات ومحور الهوية الوطنية”.
وتابع المتحدث ذاته بأن “هذا التراكم واصلت الأجيال اللاحقة تطويره وتقويته، بمعالجة الأمازيغية بشمولية أكبر، واستحضارها في التدافع السياسي والترافع عن تجويد الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، من خلال استحضارها في نقاش الثروة الوطنية، وفي نقاش ضرورة تجويد التعليم بجعل اللغة الأم الأمازيغية محورًا في المنظومة التربوية والسياسة التعليمية، وفي نقاشات التنمية باستحضارها كشرط للقضاء على التباينات المجالية التي رسختها فكرة الدولة اليعقوبية، لتكون الأمازيغية حاضرة في أي نقاش يخص العدالة المجالية، وكذلك في نقاشات العدالة والقضاء”.
وسجل الحقوقي ذاته، في تصريح لهسبريس، أن “الرابط بين الأجيال الحالية والأجيال الأولى للحركة الأمازيغية هو رابط تكاملي، فالجيل الحالي يكمل ما بدأه الأول بتقوية حضور الأمازيغية في كل النقاشات المرتبطة بالحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، واستحضارها في كل سياقات الترافع والنضال من أجل مدنية حديثة”، وزاد: “ساهمت التقنية في خلق أشكال نضالية جديدة تختلف عن الشكل الكلاسيكي المعروف، إذ أتاحت الثروة الرقمية إمكانية جعل الأمازيغية تحظى بمكانة في صيغ الترافع الرقمي بدل أشكال الاحتجاجات التقليدية، على سبيل المثال”.
وختم بوتكمنت: “الجيل الحالي يكمل مسار الجيل الأول بتكامل فريد. ولا قطيعة بين الجيل المؤسس للبنة النضال الأمازيغي وهذا الجيل، بل إن كل ما نعيشه هو تطوير لوسائل وشكليات التعبير عن ضرورة تبوؤ الأمازيغية مكانة أساسية ومحورية، وهو شكل من أشكال النضال الديمقراطي المميز للنضال الأمازيغي. فإذا كان الجيل الأول نجح في الترافع والنضال لإعادة الاعتبار للأمازيغية بجعلها محور الهوية الوطنية فالجيل الحالي عمل على جعلها هوية تداولية في كل مناحي الحياة العامة”.
المصدر: هسبريس